الكاتب المغربي العابر الى الأعماق 2
محمد برادة ناقد جامع لتعددية الرؤى
زهرة زيراوي
الروايـــــــة هي المخرج
بعد أن تحدث الأديب محمد برادة عن أزمات عاشها المثقف، تابع قائلا
أدركت أن أوهاما كثيرة تختلط بنظرتي إلى قدرة الأدب على التغيير… وأدركت في الآن نفسه أن ما كتبت من مقالات وبحوث نقدية لا يقربني من معرفة ذاتي واستيعاب ما عشته لاهثا، متعجلا، منساقا وراء الشعارات والتفاؤل المطلق.
ومن ثم حاصرني شعور قوي بأن كتابة رواية هي المخرج من أزمتي،وهي الوسيلة لفهم ما عشته من مغامرات وأحداث، وكلما اختزنته الذاكرة. وعندما بدأت في مطلع الثمانينات كتابة الرواية لعبة النسيان ، كانت قد تبلورت لدي قناعة اللجوء إلى حرية الكتابة حتى أتمكن من المقاومة وأنتهك الحدود المصطنعة بين الواقع واللاواقع، بين الملموس والمحلوم به. وسرعان ما تحولت مغامرتي الروائية إلى لعبة تسعفني على استحضار التفاصيل، ورسم الشخوص والفضاءات والاستمتاع بالكلام ومستويات اللغة المتعددة… و انطلاقا من مفهومي لمشروعية التعدد داخل اللغة و ظفت عناصر من السيرة الذاتية في لعبة النسيان لجأت أيضا إلى التخييل، لتحرير الكتابة من قيود الإفضاء ب حقيقة ما وفي عودتي إلى استيحاء طفولتي بمدينة فاس خلال الأربعينات، فوجئت بلغة الأم، لغة
الكلام والتواصل اليومي في أحياء وأزقة فاس القديمة،تنبثق من أعماق الذاكرة واللاشعور،
لتفرض نفسها على الحوار،وعلى وصف بعض الفضاءات التي لا يمكن فصلها عن بعض
الكلمات. ورغم أنني تعلمت في المدرسة الابتدائية باللغة الفصحى،فإن لغة الأم في الحقيقة
هي اللغة الدارجة التي لها وشائج قوية بالفصحى، إلا أنها تمتلك خصوصيتها وتعبيريتها
من تلقائية الطفولة، وحضور الأم ونكهة التلفظ وأنثوية الصوت… وهذه التجربة مع لغة
الأم، نبهتني إلى مشروعية التعدد داخل اللغة الواحدة، وإلى وظيفتها الفنية والدلالية في
الكشف عن أبعاد الشخصية الروائية والتقاط ملامحها المميزة. في ظلال الطفولة، وانبثاق
لغة الأم المكبوتة، ثم انتقلت مغامرتي الروائية من محاولة استيعاب الأزمة والتحولات
الاجتماعية والسياسية المتسارعة، إلى النبش في الأعماق، ومسرحة الذات والذاكرة. أدركت أن الرواية لا تقبل بأن تظل على السطح، ولا ترضى بالحدود، بل هي كلية أو لا تكون.
ذلك أن الرواية تولد ديمومة مختلفة عن ديمومة الزمن التعاقبي الذي نتوهم العيش
داخله. تزول الفوارق بين ماض، وحاضر، ومستقبل، لتخلق الرواية كثافة أخرى متماسكة
وفاعلة في السر، هي التي تقود الشخصية الروائية لتستعيد وعيها بقوة الزمن و
وهشاشة الكائن، ومن ثم التحايل على لا معكوسية الزمان، ومحاولة استعادته بأشكال
مختلفة، و في لعبة النسيان لم أكن منجذبا إلى الماضي في حد ذاته، بقدر ما كنت
مشدودا إلى صور الماضي بجمالها الطفولي وفضاءاتها الميثولوجية المتعالية على الزمن
العادي. هكذا، أمام تدهور الزمن الحاضر وانسداد آفاقه، كان زمن فاس المقترن بالطفولة
يمنحني شعورا بأن كل شيء متصاعد وممكن إدراكه. ومن ثم تكتسب فاس صفة الرحم
، ويغدو حضور الأم في لعبة النسيان ذا رمزية أساسية وملتبسة، لأنه يجدد التدفق
الحياتي ويهبنا القدرة على الاندهاش والتصالح مع الذات.
