القطار
سافر يوسف وحده راكبا القطار ، لم يصحب معه احدا ، حتى لم تكن معه أية امتعة سوى افكاره ، ركب في كابينة لوحده ، لم يوجد فيها احد ، حجز جميع مقاعدها لكي لا يشاركه أي شخص ، نظر من خلال الزجاج الى المسافرين الذين ما زالوا خارج القطار ، قال مع نفسه ، هل كل هؤلاء قاصدون وجهتي نفسها ؟ اذن اقدارنا واحدة ، وان تعرضنا لحادث هذا يعني صفحتنا واحدة وقدرنا واحد ، هذا اول سؤال القاه على نفسه وتعب من اجابته واستسلم لقوته حتى حاول نسيانه .
صفر القطار صفارته وهرع المسافرون للداخل ، اطلق انينه وبدا يتحرك بسذاجة موهنة ، كأنه تعب ، تحرك بتأن كانه لا يريد المسير ، سرح يوسف بافكاره مستوحشا كل شيء ، خائفاً من لا شيء ، كان القطار مزدحما بالمسافرين وبين الفينة والاخرى يقطع سلسلة افكاره احد الاشخاص مستاذنا منه بالسماح له بالجلوس في الكابينة الا انه يرفض ذلك ، حتى النساء لم يؤذن لهن ، كثير من النساء أردن الجلوس معه الا انه رفض وبشدة .
يعرف بانه ارتكب خطا عندما رفض بايواء المسافرين معه ، لكنه لم يستطع مشاركة أي شخص بحياته حتى ولو لبعض الوقت ، كان يقذف افكاره كحمم بركانية ، افكاره ساخنة نعم ، اليست تخرج من ذاته الملتهبة، يا ترى هل يسير القطار ام نحن الذي نسير ، هل هو واقف ونحن نجري ام العكس ، هل افكارنا هي من تسيره ، لو امعنا التفكير وحاولنا ايقافه بخيالنا هل سيتوقف ، وما معنى الحقيقة ، اليست الحقيقة سابقا كانت خيال ، الم يكن هذا القطار خيالا قبل ان يصنع ، فكر المصمم بخياله كيف يكون شكلة وكيف يعمل ومن ثم قام بتصميمه ، اذن الخيال اساس كل شيء .
فلماذا اذاً يعيبون علي لاني دائما افكر واعيش بوهم اسمه الخيال ، هل لاني افرطت في ذلك ، الجميع تتخيل وتفكر الا انهم ينكرون ، نعم النكران هو من ينقذهم ، الذي يبوح بافكاره صراحة دائما يتعرض للتقريع ، لا استطيع تغيير انا ، اليوم رفضت الكثير من الناس من مشاركتهم معي في هذا المكان انه ملكي افعل فيه ما اشاء ، جاءت بنات جميلات عدة لماذا رفضتهن؟ يا لي من احمق ، هل يعقل ان ارفض مثل تلك النسوة ، لو لم ارفضهن لكانت الرحلة ممتعة ، …. لا ربما سيثرثرن معي وانا ارغب الصمت ، ترى ماذا قلن علي ؟ اكيد قلن انه انسان مغرور ، كيف لشاب يرفض تلك النساء ، يا له من احمق ، حقا ما يقلنه علي ، نعم انا احمق .
توقف القطار قليلا في احدى المحطات ، قال مع نفسه ، يا يوسف ان اقبلت فتاة جميلة هذه المرة وارادت مشاركتك غرفتك فلا تردها ، جمل حياتك بالفتيات ، لا تعش دائما مع افكارك ، حتى ذاتك الأنا قد سأمت منك جرب الحياة الواقعية ولو لقليل ، جربها يا يوسف .
سار القطار مجددا واصبح يصغي الى الباب لعله يطرق من شخص ما ، وبين الفينة والاخرى يقفز قلبه لانه يتراءى له صوت قرع الباب يحسبه فتاة قد طرقته لكنه سرعان ما يكتشف خطا حدسه ، فكر في مستقبله ، ترى ماذا سافعل في الغد القريب ، العمر يسير ، والسنون تتقدم وفي كل يوم افقد اشياء كثيرة ، حتى افكاري تتغير ، ربما لم تعد جميلة في المستقبل ، اه يا يوسف الى متى ستكون سجين ذاتك ، لا يجوز ان تبني حياتك على القراءة والكتابة ، الحياة لا تريد منك فقط افكار لا وجود لها ، عش كما يعيشون الشباب .
