الكاتب المغربي العابر الى الأعماق 1 2
محمد برادة من الوعي الستيني إلى مغامرة الكتابة
زهرة زيراوي
د. محمد برادة هو أحد أهم علامات هذا العصر في الوطن العربي. والمتتبع له يصعب عليه أن يضعه في خانة معينة، ذلك لأن له مجموعة أعمال تراوح بين البحث، والنقد والكتابة الروائية والترجمة أيضا، ففي مجال الترجمات النقدية نقرأ له الدرجة الصفر للكتابة لرولان بارت، وفي ترجمة الإبداع الربيع وفصول أخرى لــ لوكليزيو كما ترجم كتابا للفيلسوف محمد عزيز لحبابي الذي شاركه في ترتيب بيت اتحاد كتاب المغرب بدأ التأسيس، وهو أيضا راصد للحركة الأدبية في العالم الغربي عامة، وفي الوطن العربي خاصة، نتابع ذلك عبر جريدة الحياة اللندنية و غيرها من المنشورات، إلى هذا يمتلك مجموعة أعمال أدبية، راوحت بين القصة القصيرة والرواية، وقد اشتغل على لغات متعددة، راوحت بين الفهم السياسي المتقدم الذي يترك آثاره متسائلة فينا، وبين عناصر فنية أهمها، التشكيل، ونقل لعبة الضوء والظل إلى عالم الكتابة الروائية والقصصية، متأثرا في ذلك بعلاقته مع الفن البصري التصويري من جهة، وبالطروحات الفنية الأدبية في الجلسات الحميمية مع مجموعة من أصدقائه الكثر من الفنانين والأدباء. فعندما يجتمعون يتم التجاسر بين قلقين قلق الأدب وقلق الفن، بين شغبين شغب أدبي وشغب فني، فيذكرونك بالحركة الشعرية الفنية التي طبعت قرنا بأكمله، وأعني الحركة السوريالية. الملفعة بالواقعية
لا يمكن فصل الأديب محمد برادة عن مرحلة الوعي الستيني، تطالعنا في هذه الفترة جماعة من الشباب لها عوالمها في الفلسفة و الأدب والنقد عزيز لحبابي، محمد برادة، عبد الكريم غلاب…الخ أدركوا جميعهم أن النص الأدبي أو الفلسفي أو الفني بل و العلمي هو أثر حضاري ينبغي العمل من أجله
نسافر نحو الماضي، باتجاه خمسين عاما، إلى ما أسسه رواد هذه الفترة، لنقف على التحولات الثقافية و الفكرية عامة، وكيف تحقق الميل نحو ثقافة حداثية، تُعلي من شأن الإشكالات والأسئلة الرائجة في الحقل الثقافي الغربي، وتضميخ النص العربي بذلك، ومد الجسر بين المثقف المغربي، ومثقفي العالم العربي، وفتح نافذة على ثقافة الآخر، يعود بنا الأديب محمد برادة في حديث معه إلى ذكريات تأسيس الاتحاد، وإلى التحولات السياسية التي حدثت بعد الاستقلال، وبخاصة الاختلاف حول تدبير الشأن السياسي، وما أعقبها من تأثير في الحقل الثقافي، ومن بروز تيار حداثي تقدمي، أسهم في تأسيس تصور جديد لعلاقة المثقف بالمجتمع، قوامه الارتباط بقضاياه المصيرية التي هي حرية التفكير وحرية التعبير أساس هذا العمل.
كل هذا يطالعنا عبر هذه الجلسة التكريمية التي قامت بها جمعية ملتقى الفن ببروكسيل بإحدى صالوناتها الثقافية احتفاء و تكريما للأديب الدكتور محمد برادة
محمد برادة الذي كنا نلتقي به في الرباط، و فاس، و طنجة، و البيضاء. أو بمكتبة بيت العلوم الإنسانية، هذا البيت الخاص بالبحث الآكاديمي في مجال الآداب والعلوم الإنسانية بحي راس باي بباريس نلتقي به أيضا في بروكسيل احتفاء بأعماله الإبداعية و النقدية
حضر هذا اللقاء كل من السيدة حواء الجبلي، والسيد علي خدير، مديرا المركز الثقافي العربي ببروكسل، كما حضر اللقاء مجموعة كبيرة من الطلبة الباحثين بجامعات بلجيكا.
