الغزال تصنعه الغابات‮ ‬- نصوص – نعيم عبد مهلهل

الشعر في حزن ليل عدن ( شهاب غانم أنموذجاًً)

الغزال تصنعه الغابات – نصوص – نعيم عبد مهلهل

دعني مع الله أدعوه فيسعفني

أمام أقفال دربي بالمفاتيح

فهذه عدن قد كان يعشقها

عصامُ في كل تصريح وتلميح

فسوف يندبه الأصحاب في عدن

 بفيض دمع من الأعماق مسفوح

كانت مدينة إفلاطون فانقلبت

                   كأنها منبت القيصوم والشيح

في أهلها طيبة كانت وكان بها                      ثقافة ونظام غير مجروح

 الدكتور شهاب غانم في قصيدة دعني مع الله حين يأتي قدر السماء الى أحدهم بلحظة ، في منيته منتصف الطريق بين الارض والسماء يجيء الملائكة ومنهم حوريات لا يوصف جمالهن لكثرة تفاصيل الحسن فيه ، يستلمن الجثمان من مشيعي الارض : لقد اصبح من حصتنا ونحن من سيرعاه وسيكون له عرس جنان الخلد .

ويمضي القارئ وسط ذهول وانشداد العيون الباكية لأهل القرية ليصف جمال الحوريات بوصف لا يمكن أن يتخيل صورته هؤلاء الناس ولا يصادفون منه شيئاً في بيئتهم البسيطة .

أنا مثلهم تخيلت الحوريات وقد جلست وسطهم انصت ، وفي الليل حين أستعيد حوريات عاشوراء ، أتخيل المكان وحورياته عندما كان هذا المكان في الزمن القديم يطلقون عليه أسم جنة عدن في امتداد جغرافي يبدأ من أور وحتى دلمون في البحرين ومن ثم يذهب مع اشرعة موج الخليج الى ميناء عدن جنوب اليمن.

وعلى اديم تلك الصورة المستلة من ذكرياتي يعود معي طيف قصيدة رثاء كتبها أخ الى اخيه ، وقبلها نسرح في مقاربات الثقافية في روح شاعر هذه القصيدة ( دعني مع الله ) عندما يحاول الشعر في كل عقائد البوح أن يظهر الخفي المؤسس للحظته الأولى وعبر ذلك المسار الذي اغنت فيه تخيلات البشر الطاقة الخفية في الذات البشرية والى هذه اللحظة ، كان الوجه الجمالي للقصيدة يمر عبر آه ودمعة وفقدان وتذكر وحسرة وأعتقد أن تلك الممكنات مكنت الذين خلفوا آدم ( ع ) فوق البسيطة والقارات وارائك المقاهي أن ( يصنعوا وينتجوا ويكتشفوا ويبدعوا ويغنوا ويكتبوا ) كل هذا الإرث الرائع من الشعر بدءا من التأليف الشفاهي ومرورا بألواح الطين والرصاص وورق البردي وانتهاء بشاشة الحاسوب .

هذه التأريخ الأسطوري لقصيدة هاجسها الدمعة تم تدوينه بشكله الحضاري في اسطورة جلجامش التي كتبها سومري مجهول على شكل مقاطع شعرية وأهم لحظة الأسى واكثرها حزنا هي تلك اللحظة التي رأى فيها ملك أوروك جلجامش خله وصديقه وصنوه ( انكيدو ) وقد بدأ الدود ينخر فمه ، فأحس برهبة الموت أولا وبحزن الشعور الضاغط على اوجاع الروح حين تفقد أخا او قريبا او صديقا عزيزا…………!

هذا الحزن الذي يبتكره القدر بصدفة او بحادث او بعلةٍ او بحرب او بطارئ ما يشكل في عمقه الوجداني الهاجس الذي يسكن فينا قناعة ان المقدر لا مناص منه ، وحتى تستمر الحياة على البشر أن يأخذوا مكانها في تسلسل الرحيل الى ما كان يعتقده اهل سومر الاوائل فردوس عدن للذين منحوا حياتهم سيرة رائعة ، وجحيم العالم السفلي للذين كانوا يسيرون عكس طريق الخير والمحبة.

