العولمة
يعيش جبار شناوة في مدينة نيويورك منذ عشرة أعوام حيث آثر الهجرة كطائر الفلامنكو من العراق إلى بلد يرعى أفكاره المتقدمة، لكنه ما زال يدخن سجائر اللف كعادةٍ ورثها من جدته. هام شناوة في مطاعم ماكدونالد أوائل أيام الهجرة حيث كان يأكل وجباته الثلاث من البركر المشوي على نصف استواء. كان يسافر بين ولايات أمريكا الخمسين ويعشق لاس فيغاس بإعتبارها مثالا للتطور في فن العمارة وأسطورة في علم الجمال من خلال بناياتها الكونكريتية الشاهقة، وصالات القمار في فندق سيزار الذي يظنه امتداداً للإمبراطورية الرومانية المقدسة، ولكن بنسختها الحديثة. يحب المفارقات وكان مُطّلعاً على بعض الفنون والآداب والكتب التي توحي بسر النهضة الأوروبية، ويذم عصر الرومانسية حيث يعتبره ” عصر تراجع العقل والردة إلى التراث”، يبغض ماركس ويمجد آدم سميث، لا يقرأ إلا روايات ما بعد الحداثة، ويعتبر الشعر نزعة غير عقلية. في صبيحة يوم الأحد من عام 2017 قرر شناوة الذهاب إلى الصين بحجة البحث في تأريخ النهضة الصينية، فركب الطائرة المتجهة إلى بكين وبدأت رحلته في استكشاف أسلوب حياة الصينيين من المدن المتقدمة، إلى أقاصي هضبة التبت، فينصدم احياناً عندما يرى المفارقات التي غيَّبتها عنه طريقة عيشه وتصرف المهاجرين من أقرانه في نيويورك، فالناس هنا متقدمين ويملكون المباني ذاتها، ولكنهم يغالون في حب تراثهم، هنا يجتمع ماكدونالد بمطعم العم شينغ وان الذي يطهو أشهى الأكلات الصينية من الكلاب والخفافيش والمقبلات المتمثلة ببعض الجراد مع صلصة دبس الرمان. يسير شناوة فاغرا فاه في شوارع بكين، محاولا إيجاد حلا للورطة التي أوقع نفسه فيها، ذلك الانبهار الفكري الذي عانى منه إنسانا قادما من بلدان الحكم الشمولي والقمع، إلى بلد التقدم وحفظ الحريات وبعض الشعارات الزائفة والمرندجة، ثم قرر سبر أغوار العوالم التي أخفتها له أبراج التجارة، والفنادق. يجلس شناوة مرهقا على إحدى المصطبات في شارع لا يعرف اسمه ولكنه يروق له، وفي المقعد المجاور يجلس شخصا علامات الوقار ظاهرة عليه، لابساً قبعة مسطحة، وبدلة أنيقة مع ربطة عنق فبدا له أنه مدير إحدى الشركات وجاء ليروَّح عن نفسه عناء الأضابير فبادره قائلا:
_ طابت ليلتك
يرد الصيني: اهلا يا سيدي
_ أظنك قد تكون مديرا او عاملا في احدى الشركات الكبرى.
_ لست بهذا التوصيف، أنا كاتب أحب التنزه قليلا في الليل.
_ عظيم، هل لي أن أسألك شرحا لأسباب تقدم الصين؟.
_ هذا موضوع طويل، حدد لي من أي جانب تريد أن أوضح لك هذا؟
_ تكلم قليلا عن الجانب الاقتصادي، والثقافي، وإذا أمكن القول أعطني موجزا لذلك.
_ حسنا، الصين بدأت بمشروع نهضتها في نهايات السبعينيات وأوائل الثمانينيات بعد سنوات العناء المضني التي سبقتها من مجاعات أرهقت المجتمع الصيني نظرا للأساليب الغير مدروسة بشكل جدي التي كانت تتبعها الحكومات السابقة.
_ أي مجاعة؟ وأي أساليب؟
_ في الخمسينيات أرادت الحكومة أن تبدأ مشروعا ضخما في الإصلاح الزراعي ولكنه تسبب في مجيء الجراد بأعداد مهولة مما أدى إلى دمار المحاصيل الزراعية وتفشي مجاعة مروعة راح ضحيتها خمسين مليون إنسانا.
_ يا ألهي!
_ الصين تمتلك تعداداً انفجاريا من النسمات، لذلك في السبعينيات بدأت عدة مشاريع من ضمنها نظام الأسر المنتجة في الريف، وهذا يجعل كل أفراد المجتمع منتجين لا مستهلكين، ولن يعيش أحد في الصين عالة على غيره. أما من الناحية الثقافية، ببساطة تامة، نحن نعيش الآن في ظل هذا التطور والتقدم وتلك البنايات الشاهقة، ولكننا لم ننس أننا اصحاب حضارة وتراث. أن سر تقدم الأوطان هو أن تكون شخصا عمليا وجاهدا في عملك، ولكن في ذات الوقت أن تكون أنسانا له انتماء لهذه الأرض، أعجب إلى الناس الذين يحبون المباني الشاهقة والعمارات الكونكريتية التي تفقد أي صلة بينها وبين البشر، فانا أحب الكوخ الذي تعيش فيه جدتي لأنه مصنوع من الطين الذي صنع منه الإنسان وبَقيَ طوال هذهِ العهود يناغم روحنا.
_ هل لي أن تختصر ذلك علي؟ فأنا أمر في مرحلة عصف فكري رهيبة!
_ أنظر إلى ذلك المقهى القديم، أترى أولائك الشيخين؟
_ نعم، احدهما طويل اللحية وأشعث الشعر، والآخر بالكاد أرى معطفه الفضي.
_ ذو اللحية هو كارل ماركس، والآخر آدم سميث…
مصطفى حمزة