القصيدة بين العروض والإيقاع
عوّاد ناصر
قال الشعراء العرب، في الجاهلية، أشعارهم ، من حيث الصيغة العروضية، عرفاً، فلم يكن أي منهم يعرف بأي وزن من أوزان العروض قال قصيدته، أن شاعرهم يقول قصيدته على وزن يتناسب مع إقاعه النفسي والمعرفي والذوقي فتنساب تلك القصيدة كما تمليها الدربة والخبرة والسليقة، حتى جاءهم من قال لهم إن قصائدهم تنبني على أوزان لها قواعد وقوانين تسمى عروضاً، وهو الخليل بن أحمد الفراهيدي، الذي جاء متأخراً على الشعر العربي القديم فهو ولد في قرية ودام الساحل بعُمان عام 100 هـ.
طرأت ببال الفراهيدي، كما تقول المصادر القديمة، إن فكرة وضع علم العروض واتته بينا يسير بسوق الصفارين وقيل سوق الغسالين فكان لصوت ضربهم نغم مميز ومنهُ طرأت بباله فكرة العروض التي يعتمد عليها الشعر العربي. فكان يذهب إلى بيته ويتدلى إلى البئر ويبدأ بإصدار الأصوات بنغمات مختلفة ليستطيع تحديد النغم المناسب لكل قصيدة، فتمكن من ضبط أوزان خمسة عشر بحرًا يقوم عليها النظم، حتى الآن، فأصبح مؤسس علم العروض، قبل أن يصبح عددها ستة عشر على يد الأخفش الذي تداركها بـ المتدارك .
لا يعقل أن يكون هذا العمود بحثاً في علم العروض إنما هو توطئة بسيطة للشعراء الذين يكتبون وفق ما بات يسمى بـ التفعيلة ولكنهم للأسف يخطئون حتى في الأوزان الصافية، وعند التطور الكبير بعد ثورة الشعر الحديث ورواده المعروفين التي بدأت بالعراق، وهو مبعث فخر إبداعي، لم يزل الخطأ وارداً حتى في قصائد شعراء كبار مثل المصري الرائع صلاح عبدالصبور، بل في قصائد آخرين ممن صار يطلق عليهم الشعراء الكبار، لكن الخطأ مسألة نسبية فقد يعده البعض بأنه زحاف أو أنه خطأ مطبعي كنوع من حسن التخلص، ولا أريد أن آتي بتطبيقات، فأنا لست بباحث أكاديمي أو دارس متخصص.
حدث أن اتصلت بشاعر كبير لأنبهه على خطأ عروضي زحاف أو غفلة موسيقية واقترحت عليه بديلاً بسيطاً إضافة حرف أو حذف حرف أو تغيير كلمة، فأجابني معترفاً شاكرا مقترحاتي.
اليوم، أقول لمن يريد أن يكتب وفق التفعيلة أن يتقن الأوزان وإتقانها ليس صعباً، وخلال التجربة والمراس لن يحتاج إلى تقطيع بيته أو سطره الشعريين.
أنا، مثلاً، نسيت التقطيع وأسماء الأوزان، إنما القصيدة تندلع عندي من مزاج يتعلق بمناخها وثيمتها وإيقاعها الداخلي، ولم أعد أخطأ إذا كتبت وفق التفعيلة إلا ما ندر بفعل سهو أو شرود أو بفعل كأس زائدة عن لزوم ما يلزم.
لم يعد الشعر، بعد مياه غزيرة جرت تحت أنهار العالم الشعري، برأيي، بحاجة إلى أوزان كتب بها الشعراء، أجدادنا الأجلاء، قبل أكثر من ألف عام، لأن قصيدة اليوم هي قصيدة اليوم.
باب الشعر مفتوح على مصاريعه التي لا تعد ولا تحصى، وحرية الشاعر أس في حرية القصيدة في اندفاعتها المجنونة ووثبتها غير المحسوبة حتى لو كانت محسوبة عقلياً وذوقياً وتقنياً فالقصيدة لم تعد حبيسة قانون، أي قانون، غير قانونها الداخلي، وهي لحظة يختلط فيها العقلي واللاعقلي، والشعر قرين الجنون الخلاق لا العقل الساكن، إنما عقل القصيدة هو سلوك شاعرها الواعي وغير الواعي.
قصيدة النثر التي تخلصت من مأزق العروض، فجاءت طليقة باتجاهات عدة، وقعت في مأزق آخر هو إغراء النثر الذي يقع في تقريرية الجملة العربية وهذا يتطلب احتراساً من نوع خاص احتراس نقدي يصون هذه القصيدة من مزالق النثر التقليدي ليبقي على النثر الشعري، أو الشعر النثري إذا شئتم، وفي الأخير الشعر حريّة.
AZP09