صورة الحزن في الشعر هي الاكثر شيوعا في التراث الشعري العالمي ، منذ نواح جلجامش واحتراق روما على يد نيرون ونينوى على يد ملكها ساردانابال وموت آخيل في حرب طروادة ومرورا بحزن الخنساء ومراثي كربلاء وانتهاء بحزن اخماتوفا الشاعرة الروسية التي جعلها ستالين حبيسة شقتها اكثر من اربعين عام وانتهاء بحادثة قتل محمد الدرة برصاص جنود الاحتلال الإسرائيلي ودمعة الربيع العربي على جثة محمد البو عزيزي المحترقة انتحارا مثل الشعر التعبير الاكثر قدرة على اظهار ما في داخل الروح البشرية من ردة فعل أزاء كل هذه المؤثرات التي يصنعها الموت فينا.

صورة الحزن في الشعر العربي الحديث  اخذت مدى هائل في التجارب الرائدة وربما بدر شاكر السياب يمثل بعض من طلائعها الاولى وانتهت به الى انين حزين وكئيب على سرير المرض في المستشفى الاميري في الكويت وغير ذلك انتهت طلقة الانتحار في رأس الشاعر اللبناني خليل حاوي لتمثل ردة فعل الشاعر أزاء حزنه مما يجري في وطنه وأمته.

هذه المقدمة هي بوابة المفتتح لقراءة انموذج لمرثية حزن كتبها الشاعر الدكتور ( شهاب محمد عبده غانم ) في رثاء أخيه الراحل الدكتور عصام محمد عبده غانم .

تلك القصيدة لافتة حزن الشاعر أزاء اخ يفتقده ،وفي النص حزن موشوم بفسحة مناجاة الله وذاكرة المدينة ( عدن ) التي كانت في لحظة تاريخية بعيدة صورة متخيلة وموثقة بالقول السماوي على انها واحدة من جنات السماء الهابطة على الارض مع خواطر النزول الاول لآدم وحواء ( ع ).

والقصيدة هي ملحمة حنين الشاعر لأخيه ، مثلت في بهجتها نواح موسيقى ما يود التقرب فيه الى ذكراه وكأنه يعيد ما كان يسجله الصوفي ابن العربي في رغبته للتواصل مع الهيبة البعيدة ،ليكن الله حبل مودتي الذاهب الى السماء.

وأظن ان الله حين يكون حبل مودة يصبح الشعر بمثابة طقوس مديح وادعية لاستحضار الغائب كما في نص الشاعر وهو يفتقد أخاه ،يكون الحضور الرباني طاغيا بالحنين والشوق والتضرع وربما اشرت الى هذا في مكان ما من الفصل الاول حين ارغمتني الرؤى الاولى على المرور على هذه النص ( دعني مع الله ).وربما الأخ الغائب في ابد الرحيل استجاب تماما لما تمناه الاخ منه ليبدأ الشاعر ينسج لنا حكاية المكان وذكرياته ( عدن ) مخلوطا بعطر الاخ المرتحل بنعش صنعته حروف الاسى والالم والاشتياق في وجه الاخ الحي.

مرونات بعيدة

في النص تدخل عدن الى ذاكرة المكان كنص قدسي يرتبط بالكثير من المورثات البعيدة الأزل ، وقد اعاد الشاعر معها وفي ثنايا مرقيته الحنين الروحي والأسى التأريخي على متغيرات المكان عندما كان بالنسبة له ملاعب مرح الطفولة والتعلم ومسك ابجدية الوعي وتوارث ثقافة البيت والمدينة التي تحتفي منذ أزل ازمنة سومر والتلمود وتوراة موسى وانجيل يسوع وقرآن الرسول محمد بأصالة متناسلة من وعي المدينة البحرية التي اشاهدها في قصيدة صديقي الشاعر شهاب غانم طيف سرمدي يشتكل بتفاصيل الجغرافية والبيئات المتقاربة مع الروح الاستوائية وعلى صدى مفتتح القصيدة اتذكر اليوم الاول الذي نزل فيه الشاعر الفرنسي آرثر رامبو الى رصيف ميناء عدن ومن ثم يذهب الى مصوع والحبشة تاجرا للسلاح قوله :المكان يشمك البحر فيه ،وغير في الامكنة الاخرى انت تشم البحر.