وحضر هذا اللقاء الناشر البلجيكي الأستاذ ألان تريميزو مدير دار إقناع بمدينة مونس.
قدَّم د. محمد أيت الفران من جامعة هايدن برغ بألمانيا ورقة تعريف بالأديب محمد برادة، و تحدث عنه وهو طالب بمدارس محمد الخامس بالرباط مع نخبة من الطلبة يومها، طلبة مناضلون عبروا عن رفضهم للاستعمار الفرنسي، وأشار الدكتور آيت الفران إلى أن الأديب برادة كان موثقا لكل ذلك في أعماله الأدبية، كما كان موثقا لصراع الأحزاب على السلطة في أعماله الأدبية، وتشهد جملة من أعماله على خيبة الأمل المحلوم به أيام النضال وفترة الاستقلال.
كما تناولت زهرة زيراوي دور الأديب محمد برادة في الجامعات المغربية مراكش، فاس، الرباط، وغير ذلك من الجامعات المغربية، وأشارت إلى تأثيره في طلابه، كما تحدثت عن دوره في اتحاد الكتاب وسعيه لاستمراره نشيطا، ومحاولة استدراج الأدباء الشباب إلى الاتحاد، وتفعيل دورهم فيه عندما كان رئيسا للاتحاد. مع زمرة من الرواد عرفتهم المرحلة
محمد عزيز لحبابي، محمد برادة، عبدالكريم غلاب، عبدالجبار اسحيمي إلى آخر الرواد.
وتابعت إننا نقف في هذا الشطر الوارد بمجموعته ودادية الهمس واللمس أمام عدته التي استعارها من علم الاجتماع، ليكشف بها ما ينتاب الحياة الاجتماعية، والمؤسسات الحزبية، والإدارية، وما يتناسل في دروب اليومي. هنا نجد الوتر الذي يعزف عليه برادة هو ليس فقط الوتر النفسي، أيضا الوتر الذي يسافر بك حيث ترى ما في محيطك الاجتماعي من حيوات هشة، مفككة، لكنها براقة، وأخاذة، بتأثير أصباغ المكياج ، شبيهة بأجنحة فراش، ما أن تضعها في كفك، حتى تتحول إلى مجرد غبار، يتصاعد، ولا يُبـْـقي من ذراته في يدك شيئا.
يطالعنا سحر الموضوع في قصص محمد برادة وتشدنا قوة اللغة، واختيار العبارة، والقاعدة اللغوية التي اشتغلت عليها حمولة النص عبر هذه المقاطع يتضح ما أريد قوله اللام التي تضمر حتاها في لعبة الكتابة.
برادة يفتح بابا فسيحا في مجال التطبيق، ليكشف لنا عن النحت داخل اللغة، وكيف يتم اللجوء إلى ضيق العبارة كلما ضاقت العبارة اتسع المعنى ها هو في إحدى الصياغات اللغوية يوظف اللام في مدلولها التحليلي، نقرأ في قصة خلف جدار من زجاج
اشرب، اشرب، اشرب لتنسى المسوخ وزمان النحس
لنلحظ الاعتلال في فعل تنسى فلو كانت اللام هنا الداخلة على الفعل المعتل هي لام الأمر، لتأثر آخر الفعل باللام الداخلة عليه، وحذف آخره. لكن برادة يصر على أن تكون اللام هنا هي اللام المضمرة لحتى، و كلنا نعلم أدوار حتى في اللغة
اشرب حتى تنسى
حرف العلة الآن في آخر الفعل، غير محذوف، وبالتالي تظل الدلالة مفتوحة على معنى أوسع
اشرب، اشرب، اشرب، اشرب حتى تنســــى
قد تشرب ويدركك الصباح ولا تنسى
ألم لا تصوره عدا هذه اللام التي تضمر حتاها
القصة في عباءة الشعر
إلى هذا النحت اللغوي، النحت داخل قواعد اللغة يأتي النحت الشعري، فنجد قصصا مفعمة شعرا، وكأنه أراد القول نحن العرب أمة الشعر، فليكتب الشعر القصة القصيرة أيضا. ليكن حاملا لمعناها كما كان البحر الطويل دائما نهرها الحميمي. اسمعه في قصة امرأة شاي ومدينة
أدم كفيك في كفي
أدم خدرا لذيذا
مرحا تطوقه الأجساد
خارج العتمة
مسرة تنمو
لتنتشر على حبال الشمس
عفن الصمت المتلاف
إلى جانب هذين النحتين، نتساءل كيف يمكن استخلاص الصور الحسية، أو التعبيرية، من المقطع الشعري.