ــ الروائي يقرأ الظواهر والأفكار ــ
كما أكد محمد برادة في هذا اللقاء على حمولة الأديب قال
لا يمكنه أن يكون أحادي النظرة، أو أحادي اللغة أو أحادي الفكر. بمعنى أن الرواية تقوم أساسا على إفساح المجال لنستشعر كقراء تعدد الرؤى، وتعدد اللغات من خلال الحوار، والمونولوج. يمكن للمحلل أن يلمس تعدد الخطابات القائمة داخل المجتمع، كما يمكنه أن يقرأ ربما وجودها من المعجم السياسي، والثقافي، والاجتماعي، في الفترة التي يحيل عليها النص. لذلك فإن هذا التصور للرواية القائم على تعدد اللغات، وتعدد الأصوات وتجنب إصدار الأحكام الأخلاقية القاطعة. هذا التصور للرواية يستلزم ألا ننسب للروائي ما يرد على لسان السارد. لأن الروائي يقدم عناصر تقرأ الظواهر والأفكار دون أن يفرد وجهة نظر معينة.
حدائــــــــــــــــق الذاكرة
و في حديثه عن تجربته الروائية يحيلنا على ما قاله حنا مينة لفتاة جاءته يوما تطلب منه أن يراجع عملها الروائي، فطلب منها حنا مينة أن تعود إليه بعد شهر، ثم كان أن أتم عملها في ليلة واحدة. فتساءل
ـــ لماذا أمهلتها شهرا؟؟…
ينتظرها إلى أن تعود و يطرح عليها جملة من الأسئلة، منها
ـــ هل قرأت لرواد الأدب العالمي….؟ تجيب لا
ثم يسألها
ـــ و ماذا عن تجاربك في الحياة هل جربت كذا و كذا؟؟ ترد لا
يمد لها عملها و يقول لها
ـــ جربيها جميعها ثم اكتبي
برادة يقف مع حنا مينة على نفس الجسر إذ يقول
كانت سني متقدمة نسبيا، عندما كتبت روايتي الأولى، وقبلها كتبت مجموعة من القصص
لكنني كنت قد قرأت الكثير من الروايات العربية والعالمية، وتابعت الجدالات الأساسية
حول الرواية وإمكاناتها التعبيرية. لذلك لم يكن من الممكن أن أكتب بطرق تقليدية أو أن
أشغل بالي بالنقاش العقيم حول استيراد الشكل الروائي إلى الأدب العربي،وضرورة
البحث عن شكل خاص بثقافتنا بعيدا عنها، كنت أعتبر الرواية جنسا أدبيا عالميا يغتني
بكل التجارب، والتحققات النصية،ويمدنا بإمكانات للكشف عن الذوات المغيبة ورفض اللغة الأحادية الآمرة، واعتناق النظرة التنسيبية بدلا من الأحكام المطلقة.
يضيف الأديب برادة
إلى الحمولة يأتي التخييل، في بعض تجلياته، تشكيك فيما هو قائم، ودعوة إلى إعادة النظر،
ومحو للحدود المصطنعة بين الواقع والمحتمل. وأنا أنتمي إلى جيل له ذاكرة مثقلة، ومحاط بتاريخ منسي ومحرمات كثيرة تخصي دفق الحياة. ولعل ذلك ما جعل كلا من
روايتي لعبة النسيان و الضوء الهارب تأخذان منحى متشظيا رغم الحرص على
تنظيم الفوضى الجميلة المنحدرة من مسارات الذاكرة وقفزاتها. وأعتقد مثل بعض الكتاب
والنقاد أننا لا نستطـيع أن نحاكي شيئا، أو عالما أو شخصيات… ما يهم الروائي هو أن
يكتب ذاكرته، ومن ثم مواجهة متاهات التذكر والنسيان وزئبقية الزمن ومحدودية اللغة.