مع الرثاء الذي يكتبه الاخ الى اخيه مديحا وصلاة وتشفع وتقرب الى الله تسجل القصيدة رائحة المكان بعفوية الحزن وبهذا المستهل الإنشادي العميق وكأنه مكتوب على رخام ارض جامع او سجادة صلاة كاشان :

دعني مع الله في ذكر وتسبيح

فكل ما دونه يمضي مع الريح

الأهل يمضون والأحباب ذاهبة                       ويسلمونك من نوح إلى نوح

وكل ما فوق هذي الأرض مندثر

أحلى القصور مع الأنهار والدوح

انه يبدأ في شفاعة التدوين ليؤثر في اعماقه وهي تحضر لحظة الخشوع بين يديَّ الله  ليتكون في مذهب القصيدة وروحها فعل نوراني ينسج على مساحات الورق ارتعاش يد تود في تلك الكينونة الإلهية ان يستعيد في إغماضة اخيه ملامح المكان ( عدن ) . تلك الملامح التي توثق اجمل لحظات عمر الاثنين داخل المنزل على اريكة الدراسة وحقيبة السفر وكل محطات العمر المشترك بينهما.  لهذا فأن المستهل الجميل في اول ابيات القصيدة وفي ربعها الأول هي رؤية فلسفية محكمة جعلها كفعل المرشد والناصح والمجرب ، وكأن رحيل فلذة كبده منحه استعادة لتجارب الحياة ومحطاتها فأرتكن معها الى المحراب الالهي وهناك رسم الرؤية الى المدى الاوسع لترافق حروفه روح الفقيد في العلياء البعيدة. روح المكان ( عدن ) وروح الفقيد ( عصام محمد عبده غانم ) يلتقيان في تدفق حس قدرته على الصياغة العميقة ،ليس لأنه شاعر فقط بل ان ثقافته الايمانية منحته الكثير من بلاغة القول وجزالة التعبير وصناعة موسيقى الالم المبارك والحقيقي داخل ارواحنا حين يكون الله سارية ولفيا ، لهذا فأن ( شهاب غانم ) يمضي غي تريض اسى المشاعر وحزنها الكبير ويصيرها في بهجة الشوق والتقرب الى الله. وربما عدن ( وسيط ) لحظته الشعرية وذلك الفقدان ليؤشر لنا في نصه هذا قيمة ان يكون الرثاء من بعض المحفزات الروحية لقيمة الشعر ازلا وتراثا وحضارة :

(( دعني مع الله أدعوه فينقذني                        من الهموم ومن غم التباريح

بالأمس ولى شقيقي فجأة وخبا                        وكان في قومه أزهى المصابيح

بقية كان من قوم جهابذة

 عاشوا لعلم وإصلاح وتصحيح

عشرون سفرا ونيْف خلفه حفلت                      بحرّ رأي لرفع الحيف مطروح

عن موطن كان في التاريخ مفخرة                  وكان منبت أجداد جحاجيح ))

تلك هي وجدانيات هذا الفراق ، مؤثرة ، ومحزنة ومؤمنة يؤسس فيها الشاعر الدكتور شعاب غانم موقفا صادقا وفاء للنسب العائلي المرتبط بأخوة الرحم والبيت والمدينة. لهذا في تلك اللهجة الايمانية المتضرعة التي يسجلها صاحب (القصيدة ) في جعل هذا النص في ملحمة هذا الوفاء الذي رأينا فيه صورة واضحة لعمق دالتين في نسيج وخيال وذكريات الشاعر هما ( المدينة ـــ عدن ) و ( الأخ ــ عصام ).

بين الأثنين تكون يد الله هي الغالبة في التحاور ، ولقد ارانا الشاعر قيمة من الود الشجي في جعل المرثية مديحا ومقامات لتراتيل الروح ولهجة الصلاة المتوسلة الى السماء ليكون مكان الفقيد زاوية النور في ثرى الراحل ، ومعه يستعيد حتى آخر القصيدة تلك النجوى الروحية والمكانية والتي تتحول بعد نهاية النص في ادائه في مديح المكان وخصائله وبين كل صور تأتي صورة اخيه التي طوال رائية النص ومتنه يتمنى لها الخلود والجنان في عدن العيدة في السماء والمشيدة على الارض:

(( أعلى (أبان) بها و(العيدروس) بنى

و(العسقلانيُّ) دورا للتراويح

وقبر قابيل قبل الأنبياء بها

                   إدريس أو صالح أو هود أو نوح

واليوم بينا الذئاب الغبر تحصرها

ترنو بطرف كليل الجفن مقروح

دعها مع الله يرعاها ويكلؤها

وادعُ لها بين ترتيل وتسبيح

وارحم فتى يا إلهي كان يعشقها                     وافسح له رب في جناتك الفيح ))

يروض الشعر الروحي القلق البشري من خلال حبة ( بارسيتمول ) الحرف ، عندما يكون شفاء لمستقر نودُ فيه ثبات ارواحنا ، وهذا الثبات يحتاج دوما الى معالجة لا تحتاج الى مبضع طبيب جراح ولا استشارة طبيب باطنية ، بل أن الكتابة والسماع في اجواء الشعر وتحولات ليكون حداء او مدائح أو اناشيد مغناة تكفي لتحدث الفعل الذي  يعجز عنه اي تقدم تكنلوجي.

