العنوان القصصي والمرجعية الشعبية – مولود مرعي الويس
تنتمي المجموعة القصصية الموسومة بـ”الخيول الجِريفونية” للقاص بيات مرعي (الطبعة الأولى كانت ضمن إصدارات الاتحاد العام للأدباء والكتاب وضمن سلسلة نون التي كان الاتحاد يصدرها أنذاك عام 1994? والطبعة الثانية 2018) إلى ما سمّاه القاص في تعريف هذه القصص “قصص ممسرحة”، التي جاءت بعناوين قصصية تتلاءم مع مضامينها السردية في الانحياز للموروث الشعبي الموصلي، وكانت عناوين هذه القصص هي: “مهبط الأراجيح/مدافن النهر/ما أتلفته الرفوف/جنازات الظل/جمرات/خيوط /تلة الحلم/محنة الجسر/الحي الحديدي/ الخيول الجريفونية/مدينة أخرى/قرين الوقت/رقصة الأزاميل/عويل محارب ترجل/زرزور شرقي/ همس المعاطف”، وهي عناوين لا تخلو من طابع رمزي وشعري لكن مضامينها في الأغلب الأعم تعود على المرجعية الشعبية لمدينة “الموصل”، من حيث المكان والشخصيات والأحداث والرؤى والأفكار وسائر وسائل التعبير الفني والموضوعي.
سنحاول تحليل قصة “مهبط الأراجيح” وهي القصة الأولى في المجموعة وتحتوي على مضمون واسع من الموروث الشعبي الموصلي اعتباراً من العنوان، فالعنوان “مهبط الأراجيح” يدل على أمكنة الفرح والبهجة أيام الأعياد حيث يجد الأطفال متسع من الوقت لقضاء أيام العيد في هذه الأراجيح المنتشرة في المدينة، ومن هذا العنوان تنفتح القصة على مضامين مكانية خاصة بالمدينة “الموصل القديمة”.
تبدأ القصة بالإشارة إلى الأماكن الموصلية القديمة التي لها حضور قوي في ذاكرة القصة:
(رغم كهولة مصراعيه بقيت ملامح (باب جديد) تدمدم بحكايات شفافة موزعة على اكف اطفاله الحفاة… وألسنة عجائزه المتكئات في أزقته العتيقة على مشهد المارة من ضيوف الابواب المجاورة.. وعلى مرمى البصر أناس تكفنوا برتابة الايام التي تشبه سابقاتها المتعشقات بأزقة الباب المتنافسة في ضيقها وارتفاعاتها او انكساراتها حتى ان نوافذ زقاق تلــــــة (البدن) المرتفعة تستقبل غرباءها من بعيد وتزفر ثرثرات عذراواتها على مركز الباب المطوق بحمامات الرجال والنساء وسوق بيع اللحوم وعربات الخضر ومركز شرطة البلدة ودكاكين (اللبانة) والفاكهة والكرزات..)
تظهر هنا أسماء الأماكن الموصلية القديمة (باب جديد: حي شعبي في مدينة الموصل)(البدن: زقاق في حي باب جديد)، وهي الأماكن التي تمثل في القصة الموروث الشعبي المكاني التي تحتوي أراجيح العيد الحاضرة في عنوان القصة، وتوجد في هذه الأماكن روح المدينة القديمة بما وصفه القاص هنا من تفاصيل على مستوى الشخصيات والأفعال، وهي كلها تنبع من فضاء العنوان الذي يدل على ما يمكن أن تتمتع به هذه الأماكن من طاقة على الفرح.
تدخل القصة في تفاصيل أوسع وأكثر تصويرا لحال المكان في مرجعيته الشعبية على مستوى الشخصيات والحدث وأدواته، بما يشير إلى أن عنوان القصة يبقى حاضرا كونه يمثل حالة الفرح التي تسيطر على المكان وأجزائه وتفاصيله:
(الكلّ في ألفة متشابكة مثل اغصان ذكر التوت المتدلية من سطح بيت المختار المجاور لمنزل الحاج محمود والذي مازال نائما في حجرة زوجته الصغيرة…فالصباح في الباب قبل ضحكة الشمس ومن اول لحظة يفرغ الليل اكياس ضبابه على وجوه “الفعلة” المحتشدين في مقهى (الصنف) وحول عربة تحسين ابو العدس المطرزة بعبارات الرزق.. وقبل مجيء الضياء الاول تتراصف الامنيات على ساتر قتالي تبحث عن دفء لها بين المعاول و(الكواريك) وأدوات البناء الاخرى فالفجر هنا طوق يخنق الامل بالذهاب الى العمل ومع بزوغه على الباب يعود “الفعلة” المتبقون والذين لم يحالفهم الحظ في اقتناص فرصة العمل الى ديارهم خائبين…)
إنّ أسماء الشخصيات وعناوين الأعمال التي تمتهنها هذه الشخصيات تؤكد الطابع الموروث شعبي للقصة، وتجعل من عنوانها “مهبط الأراجيح” فرصة لتحويل كلمة “مهبط” المكانية إلى فضاء سردي مكاني يرتبط بالفرح، وكأن المكان الموروث شعبي كله ممتلئ بأشكال الفرح المتعددة على الرغم من صعوبات الحياة في مثل هذه الأمكنة، بمعنى أن إشعاع الفرح في عنوان القصة يعمل في تفاصيلها من البداية إلى النهاية بلا توقف.