وتمتد فرشاة اللون و اللغة، إلى هذا المرح الذي تطوقه الأجساد لتحوله إلى عمل صباغي؟…
هكذا يلقى محمد برادة درسه البليغ في النحت اللغوي داخل القصة.
كيف تنحت القواعد؟
كيف تنحت الشعر؟
كيف تنحت الصورة التعبيرية؟
كيف تنحت الضوء و الظلال؟
هذه الهواجس استحضرتها مجموعة ودادية الهمس واللمس واشتغلت عليها بعمق.
إننا أمام الذات المنفلقة إلى شطرين ما يجري في العالم وهذا تعكسه عدة علم الاجتماع ، وما يجري داخل النفس الإنسانية، بمعنى البعيد فينا، هذا الطاحون اليومي الذي تحياه الذات، تبقى اللغة بمحاميلها النفسية والاجتماعية هي الحامل والمحرك في دورة التكنيك السردي، وتبقى الرواية عند برادة بشقيها معا أسلوبا شيقا، وممتعا، يحيلنا على ما كان يسميه الأجداد بالمثقفات، أو الحوليات.
إنها كتابة تحذر ركوب الموجات السريعة، وتتريث، لترى إلى أي حد يستطيع النص أن يصمد، وأن يحيا في تلافيف الزمن.
النص والسؤال الوجودي
يرى الأديب محمد برادة أن الكاتب الحقيقي هو من يتجاوز العابر إلى العوالم النفسية و أوضاعها الاجتماعية، و السسيولوجية، والفكرية. فيميط نصه اللثام عنها جميعها، هذا ما يؤكد عليه برادة في علاقة النص باللفظ، يقول
الأديب هو النص، النص بديل الذات، الذات في بعدها الكوني، الذات المنتج للمعرفة و للسؤال الوجودي.
برادة الذي قاده أنفه بلغة زوسكـيند منذ سنوات إلى أقصى الأماكن مبعدا إياه بالتدريج عن الوطن، عن الأشقاء .. جارفا إياه بقوة متزايدة نحو نقطة هي قطب العزلة، نراه في حي راس باي ببيت البحث الأكاديمي،… قرب نفسه، مستغرقا استغراقا كليا في معنى وجوده الذاتي، يسائل تشيخوف وإيتالو سفيفو، وغيرهما من المبدعين الكبار. نقرأ هذه المطارحات العميقة في أسعدت مساء تشيخوف ص 33»38 حيث نحس هنا أننا أمام فيوضات السارد، معه في عزلته المتأملة، أمام خيبة الذات و هي تتأمل المكان على بعدها وجوديا ووجدانيا
ــ آه من الأصدقاء يا أنطوان تشيخوف
يفهم تشيخوف ما يعنيه السؤال… ما يعتري العلاقات… ما يعتري العصر، فيرد عليه
ــ سأظل أردد كل حين
هلا أدركتم إلى أي حد تعيشون عيشا سيئا، وإلى أي حد حياتكم كئيبة ومعتمة … فهل في ذلك ما يدعو للبكاء؟..
فيرد عليه السارد
ــ لا مناص من خلق لغة أخرى لتتحرر الألسنة، والأسماء، وتستعيد الكلمات قيمتها صديقي تشيخوف.