صورة الشعر في صنعته هو صورة العناية الالهية التي تمنحنا الموهبة لنكون شعراء وبامتياز من المجتمع حتى أن اهمل النظر الى قاماتهم فأنه في النهاية سيكون مضطرا للانحناء الى نصبهم في ساحات المدن والمكتبات والحدائق العامة.

وعليه فأن الشاعر قبل أن يكون صانع جمالية لحرف موزون أو منثور فهو في الأصل صانع حلم.

وقديما كان الهنود يعتقدون أن بوذا حين أتاه الحلم على شكل ضوء همس بعبارة شعرية قبل أن ينطق بموعظة. وبورخيس ذاته كان يقول ، كل شيء في رأسي يصنع الشعر أصله احلام ، اما قصصي فهي نقل لما اراه امامي:

تحدث إلى روحي.. ففي الروح جذوة

ستخبو إذا لم تسق بالشحم في لحمي

تحدث .. تحدث.. فالأحاديث فيصل

وفي شفرة الألفاظ معجزة الحسم

لقد ضاع هذا العمر إلا أقله

ويبقى صراع الروح والقلب والجسم

الدكتور شهاب غانم  ، قصيدة ( تحدث الى روحي )

مضى الشعر يؤسس مدنهُ وملاحمهُ واساطيرهُ ومبادئه وحكمته وموعظته دون أن يتأثر بأي متغير كوني وتأريخي بل أنه في ازمنته الأولى كان اكثر بلاغة وتأثيرا من الحاضر عندما كان وقائع الحياة بكل مدوناتها ،الشرائع والملاحم وحتى رسائل الملوك الى ولادتهم كانت تكتب على شكل مقطوعة الشعرية كما كان يفعل الملك الاشوري اشور بأنيبال عندما يطلب في رسائله الى ولاته بشراء الواح الطين التي كتبت عليها المدونات الادبية وحكايات الشعوب.

رد فعل

صنيعة الحلم في القصيدة ، هو رد فعل الروح أزاء الواقع والبيئة وما يحسه ويشاهده الشاعر ، والحلم في رائيته الحسية والفلسجية هو انعكاس ما يختزنه الباطن من احداث نهار مضى او ذكريات قديمة بوجوهها وأحداثها ، ومن بعض تلك الرؤى صانعة الحلم تأتي الاطياف الشعرية لتخلد فينا قدرتنا على صناعة البوح وجماليات اغراضه بشتى التفاصيل والجهات . الحلم والقصيدة متلازمة ادركها ارسطو في كتابه ( فن الشعر ) فكانت المحاكاة لدية خيال حالم يطفو في ارجاء مكان اعلى منه وكان هذا المكان الصورة الامثل لتمني لحظة الوصول .

عند لحظة الوصول تلك أضع عبارة ( صنع الأحلام بشهية القصيدة ) ضمن سياق الرؤى لعالم الشاعر الاماراتي الدكتور (شهاب محمد عبده غانم ) ، عالم مزجج بمرايا البحر ومساءات طفولات عدن حين تغرب الشمس ضوء الذهب فيها وزرقة الحنين لتأتي الاحلام منذ اول الصبا حتى لحظة تأمل الرخام الروحي في قباب تاج محل ( بأكرا ) الهندية ، وعبر هذا المدى يسجل الشاعر تجربة احلامه عبر منظور الروح والقلم فنحصل منه على فيض لا يحصى من مشاعر الود ودهشته والايقاع الصوتي واللفظي والبلاغي لرائية يبلغها بما يسجله في تفاصيل القصيدة وايقاعها المتوازن مع ايقاع نبض قلبه.

النبض في مشاغله الروحية يمثل آهة الرجل ونسرين فلسفته وفقه ما يرى وكأنه يعيد صدى تلك المشاهد اليومية في مراقبته لما يجري فيصبغ عليها تساؤلاته واحلامه ورؤاه ليكون حديث الروح الى الروح هو ما يتمنى الشاعر أن يمنحه لنا في تدارك الحياة بعفةِ القصيدة ليصبح هذا البوح شهادة حياتية وايمانية لأخلاق الرجل وفلسفته وحياته ومنجزه ، فكان عليه ان يرينا توازن في الشعور والعقل عبر نافذة القصيدة وكأنه يأخذ من شغاف الاساطير تلك التعويذات والمدائح والافكار والادعية التي يلبسها لقصيدته كما يلبس الناسك عباءته الصوفية الخشنة ليرسم لروحه ولصفاء العالم ود الكلمات وبهجتها .