وأظن أننا بهذا المفهوم، لا نستطيع بعد أن نزعم تخصيص قيمة معينة لنص روائي نكتبه
ما أطمح إليه، وهو أقرب إلى بوطيقا الذاكرة، هو اعتبار جميع المواد الخام التي يوظفها
الروائي مواد متساوية يصعب التمييز في درجة أهميتها، وهي تتظافر جميعها في التعبير عن رؤية، ونسج فضاء وخلق شخوص وكلام… من هنا أهمية تذويت الكتابة الروائية. وأنا لا أقصد بالتذويت الاقتصار على استيحاء ذات الكاتب، بل ألح على حضورها متفاعلة مع ما يحيط بها، ومع ما يشكل ذاكرتها المتشابكة والمتعددة، المعيش، والمحلوم به، والكامن في اللاوعي، والنصوص المقروءة، والمحكيات المسموعة، والصور المشاهدة… وأظن أنني حققت شيئا من ذلك في روايتي الضوء الهارب التي أخذت مدا واسعا من التخييل داخل فضاء طنجة المؤسطر، وداخل ذاكرة البطل العيشون الرسام، تتلاقى ذاكرات وفضاءات أخرى تمتح من مراكش وفاس وباريس، وتمتح من أسئلة الجنس والحب والإبداع والموت وهوس اللامرئي والمقدس، وتقترب من الفضاءات الغربية لتعكس بعض ملامح إحدى شخصيات الرواية فتجسد حالة نفسية عاشتها فاطمة في منفاها الباريسي…
أظن أن هذه الإمكانات التي تقدمها الرواية، هي التي أتاحت لمجموعة من الكتاب في المغرب وفي العالم العربي أن يبدعوا نصوصا متمردة على اللغة المتخشبة، وعلى التحليلات الرسمية الجوفاء التي تستهدف إبقاء المواطن العربي داخل سجن وصاية أبدية. لأجل ذلك أراهن، مثل الكثيرين، على أن تكون الرواية مدخلا مضيئا يسعفنا على قراءة ذاكرة الإنسان العربي، وهمومه عبر متعة التخييل وإعادة تشكيل اللغة وتجديد المتخيل الاجتماعي.
ــ استحضار لما نظنه أنه انقضى ــ
امرأة النسيان أو لعبة النسيان ، النسيان دلالة واضحة في العملين معا، يقول الأديب برادة
هذا ناتج عن علاقتي بكتابة الذاكرة، أي فيما حاولته من أعمال روائية كنت أحاول أن أكتب ذاكرتي، هي كتابة تستدعي أيضا التخييل، والتخييل بدوره يقوم على بياضات وفراغات، هذه البياضات يحدثها النسيان.
محاولة القبض على الزمن كلها عناصر تندرج في كتابة النص الذي أسميه كتابة الذاكرة ، وهذه الكتابة تختلف عن الكتابة الواقعية، في أنها لا تتقصد استنساخ ما عشته، أو ما عانيته أو ما اختزنته ذاكرتي. لكن كتابة الذاكرة هي مجال للتحوير، للإضافة، للبحث، التركيز على النسيان. يعني أيضا أن له دورا معينا في الحياة، إذ لا يمكن أن نعيش بذاكرة ممتلئة كل الوقت. في واقع الأمر هناك النسيان الذي يسعفنا كي نحيا، كي نتحمل المواجع أو الملل، كل الذي عبرناه يوما، أن نتحمل الشعور بالعجز أمام قوة الزمن وسطوته. إذن النسيان يمكن أن يحمل دلالات متعددة،تحيل على اشتغال الذاكرة، وتحيل على بعض الدلالات الفلسفية فهناك فلاسفة اهتموا بالنسيان.بهذا المعنى النسيان هو وسيلة للتفكير فيما هو غائب، وهو أيضا استحضار بعض ما نظنه انقضى، ولكنه يعود بشكل من الأشكال، وهو ملازم أيضا لما تشتغل عليه الذاكرة.
في النص الأول لعبة النسيان وفي الثاني إمرأة النسيان ، النسيان يصبح عنوانا يستدعي القارئ أن يفكر فيما لم يقله النص أيضا، نحن حاولنا عمليا أن نزعم بأننا نكتب ما قد عشناه بدقة، وقد ننسى الكثير من هذا السؤال، سؤال النسيان أصر على النسيان لتأكيد دوره في الكتابة، أي لا نكتب الأشياء التي يمكن أن نقول أنها مؤكدة، وثابتة. أو لا يمكن أن نزعم بأنه مؤكد. هذا النسيان نفسه هو الذي يساعد الكتابة الفنية، إذ يخرجنا من إطار الواقع الضيق، ويسمح للغة أن تتحرر من استعمالاتها المألوفة، إنه يتيح تخيل أشياء ربما لم تقع،أو هي قريبة من الوقوع. مسألة النسيان بالنسبة لي هي نوع من الإقرار بما عشته، وبما لم تتحمله ذاكرتي.
فما عشته يفضي إلى أسئلة ترج، أو تزحزح الذات، يقين الذات، أو انتساب الذات…
النسيان في هذه الحال يصبح اللجوء إليه تميمة للذاكرة المهددة بالنسيان، استعادة المتمنع الذي يظل بمثابة جزيرة مضيئة، هذا المتمنع الذي يحرك الكتابة في أعماقنا.
كتابة تاريخ آخر
يتناول الأديب محمد برادة هذا التاريخ الآخر موضحا
نجد اليوم أن أحداث التاريخ تميط اللثام عن أحداث تهدم، أو تزحزح ثوابت كانت.