كسرت زجاج صمته بنت جميلة اعتنى الخالق برسمها ملكته من نظرتها الاولى ، لم تطرق باب كابينته ، فتحت الباب من دون استئذان ، لوحت بعينيها بالجلوس لم يستطع ان يقول لها كلا ، اراد ذلك لكنه ضعف وقبل ان يرفض جلست في وسط الكابينة ، نظر اليها ورجف لها قلبه ، لقد دخلت قلبه مع دخولها للكابينة ، اقتحمت ذلك القلب الذي طالما استهزأ بالحب ، كسرت ذلك القلب الذي كان يحسبه قطعة حجر ، لم يعرف ان الحجر تتهشم وتتحول الى غبار اذا ما تعرضت لصدمة قوية ، نعم لقد تهشم قلبه ، لم يقاوم سحرها .
نظر اليها برؤى حزينة ، لا يعرف لماذا؟ هل لانه عرف بان قلبه قد ضاع منه ، ام شك بانها احدى هذه محطات الحياة وسرعان ما ستغيب عنه حدثها دون تحية ما اسمك ؟
—- امل .
— ماذا تعملين ؟
— في الترجمة ؟
— جيد عمل ممتاز ، تحتاج الترجمة الى افكار وخيال واسلوب في صيغ العبارات .
— نعم .
كانت اجاباتها تدل على كبرياء وشيء من عدم اللامبالاة له ، دخل الخوف في قلبه مع دخول حبها ، شعر بصراع بين الرضوخ والانتصار ، ترى من سينتصر هي ام قلبه ، لم يدعها تدخل اليه ، لطالما صد العديد من النساء ، لا، لايمكنها الدخول ، ازاح بوجهه الى الزجاج لينظر الى الطبيعة رآها أمامه ، أزاحه لوجهة اخرى فراءها ايضا ، هرب ، ركض مسرعا ، لم يستطع الهروب منها ، فهي قدره وهل يستطيع الانسان الهروب من اقداره ، تمكنت اخيرا منه حتى وقع مغشيا عليه ، اعياه الهروب ، ليعترف خيرا بحبه لها .
نظر اليها نظرة انسان يستجدي الإحسان من الآخرين ، عيناه ترقصان في حدقيهما ، ضعفتا ، اما امل فعرفت كل شيء واحبت ذلك ، يا ترى كم عاشق قد صلب على بابك ، كم قلب ذاب في هواك ، لكي لم تكترث للوعة يوسف بين يديك ، واخيرا كسر زجاج صمته قائلا لها ……
—- امل ؟
— نعم .
— لقد دخلت قلبي ولا اعرف لماذا ، عندما شاهدتك قلت انت من ارغب بها ، انت من كنت احلم بها ، قبلك لم اكن افكر بالارتباط بانسانة ، لكنك قد ولجت في قلبي ، لم اكن اعرف باني ضعيف لهذا الحد.
نظرت اليه نظرة الطاووس المتكبر الذي ينظر الى عصفور لا يضاهيه بحسنه وجماله ، وقالت له …….
— اسفة ، لا استطيع الارتباط بك .
— لماذا ، قولي لي هل توجد اسباب تمنعك ؟
— لا ، لكن لا اراك مناسبا لي .
— تعرفي علي ، ستحبينني ، لا تقولي لا وانت لا تعرفيني ، استطيع لمس روحك وامتلاكها ، استطيع اسعادك .
— ربما تستطيع فعل أي شيء لكني انا لا استطيع .
— امل …. امل … امل .
ناداها مرات عدة ولم تجبه ، وكل صرخة يناديها تمتلك قلبه اكثر ، بقي مذهولا لحاله ، يا ترى لماذا رميت بنفسك يا يوسف بهذا الجب المظلم ؟
توقف القطار عند احدى المحطات ونزلت منه دون ان تلقي له تحية الوداع، ودعها بنظره، والاسف يتملكه، رجع الى حزنه وصمته الدائمين رجع الى خياله، ابتسم من كلام الـــناس وهم يقولون له عش الواقع ، الخــيال لا يفيدك، لقد عاشه مرة واحدة وتذوق مرارته، عاد للواقع ليجده مرا ، لا يطاق، صلبا لا ينكسر ، كسر قلبه واضاعه ، رماه تحت قضبان السكة ليدهسة القطار ، اما هو فقد عاد الى خياله من دون قلب كالحمامة تعود الى عشها وفراخها قد غابوا عنه .
سيف شمس الدين الالوسي – بغداد
AZPPPL