وكذا يفعل الشاعر الاماراتي شهاب غانم وهو يسجل تفاصيل احلامه الحياتية عبر مسار الروح وعطر ازهار حدائقها. ليسجل في هذا النص جزء من تلك الاشتغالات الحميمة التي سكنت بدنه وصوفيته ورؤاه اتجاه ما يراه ويشعرهُ ويتمنى المساهمة لتغيره صوب الافضل:

(( حنانيك في الجسم امتحان ومحنة       يخطان أين الروح تذهب في الختم

يشدك قيد الطين للطين.. كلما

           يتوق ضياء الروح للبدر والنجم

وقد تنتهي الأرواح في البؤس والأسى

           إذا كانت الأجساد توغل في الإثم

تحدث .. حديث الروح يسري محلقا

  إلى كل روح تشرئب إلى الفهم

وما أنت صوفي ولكنّ مهجة

بجنبيك روحانية الشوق والهمّ ))

  ( قصيدة تحدث الى روحي)

النص أعلاه تفسير للحظة الامتحان الروحي مع الاسئلة والاجوبة ، فهو هنا يرى ويمدح ويرسم في خطى المكان أثار اعماله عبر الحسنة والامنية والعطاء ليرينا تلك المدائح الوجدانية تنتظم في نسق العبارة الملحنة بنبض قلب الشاعر قبل أن يلحنها العود وينشدها هو بصوته. وهذا ما يظهره لنا نصه الموسوم ( أين ألحاني ) و ( المغنى ) من قبل الشاعر نفسه.

والقصيدة ملحنة من قبل اللحظة الرائقة التي كتبت فيها لتبدو من بعض مخاض الوجد والعشق والامتنان الذي يسكن قلب الشاعر ليصنع من الشعر المغنى بوح ما يملك من رقة وعذوبة وتوله بما يراه وما يخفيه.

فهو مع هذا النصوص المموسقة يقيم مودة الباطن للظاهر ، والظاهر للعالي ، والعالي هو الملكوت الاعظم.

ولكنه يشيد اللحن عبر سمفونية غرام ومهجة قلب وبلاغة السجع الروحي لمغنى القلب في عفة المرام فيكون الشدو هو ايقاع ارواحنا ونحن ننصت الى رخامة الوتر في الحنجرة وطرب الحروف في القصيدة وذهول اللحظة في بدن الشاعر عندما يكون اللحن غرام ما يتمنى في الوصل ونيل مهجة الحبيب ويلبسها قميص مهجته. لهجة القصيدة وديدنها هو الفراق ، لكنه لذيذ يدفع صاحبه ليصنع من لذة الالم نشوة اللقيا والشجن تفاصيل المقطوعة في حكاية يختصرها أثنان في جسد وروح واحد (الشاعر والمغني ).

هو يكتب غرامية مختصرة نشوة بحجم الاماني ويتمنى من هاجر الوصل ان يستعيد معه الزمن القديم ويتساءل عن سر هذا النأي والنفور إلا أنه ابقى لدالية العشق صورة الفتنة والرهبنة وهي تشدو بغناء عاطفته عن سواحل الامل ان يعيد حلاوة وشهد وجمالية تلك الايام القديمة. يقول الحلاج في تفسير الغياب والتعويض عنه بمعاودة الدعاء والمدائح أن السر في ادراك ما نفقده يصنعه خيالنا المغنى بترنيمة الشوق والحمد والسؤال.

كذا يفعل شهاب محمد عبده غانم في نصه الذي انشده بنفسه ليرنا بعض طاقة البوح في قلب الشاعر ،وليسمعنا من تهافت صدى المودة عمق ما تخزن قلوبنا من مشاعر العشق والغرام والتلاقي بالرغم من ان القصيدة تتحدث عن حزن ان يفارقك من كان اليك القبلة صلاة وشفاه.

