العودة إلى الديار – اضواء – طارق النجار
استهللت حياتي بعد الرحيل المشوب برهن الفقد ومنزلة لحياة ناخت بالفقدان للراحة والدعة والسكينة وبهجرتها في غفلة من الزمن على حين غرة الى بارئها لتصبح اثر بعد عين الا ذكراها لا يطمسها النسيان في الغياب في الظهيرات من ايام احترقت بقيظها وجسد ناحل توقظني يكابد من آلام يعتريه الكلال والوهن والفتور والمثل بعذابات الجوع النفسي، وداء يجوب قيعان البحور والمحيطات يتغرق عيناي بصورتها في اثباجها.. والقطيعة مع اهلها المليئة بالكراهية والعداوة بعد السطو الشرعي لكل ما املك من مال ودثار وعقار.
حسبي القول ان اتساءل بهمس مع النفس من غير رضا لم يخلو من الوجع: لم هذه الندوب المبثوثة في جدار القلب والجسد الضؤول؟ لم الفجوة في غشاء النفس الامارة بالسوء والاسترابة تدغم المشوار في البقية الصالحة؟
المبتغى من صلاة كنت اجثو في ادائها تيمنناً شطر البيت الحرام مكتوباً علينا يوماً اخر. متضرعاً متبتلاً ان يتقبل لنا دعاء الهج به الى الباري عز وجل لاخي وشقيقتي وزوجي لا ابتغي فيه غير الرحمة لمثوانا والعاطفة والسعة.
يوماً جاءت امرأة اسمها الخنساء تلك القامة الاسطورية سومرية من ارض بابل ندية طهورة، استقبلتها بوداعة اليتم والشقاء.. اي امرأة انت؟
اشارت الى امرأة اخي ترافقها والتي استدعتها للم الشمل وزوجاً لي في مشواري النحس لم تكن تخطر مني على بال ومعينة بي في دنيا ادركت مصائبها وبؤسها وصمتها الذي يرزح تحت وطأة المرارة وفيوضها في غياهب الجب لحال تدثر بلحاف بال.
قالت وهي ترمقني ببصرها:
جئت اليك بقدر النصيب بوحي بما قد تؤول اليه الامور.
هتفت بصوت اجش: لم اطلب امرأة بأربة تربت على الخجل لا يمكن ان تكتمل انوثتها دون عقد النكاح وتكون انسي في وحدتي الموحشة القاتلة المسمومة بالذعر والفزع. ولم ابذل قصارى جهدي في هذا الشأن الجاري في حياة مطحونة بالاحزان لما حملته بوقع براغماتي في راهن التطلع الى تغيير ما اعانيه من فطم المأساة لرحيل الزوجة.
قالت بصوت حاد النبرات: لم هذا التشاؤم السقيم؟ هذا ليس تشاؤماً..
ففكرت هنيهة ثم قالت بلجاجة امرأة دأبت ان تثير الفضول والمقت.. سيرتك مفعمة بالعذاب والتعذيب وصراعك النفسي عبارة عن خراب مبعثر الاوساخ يزداد تراكما في حياة فضت بكارتها في مزواج لن نر منها غير الدمثم والدناءة، وخنق مكبوت يطبع قلبك الوله بغبار الهموم.
المفارق لا تلبث ان تكحل عيون فاجعة معفرة برمد صعيد طيب. ساربا لذكرى مكلومة بوجع الموت بدأ يدب اليها الضعف والوهن ونظرت شزرا وتمتمت ببعض كلمات: ان الانسان يملك في اعماق عقله الباطن قوى نفاذة تجتاف نفسك اضطراب يغمد في دواخلها متحملا عياط نسوة وجههن تؤمن بالوداعة وموشحة بالحياء ورانت عليها سيماء الاحتشام بصبر عظيم.
وتجرعت كأس الموت الزؤام على اطباء اليوم ممن كنستهم الخبرة والحرفة مستسلمين لعار المهنة من دون شرف والضعف امام المال وسحته الحرام. في صباح مبكر، وعيناي تلاحق جسدها المسجى على سرير في احد المشافي في بغداد خاشعاً متبتلاً يتلاهثها الصباح المندى بقبل الوادعة والمضمخ بالصفرة والحمرة وكانها لم تمت، اراها نائمة لتفيق في العاشرة منه كل يوم، وغمرتني الايام بالكآبة ومفرقها يغتسل جسدي الضؤول بماء طهور، تجده بطور السنوات العجاف من اوضار حياة توسدت التراب، وادمنت حسوة القهوة بالهيل المتضوعة بالبكاء، ولطم الصدور وشق الجيد وازاره وخرزا لكل ملعون حاسد، انتحب بهمس عال على قبرها اهجع وهي تغط في نوم عميق وهادئ.. وصرخت في الشأن الضاج الذي لم يكن نطيقه وضرورة الانزواء المباعد بقبرها اجوس حفاته وبمنأى عن القبور الاخرى يؤزمني زيارتها مساء وحلول الظلام.