هذا الوتر الذي يعزف عليه فيوضاته، وسؤاله العميق، يظل منذورا لهذا دون غيره، نسمعه في قصة مثل أيام آتية ص 83، حيث البطلان هنا عازف من طنجة، وفنانة تشكيلية من أنفرس شاء قدرهما أن يرتبطا بعلاقة حب قوية، وأن يظلا يحلمان بأن يلتقيا في يوم ما ،.. في أيام آتية، فيستغرقهما تأمل الآتي، نرى أحدهما عندما يناوشه الماضي ليذكره بأسباب وجوده، وارتباطاته، يسائل هو بدوره هذا الماضي.
ــ في أي شيء يجدي أن نستعيد مراحل حياتنا؟ ..
فالبطل لا يذكر من ذلك الماضي، سوى انفصال السريرة. يقول السارد
ــ … خلال شتاء المدينة الطويل، تعصف به نزوات، فيقبل على الشرب، ويبحث عن المتعة العابرة، لكنه سرعان ما يعاود إيقاعه المعهود اللاهث، وراء ملامح ذلك المطلق الذي عشش بأعماقه، منذ أن أخذ يعي انفصام السريرة عن ظواهر العالم . ص 85.
ــ ما جدوى أن يرتب في ذاكرته ما تراكم وتشابك؟…
على ذات الوتر يعزف برادة في النص الأخير للمجموعة الكاتب والمأمور . ص108.
ــ هل ما تعانيه بتأثير الشيخوخة؟؟.
ــ ربما، لم أفكر في ذلك.
ــ عندما نحس أن كل شيء قد حدث بما في ذلك ما سيحدث غدا… غياب كلي للمستقبل .. إنه مجرد حاضر متواصل. .
بعد هذا فتح باب الحوار ما بين الحاضرين والأديب محمد برادة، نقف عند هذه المحطات في هذا اللقاء مع الأديب حول الرواية و مستقبلها و غير ذلك من قضايا الإبداع عامة
المغــــــــــــامرة الملتبسة
يبدأ الأديب حديثه عن حلم الستينات و ما راود مثقف تلك الفترة يقول
في بداية الستينات، لم تكن توجد بالمغرب شروط تساعد على الكتابة أو على احتراف الأدب، خاصة لمن يريد أن يكتب باللغة العربية. كانت النصوص القليلة التي قرأتها، وأنا بالمدرسة الثانوية، هي لكتاب مغاربة درسوا وأقاموا فترة طويلة بمصر، أو لآخرين تأثروا بالنهضة الأدبية والفكرية في المشرق العربي واندمجوا في الحركة الوطنية المقاومة للحماية الفرنسية… كانت النصوص الأدبية المغربية المكتوبة بالعربية آنذاك، امتدادا واستيحاء للنضال من أجل الاستقلال ومن أجل بلورة ثقافية وطنية تنتمي إلى الثقافة العربية الإسلامية. بعد عودتي من القاهرة سنة 1960، حيث أكملت دراستي الجامعية، كنت أحمل وزملاء آخرين، قناعة الدعوة إلى تجديد الأدب المغربي المكتوب بالعربية والتبشير بالأدب الملتزم القادر على تغيير الواقع… كان سياق الفورة الحماسية المنبثقة عن تحقيق الاستقلال يجعل كل الآمال والآفاق مفتوحة أمامنا. لم نكن نكتب كثيرا، بل كنا نحاضر ونتجادل، ونتحاور، ونحتضن الآراء الجريئة في وجودية سارتر، وحداثة مجلتي الآداب و شعر اللبنانيتين. كنا نعتقد بأن الكلمة سلاح فعال، وضروري لتثوير المجتمع…
بعد الستينات كان حلمنا هو التبشير بالأدب الملتزم القادر على تغيير الواقع… كان سياق الفورة الحماسية المنبثقة عن تحقيق الاستقلال يجعل كل الآمال والآفاق مفتوحة أمامنا.
الكتابة مغامرة ملتبسة بطبيعتها وأبعد ما تكون عن المهنة المضمونة التي يمكن أن تكون مجالا للاختيار الإداري المحض. وعبر دروب متعرجة، ومتشابكة، نصل إلى الاقتناع بضرورة اللجوء إلى الكتابة. وغالبا ما نلجأ إلى الكتابة عندما نتبين أننا لا نستطيع أن نغير العالم كما كان يقول جان جونيه.
AZP09