وعليه فأني أضع هنا نص ( أين الحاني ) للشاعر شهاب غانم والذي كتبه في (روركي في الهند عام 1969)  أي في ايام الشباب ليرسم في غربة المكان وحي عشق قد لا يعرف تفاصيل اساطيره وذكرياته سوى الشاعر الذي نقلهُ الينا الآن بوحاً روحياً مغنى: (( لا تسأليني اين ألحاني    ولّت وخلتني لأشجاني إقبالها بالأمس حيرني    ونفورها سرٌّ هُوَ الثاني كانت تسامرني وتغمرني    بالوصل.. كيف سخت بهجراني كانت تنوح إذا شكوت لها    كالناي بين بنان فنان فتسيل في مري حلاوتها    كالبلسم الشافي لوجداني أعباء نفسي بعدها ثقلت وتراكمت في القلب أحزاني)) إذن الشاعر الدكتور (شهاب غانم ) يصنع احلامه من وحي الرؤيا في مسافات قلبه ، ليسجلها عبر عاطفة غنية في المعاني والاحاسيس ويرينا من بهجة الليل والقصيدة واللحن سر ان يجيء الشاعر الى هذا العالم ليصنع للروح بهجة الواقع من اجل انتظار بهجة الازل البعيد.

يكتب بتلك الفتنة الموشحة بأنتقالات السلم الموسيقي في ممرات مسامعنا وكأنه يصنع شدوا آخرا لذلك السر المخبئ في الحنايا العميقة والتي تعبر عنه القصيدة مثل مساحة الرؤية الى ادراك معنى ما نود ونحلم ونسعى  وهو سعي القارئ والمؤلف الى بناء تلك العلاقة الجدلية بين الارض والسماء ليكون الشاعر وسيطا مكلفا من قبل الالهة والبشر :

(( وهواكَ يَنْبوعُ الصفاءِ

      لكلِ قلبٍ عاشقِ

وهواك مفتاحُ الوجودِ

       وبابُ كلِ مغالق

فلك الركوعُ ، لك السجودُ

   من الفؤادِ الواثقِ))

شهاب غانم / قصيدة أياك نعبد

يصنع الشعر معجزته من خلال صنع الرؤيا عن طريق التخيل ، لهذا كانت الديانات حذرة في التعامل مع هكذا بشر ، وكان القرآن الكريم يضع هذه الرؤية في مكان يقبلُ التأويل لعدة تفسيرات قوله : أن من البيان لسحرا ، ومرات جعل هذا السحر لا يحسنهُ سوى يحسنها الغاوون الهائمون في أودية التخيل والمنصات ومنتديات العرب في المربد وعكاظ أو اؤلئك الشعراء الاغريقيين الذين كانوا يحتلون ظل الشجر في حدائق اثينا ليتغلبوا على بلاغة الفلاسفة التي كانت تحتل أذهان أهل المدينة.

فحوى رسالة

لكن الرسول الكريم محمد ( ص ) حسم الأمر الى صالح الشعر عندما يكون موقفا أيمانياً وإنسانياً عندما نزع بردته الشريفة ووضعها على اكتاف صاحب ( بانت سعاد ) ، ليتحول الشعر في هذه اللحظة من هاجس الطلل والغزل وكبرياء عمر بن كلثوم الى موقف يسعى فيه ليكون موجها في جعل الرسالة الدينية التي طورت مع الشعر هواجس أخرى كثيرة أهمها الزهد والتنسك واخيرا الصوفية التي صار الشعر فيها تعبير عن فحوى الرسالة والهاجس الذي يسكن روح وبدن الشاعر الصوفي.

لهذا بقي الشاعر هو الصانع الماهر لما كان البشر يحتاجون اليه ليكونوا اقرب الى ما يعتقدوه فيهم ولا يستطيعوا التعبير عنه ، فمثلا نرى الذي حدث في المحاورة الفلسفية بين الرحالة البندقي ( ماركو بولو) والامبراطور المغولي ( قبلاي خان ) مثل تلك الرؤية البديهة لعلاقة الشعر في تلك الاوساط التي كانت تقوم جدليتها في الازمنة القديمة على العلاقة بين الحاكم والرعية ، وحتى تسهل طريقة التواصل يكون الشعراء هم الواسطة واغلبهم يقتحم البلاط منشدا وهو من بيئة مسحوقة ومحطمة كما المتنبي الذي جاء من افقر زقاق في مدينة الكوفة ليكون الشاعر الاول في بلاط سيف دولة وكافور الاخشيدي وحكام بغداد .كان سؤال قبلاي خان للرحالة الفلورنسي :  قل لي ايهما افضل لراحة الملك صيد الغزلان أم الانصات الى شاعر.