اطالت النظر في حالتي التي المت بنفسي تعتلج بهواجسها فقالت: ويحك؟ ما هذا الذي اراه؟
بادئ ذي بدء لابد لنا ان اطرح هذا السؤال الصعب وذلك الاحساس الطاغي في المخيلة يلح علينا الحاحا. ورددت بصوت خذلته المحنة وعسعس الوسن في اجفانها مازلت اعيش اجواء الماضي المقدس بكل عاداته وممارساته بنكده ولواعجه وخوالجه والذات العارية المسكونة بالمخاطر واللوعة ينهكني الوجد السقيم لامسح بارديتي وجهي المتسخ بسخام الاثافي، قبرها الان في كل فجاج الارض بما اكتنزه من سنوات مضت.
التقت عيناي بعينيها حتى تناثر الدمع مدرارا فردت وانا اكثر شكوى وانيناً وبتزافرها ويتشاهق في تقولها وادمنت النظر اليها ونازعتني نفسي الى الجلوس قبالتها وتناولت الدواة والقرطاس فقلت.
ضاع العمر والزمن فات وتعلمت كيف ادجن وحدتي متماهيا مع واقعي المأهول بالخراب والفواجع.
ان ما اصابني ليس عابر سبيل فاكتويت بجزر متأثل في العقل والقلب.
فأجابت مقتضبته وبغضب:
رجل اشيب وشيخ عجوز فعصمة ذكراك وحلمها الرومانسي هذا وجهامة الحاضر واحباطاته ترسم ملامح الوجه المجعد بعدم الرضا. هذا الهذيان الفكري الذي يجلد صبرك بازميل موهوم بالقهر كأنه صرخة انثى تطلق العنان لحزن مغلول وماسوراً بما فقدته.
انا لم اكن انأى بنفسي عن الذات والتاريخ بسنواته المطوية بالفقد.. فدمدمت بكلمات لا تخلو من الاستطراد في القول: وقفنا حيارى امام اهواله نهجس ونخامر بشجن يساور عقولنا معاً من ترويع وتبكيت.
وتنهدت قائلة: نجأر بالشكوى من غبن زمن عميم الظلام اخذ بنا نحو حافة المتع اللذائذ بما يروق له رغم معاناتنا من سغب واملاق مطوحين بالاحداث تمضي بالقسوة ووطأتها بالختل والمين في لغوة وثرثرة. وانت لا ترحم النفس التي لا تفتأ تفتك بوحشيتها لتروي ظمأ العطش الانساني تشيح عن فظاظة القول والعقل تاركاً تلك الدار الفواحة بالرحيق.
وانبريت قائلا: اني اكثر الذين يستحقون العزاء تجتاحني نوبات بكاء مدقع بالحزن، وسعار يحتشد الدمع تحت الاجفان، ولم يعد ثمة ما يخفي طيلة السنوات الثلاث او نحوها.
ان رهافة المنذور بصباحه، ينذر صبراً جميلاً كانت حضناً دافئاً استشعر بعمق الهوة بين الواقع المؤلم ورمانسية الخيال في ادانة فاضحة لذلك الواقع المزري في ملحمة غير مسبوقة لما سبق. اولغ بالرهق من عقدة ذنب الحدث طال مأتاه برمز العنقاء التي ولدت من الرماد.
وسألتني بمن يذكرني بهذا الخاطر الجوال في البال، ما شأنك بهذا الخاطر؟ وتراجعت عن الفكرة وحزنت. لم صخب الموت يضج بدارك. وفي حارتك يتبارى فيها الفوضى العبثية؟
فاجبتها وهف القلب من الحزن: المطمور في دنياك والمطبق في حياة مطامير تخزن ما فقدته في عهد كنت فيه حبيسا في قن الاحزان.
نافلة القول ان ما جرى ويجري مزاراً قدسيا نتسكع عند حافاته لتكتب غضبك في ارتعاب بمصير يؤول الى المجهول.


















