القائد
كاظم السعيدي
تتقاطر اسراب الوز والطيور المهاجرة في امسيات نهاية الخريف. فترسم لوحات جميلة بطريقة تحليقاتها وهي مصطفة بنسق واحد منظم بحيث ان المارة من الناس ينتظرون مرور الاسراب من اجل المتعة بتشكيلاتها المرتبة اصواتها الجميلة تلفت نظر المارة بقدومها. غالباً ما احتضن بندقية الصيد التي تعانق كتفي دوما متباهيا بها. مزهوا بمهارتي باصطيادي للوز الطائر عند هجرته من مكان الى لاخر. اعترض اسرابها وهي تعانق الغيوم بتحليقها ، تغازل النسمات بتغريدها. تتجافى اسراب الطيور والوز حينما تغرد بندقيتي بصوتها الذي ينذر بالخطر فتلبسها ثوب الرعب وتتناثر في الفضاء بحثا عن النجاة. حينما يكثر الرهان بين الصيادين على دقة التصويب، ينتحر الموت على فوهات بنادقهم فتموت الرحمة في ضمائر الصيادين. يملأ نفوسهم الغرور بالمهارة الفائقة.. يصبح الترقب و الحذر و المهارة شرارةُ لاصطياد الكائنات الوديعة. فلقد تعلمت من هذا الصيد درسا قاسيا لن انساه مدى حياتي . صار حاجزا منعني من ممارسة تلك الهواية الخالية من الرحمة لكائنات وديعة. وفي احدى الامسيات كالعادة خرجت بمعية بعض الصيادين في الحقول والمستنقعات ننشد الصيد المجاورة تنشد الصيد .يملأنا الاستعداد والتأهب لصيد اي سرب من الوز، كانت الصدفة مواتية حينما مر واحداً منها و نحن نتطلع الى السماء. فلاح في الافق سرب قادم نحونا يروم الوصول الى الشمال من مدينتنا…وبخفة سريعة اعترض ازيز الرصاص بهلع السرب ،تسبقه ومضات ضوئية . لتصيب واحدة بجناحها ، فتهاوت تترنح محاولةً الاستمرار في التحليق جهد امكانها فلم تقوى على المقاومة وابت الا ان تحتضن اديم الارض، ومما زاد استغرابي ان السرب كله هبط معها على الارض . فملأت اصواتهن ارجاء المكان وتجمعن حول الوزة المصابه . يطلقن اصوات حزينة مصحوبة بحركات اجنحتهن حولها ، مثلما يفحص الطبيب مريضه .اما انا فقد اذهلني الموقف، وتسمرت في مكاني وسقطت بدقيتي من يدي .واعترتني قشعريرة سرت بجسدي ندما وحسرة على سوء تصرفي ، حينما رايت ذلك المشهد الذي يفيض شفقة ومودة ووفاء للصحبة من مثيلاتها . فامتلأ قلبي حزنا و الماً .وندمت ندما لن انساه مدى حياتي . فقد لامني الكثير من المارة ،و شتمتني بعض النسوة اللاتي جلبن البرسيم من الحقول .حينما شاهدن الموقف المؤثر وظل سرب الوز يعبر عن اسفه والمه على جرح احد افراده، ومواساته بحركاته وصوته وبكائه بطريقته الخاصة. المملوءة ندما واسفا على الوزة الجريحة. لقد هزني ذلك الموقف وأنا ارى هذه الكائنات الوديعة بوفائها لبعض البعض. فارتبك السرب ،ولفته الحيرة و الخذلان. فراح يدور ويدف عليها بأجنحته. يبحث عن الاصابة ،بعضهن نقرت الدم النازف بمنقارها وبعضهن شممن الجرح، ومرت دقائق من الصمت، تكللت باليأس تجمع الوز حول الجريحة.وهو يفقد الامل بعدم قدرتها على الطيران. كلاً تفحص تلك الجريحة بطريقته الخاص فمنهن من احتضنتها بجناحيها ومنهن من وقف أمامها حائراً كليلاً. وكان الليل قد اسدل استاره. فتجمع الناس حولي ..وشاهدوا الموقف عن قرب وهم حريصون على عدم الاقتراب منهن تعطفاً واشفاقاً على الوزة والمأساة التي حلت بهن. فلم يقتربوا منهن حتى حلقن في الفضاء. هائمات، تائهات، حائرات، فلا دليل ولا من يقود السرب ، لا يعرفن اين يتجهن؟ فالسماء واسعة كسعة المحيطات، وكلُ ذهب على هواه. وبعد ذلك تراكض اصحابي الى الوزة الجريحة التي راحت تكثر من القأقأة محاولة التحليق ثانية فلم تقدر ودمها ما زال ينزف. اما انا فبقيت في مكاني مندهشاً ،لا الوي على شيء، فلم افكر من التقرب منها ابداً … تركتها وحسرةُ وندم تعتلج نفسي بل حملها احدهم متفحصا اياها قائلا : اتعلم من اصبت يا رجل؟ قلت من؟ قال انه الدليل.



