قال ماركو : الامكنة والامم التي زرتها علمتني أن الغزال تصنعه الغابات أما الشاعر فتصنعه السماء .عندها صفق قبلاي خان بيديه وقال :اخرجوا الوزراء والاعيان من البلاط وابقوا الشعراء فقط.تلك الرؤية قد تكون متخيلة من اعادة صياغة رحلة ماركو بولو من قبلي ، ولكنها تقع في صميم الفكرة التي تصنع في ذاتنا رغبة السماع والتبجيل لهذا الكائن الذي يسمى الشاعر (الشاعر ) وعليه فأننا هنا نعيد القراءة بشكلها الباطني في سماوات الشاعر الذي يسحرنا في انشاده و( أنعتاقه ) واقصد (الدكتور الشاعر شهاب غانم ) الذي اتمننا في الفصل الاول ربع مسيرنا المارثوني في عالمه الخصب المتمثل بتلك الروح الشعرية الانيقة والشفافة والمحبة للآخر عبر نبض ملون من تنويع المنجز ورصانته وامداد عاطفة قلب الشاعر وقصيده الى البيئة التي يسكنها والناس الذين يمتلكون معه اواصر الذكرى والعمل والبيت.روح الشاعر (شهاب) هي روح حواري حروف قصيدته ، لها أطياف خضر تأتي من اعماق خلجان حياته ، خليج عدن وخلجان الهند وتلك التي تسكن ارخبيلات ارواحنا ، هدهدها بعاطفة انسانية تساندها لغة العارف بما ينطق قلبه قبا نطق الفم والقلم فصارت تأتي الينا بأجنحة غيوم الحنين والفكرة والموسيقى.

هو ( الشاعر ) ينسج لنا متاهات عميقة تطفو على بحارة تصنعها امطار الحبر والدمعة واللحظة الليلية التي تسكنه يوم يكتب القصيدة ويذهب بها الى عالمه الممتلئ هواية وغواية وتراجم ودرس.تلك الروح يسجلها الكهنة وسدنة المنابر وقراء مكاتيبه الشعرية على انها شيء يطفوا في مرايا اجفان الشاعر وتسري في اوردته عطرا شعريا يجعل تلك الحواري القادمة من سماء القصيدة شيء من بهجة روحه وهي تبدأ تلك اللحظة التي بسببها طرد قبلاي خان وزراءه وندماءه من بلاطه ويبقي الشعراء فقط .هذا البقاء رهنهُ شاعرنا بقدرة طيبة في تناول تلك الرؤى القريبة الى الوجدان عبر ثقافته ووطنه واصدقاءه واهل بيته .هذا البيت الذي يعينه في جعل النص الذي يكتبه مأواه وركنه الهادئ ليرينا تلك الذات الموقنة في ايمانه وجعل حوريات الخيال مسكونة بلحظة مؤمنة اتخيلها الفعل الكبير الذي كان نُساك اللحظة في الصوامع وخيال الصحراء البعيدة واغوار الامكنة المنعزلة يذهب معها من اجل صناعة الفضاء الذي ينسجم مع لحظته وكأنه يعيد في مثاوي غرفة الكتابة او اريكة شاي النعناع او فنجان القهوة عوالمه البعيدة والقريبة ويغلفها بتلك الرهبة الوجدانية والالهية التي ترتقي معه الى اللحظة المتبناة والتي تمناها قبله اؤلئك الذين جعلوا من القصيدة نسمة وبقعة ضوء مشت معهم الى الصين وسمر قند وبنت جامع الزيتونة ومآذن قرطبة وغرناطة وبخارى وشيراز وسرايفو.

أنه يؤذن لنا بالكثير من متاهة الولوج لعالم النور والصفاء والعبادة في جعل الرموز التي عاشها وتشبث في مديها هيبة واحتراما هو من بعض رد الحميل والتقدير لتلك الأرواح التي جاورت احلامه وصباه وشبابه وطموحة واريكة المعرفة ، وهو ايضا من بعض ما تشمله تلك الروحانيات التي ترسم حواريها في عبارات الشكر والاستذكار والمديح لأناس اثروا كثيرا في حياة الشاعر ، شيوخ واستاذة ورفاق علم واصدقاء حارة واخوة البيت. وكان يسعى في المديح الذي من اجله يمجد روح سلطان بلده وشعبه ويقارنه بأرواح اخرى لم تمنح شعوبها اي شيء ، وهذا ما رفرفت فيه الدمعة والحزن والمهابة حين فقدت دولة الامارات قائدها وباني نهضتها الجديدة :

(( نبكيك يا زايد الخيرات في زمن

فيه الشعوب على الحكام تنتفض

ساموا شعوبهم ذلا فكم سجنوا                            و شردوا في زوايا الكون من بغضوا

وعذبوا.. واستباحوا في جنونهم

دماء من نصحوا يوما أو اعترضوا

واستأثروا ببلايين مكدسة                                       والشعب يمرح فيه الفقر والمرض

وأفسدوا.. نشروا الرشوات فاكتسبت                          حكم القوانين بين الناس تفترض))

ذلك المديح المغلف بأسى غياب الرجل الحقيقي وصانع دولة هو في بعض تفاصيله استدعاء لتلك الحواري التي تخيلتها لتسبح في سماوات قصائد الشاعر ومن بعض مهامها رفع القامة العالية لشيخ الدولة التي يعز عليه فراقه في اعتقاد منه أن شعبه لم يزل يحتاجه الى عمر وحكم أطول .