وفي نظري أن المبدع له مواقف أخرى، بمعنى أنه ينطلق اليوم من منطقة تخلو من اليقينيات، أو من الثابت، ويحاول أن يتلمس ما يحدث في الحياة اليومية ما يحدث داخل النفس البشرية، ما حدث في العالم. إذا كانت له علاقة حقيقية مع التاريخ، فهي علاقة مع ما يمليه التاريخ. الأشياء التي تبدو هامشية، الاهتمام بتاريخ الذاكرة. كيف يهتم المبدع بتاريخ ذاكرته، بالاسترجاع، كيف يمكن أن يؤرخ للتاريخ من خلال هذه الذاكرة.
هذه المتاهات هي التي تسمح بقيام نص أدبي متحرر، من لغة الحسم التي نجدها عند المؤرخين.
معرفة وجهة التاريخ لم تعد واضحة كما كانت، عندما كانت الفلسفة الماركسية تقول
إن التاريخ يسير نحو العلم فيحقق ما يصبو إليه الإنسان .
ــ ماذا نستطيع أن نقول في كيمياء لحظة العجز؟…
ينهي الأديب محمد برادة حديثه في هذا اللقاء بجواب عن سؤال له
ماذا نستطيع أن نقول في لحظة العجز؟؟….
هناك فرق كبير بين 1958 التي كانت توحي لنا بأن المجتمعات العربية لها أفق يتوخى أن
يجاوز بين قومية متحررة ومجتمع اشتراكي. حرية مسؤولة للأفراد، وبين اللحظة التي
نعيشها الآن، لأننا الآن نبدو وسط كيمياء من التحولات المتسارعة، والمتصارعة،
والمختلفة، المطبوعة بالارتداد إلى الوراء وفقدان البوصلة. ما أستطيع أن أفعله في الزمن
الراهن، في الحدود الضيقة هو أن أحاول التمسك بقيم الاستنارة، والبحث عن أفق يبرر
وجود الفعل السياسي المناهض لاتجاهات تريد أن تخنق حريات الناس، اللحظة نفسها
يمكن أن نسميها لحظة خوف، لحظة ضياع، لحظة خيبة، مشروع العدالة والنهوض،
لحظة مشروع قومي عربي.
نحن الآن ككتاب، كمثقفين نحاول أن نفهم ما حدث.
ما الذي قادنا لكل هذا الانحطاط؟؟؟ ..
بمعنى العجز عن الفعل، العجز عن الخروج من وصايات المجتمعات المتقدمة الكبرى، العجز عن تبني ما نريده من المستقبل.
ماذا نستطيع أن نقول في كيمياء لحظة العجز؟…
بقدر ما أقارن مع ذلك الماضي الجميل، بقدر ما أستشعر أن هناك تحولا يزرع القلق في النفوس، ويدفع للبحث عن ما يعطي معنى لحياتنا، ووجودنا. وأيضا نحن أمام الرجات والخيبات والحروب والهزات القوية التي يعيشها اليوم العالم.
ثلاث لغات على جسر واحد
في هذه الجلسة الأدبية تمت ثلاث قراءات بثلاث لغات آخذة شكل الحوار تم اختيارها من أعمال الأديب برادة العربية، الفرنسية، الألمانية.تناولها كل من الشاعرة الفلسطينية بيسان بالفرنسية ود.محمد برادة بالعربية و د.محمد آيت الفران بالألمانية. واتخذت القراءات الثلاث شكل تساؤل
أي وطن هذا الذي نحلم به؟؟
يتضح الجواب على هذا السؤال الذي يطرحه الكاتب فيما يوضحه عبر هذا السياق
المدينة فارغة بعد ظهر هذا الأحد، ولن تعثر على مثقفينا وأدبائنا في
المقاهي، أو على كراسي الحدائق. فهم قابعون داخل البيوت، أو مغيبون وراء الجدران… والبعض الآخر يتكلمون من وراء المذياع، أو عبر شاشة التلفزة، أصوات باهتة، فقدت النسغ والحرارة، وبالأمس القريب كانوا يلتقون بالناس ويشاطرونهم حيرة السؤال، وينتقدون الخطاب السائد… واليوم هاهم يرتقون المنصة وينضافون إلى الديكور .
ينتهي اللقاء ونقف عند ما يصف به الأديب محمد برادة المرحلة
إننا نجد اليوم أن كثيرا من الأعمال الأدبية العربية هي أعمال سوداوية، إنه انبهام الآفاق .
أننا الآن كمن يحيا عدما.
فما معنى رحلتنا على الأرض؟؟
أليست اللحظة قاتمة؟؟..
AZP09