وهكذا يذهب الشعر بتلك الاجنحة الرقيقة البيضاء ويعتليها مثلما يعتلي الفارس صهوته جواده ، يشاغله في رصد تلك الافعال بمدركاتها الجمالية حس عال من الرغبات والايماءات لتشكل مع اشاراتها الى جهة يود الوصول اليها ليحقق كما سعي جلجامش حالة من القناعة ان الخلود في النهاية حين يسقط وهم تفاحة الحياة ، فأن ما يورثه لنا من مجد واختراع وكتاب يمثل الخلود الحقيقي للذات الفانية.

لهذا يجد الشاعر الدكتور ( شهاب محمد عبده غانم ) في كتبه ونتاجه هو البديل الرائع عن التأثر بتلك الافكار التي ابتدأ بها ملك اوروك جلجامش رحلته الازلية ، وحالما تقرأ فصول تلك الحواري الايمانية في نصه الموسوم (( أياك نعبد )) حتى يشعرك بتلك المساحة الناصعة من المحتوى والرغبة وتفصيل عطر العبادة عن لحظتنا الوردية وهي ذاتها لحظة الشعر.

يكتب ( غانم ) فعله بمودة القلب المؤمن ، وهو بذلك يصنع للحظة التفكير عنده طقس تراويح خاص يقربك الى فيض من نشيد الذات اثناء محاولته الارتقاء الى العلا الابعد والتي تحقق لنا الكثير من تناغم الايقاع بين الظاهر والباطن ، وتلك حفريات صعبة لا تكتشف بمجرد انك تدندن او تشعر بأنك اصبحت شاعرا ، فالأمر كما نراه مع الشاعر هنا هو تمرين روحي وتعبدي طويل وصارم ويحتاج الى تعدد الثقافات ومواسم عزلة ولحظات صبر وعبادة تضع الجهة التي نفترضها جهة للنور بموازاة شعور روحنا الشاعرة.

وعليه فأن قصيدة ( إياك نعبد ) تقع في تلك الجهة التي تصبو لها اجفان الشاعر ومراسيل قلبه لتصب في تلك الازلية القرآنية التي تسكن قلوب جميع مسلمي الارض من خلال الاجماع الاممي على حفظ سورة :

 ( الفاتحة ) التي يكون مبتدأها المقروء في الافراح والاحزان هو :

 (( بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين .الرحمن الرحيم .مالك يوم الدين .أياك نعبد وإياك نستعين )).

وعليه فأن النص هو الرؤيا فيما لا يرى ويعيش قي سواكن الشاعر ليخرج من جب رغبته كما يخرج النور من عتمة التفكير ليتحول هذا النص الى اشاد ايماني ملحن ويشـــــدو به المنشد الإماراتي المهندس أسامة الصافي بطرب الروح والايمان والعقيدة.فيسجل بنصه المزروع في شجي اللحن بعض تلك الفسحة الايمانية التي تطل بأطياف حواريها عبر فضاء تلك الآية الكريمة التي هي مفتتح الصلاة والدعاء وإغماضه العين :

(( اياك نعبد خالقي

من قلب قلب الخافق

فلأنت ملءُ مغاربي

                   ولأنت ملءُ مشارقي

وهواكَ يَنْبوعُ الصفاءِ

لكلِ قلبٍ عاشقِ

وهواك مفتاحُ الوجودِ

          وبابُ كلِ مغالق

فلك الركوعُ ..لك

      السجودُ من الفؤادِ الواثقِ))

هذه هي مدارك الروح ، يتعلق فيها شيء من الدعاء المتصالح مع نفسه وشيء من عطر الصوفية وهو يمضي عبر مسافات ما في من الروح من طرقات نائية وذات فعل نتوارث منه تلك اللغة الهادئة والطموحة في التواصل مع الامكنة التي تسكنها حواري لحظة المصير ويتألق فيها البوح كمن يصنع من سجدته غار تعبد وجامع للصلاة وقلب يعشقه.