يستمر الراوي بسرد تفاصيل أخرى عن المكان بشخصياته الشعبية وأمكنته الشعبية حيث يتوسع في هذا الشأن وكأنه يريد أن يوسع من دائرة الفرح المكاني الموجود في العنوان، فرائحة المكان تنبعث من هه التفاصيل المكانية بشخصياتها ونماذجها المختلفة:
(هكذا شريعة الباب المنفرجة بأذرعة طرقه الاربعة والمؤدية الى هنا ترقبها العيون بحذر دقيق حول القادم يحمل حقيبة طلب لأيادي مستميتة للعمل ولكل درب حكاية ينسل منها وهج التاريخ فأولهم قامت في نهايته محطة القطار الغريبة وآخر يذكر سيرة الملك فاروق ثم ساعة الكنيسة ونواقيس برجها والثالث صوب أساطير سجن المدينة القديم ورابعهم يمد بطوله نحو النهر.. و(باب جديد) ذلك الكبد المكاني للطرق كلها ينتظر فجرا مرغما بموعد مؤجل عند جميع رجاله (نشأت الباججي) والحاج (توفيق الكبابجي) و(دلشاد) الخباز الأصل، وأم اللبن (حمدية) القادمة من مسافات ساعات بعمق الليل كي تفترش قدورها المحتشمة بشرف الجاموس ورائحة البقر والغنم.)
إن هذه الشخصيات الشعبية التي ترد هنا في أحداث هذه القصة: (نشأت الباججي) والحاج (توفيق الكبابجي) و(دلشاد) الخباز الأصل، وأم اللبن (حمدية)، تعطي لفضاء القصة نكهة خاصة من خلال الطابع الموروث الشعبي الذي تطرحه، وبما يتلاقى ويتفاعل مع عنوان القصة العائد على موروث شعبي معروف أيام الأعياد.
لا يتوقف الحدث القصصي في القصة عن فتح باب السرد القصصي على مصراعيه، بل يستمر الراوي في الإشارة إلى تفاصيل الأمكنة التي تحيط بفضاء العنوان “مهبط الأراجيح” وتستوعب الصورة السردية المنبثقة من هذا العنوان:
(الفعلة) البناؤون ألفوا البرد في دوي مزاحهم.. لتبقى مسالك الدروب فاتحة خير للرابضين على عتبات الرزق في مشهد يتسع ويستدعي انماطا من خلافات معتادة مرة وضحكات مستقرة مرة اخرى….وفي ذيل ليلة ما لحظة وداع الطيور لأعشاشها، وبينما يستذكر كل واحد من الرجال لزميله عن يوم امس الذي توارى زمنه وتعبه مسرعا، توقفت سيارة سحبت الانظار اليها، يظهر فيها رجل مطمئن لصباحه ويستطع الثراء على وجه سائقها… ركض الجميع دون تردد والتفوا حولها مثل سباع جياع، يستمعون الى حكاية فريسة تاركين مخالب البرد وقصصهم على عربة العدس او بين جدران مقهى (الصنف) مودعة عند العم يونس (ألجايجي) او في زوايا اخرى كانت قد احتوتهم قبل ساعات….وبإيماءة مفتعلة بعد ان أسدل زجاج نافذة السيارة، حدد مبتغاه حين انتقى من بين الجمع افضل “الفعلة” الشباب الاقوياء ثم طفق بهم مسرعا الى جهة مجهولة…)وهنا تبرز شخصية “الحاج محمود” كي تعطي للمكان والحدث والشخصية قيمة أكبر في تطور الفاعلية السردية للقصة، بحيث يكون عنوان القصة هو المركز الدلالي الأصلي في أحداث القصة فهو المكان الذي تتوزع منه الأحداث، إذ يستعيد الراوي القصصي كثيرا من أحداث الماضي وأحداث التاريخ التي حدثت في هذا المكان، فالمكان القصصي الحاضر في عنوان القصة “مهبط الأراجيح” هو نموذج للمكان المرتبط بالطفولة وبالأعياد وبالفرح الذي يتكرر مع كل عيد، ويصبح مكانا أصيلا في ذاكرة الناس المرتبطين بهذا المكان ارتباطا روحيا لا يمكن أن ينفصم أو يستحيل أن ينتهي:(توجه حشد متبق منهم صوب درب آخر ومجموعة اخرى في طريق معاكس حتى تلاشى الجميع في وقت أفرغ (باب جديد) جعبته من كل عماله الاقوياء.. رغم ان الأزقة المكتظة بالمنازل العتيقة تمد الباب دوما برجال جدد يزدحمون على المحلات المتراصفة يطلبون شراء فطور اطفالهم ونسائهم… ولم يبق من “الفعلة” سوى ذلك الرجل العجوز قصير القامة جار المختار الحاج محمود، كبير البنائين الاول والاقدم في معجم الباب، خليله العتيق، منذ ان كان (لباب جديد) حارس يتقاضى مرتبه من القنصلية البريطانية….)تتطور أحداث القصة تطورات مكانية بالدرجة الأساس ومن ثم تنطلق هذه الأحداث من خلال المكان كي تعبر عن جوهر القصة التي يدل عليها العنوان، فعنوان القصة هنا هو عنوان متجذر في طبقات القصة كلها من الشخصية إلى الحدث إلى التفاصيل الكثيرة التي لا تنتهي، فالمكان الشعبي يتفاعل مع الشخصية الشعبية ومع الحدث ذي الطابع الشعبي كي يصل توظيف الموروث الشعبي إلى أعلى درجاته في هذه القصة:(يمر الوقت ليصبح الفجر متأهبا على عتبة الزمن…. شيخ المسجد يصفق باب جامع العمرية بعد انتهاء صلاة الفجر وتحرك جناحي الليل هروبا من مطرقة الشمس.. لتركب الحسرة صدر الحاج محمود تفر به نحو ذاكرة السنين اللزجة بمواقف شتى على عجلة خياله البطيء…. تذكر الفصول الاولى للرحلة.. اصحابه الذين تسللوا الى مدفنهم الكبير جنوب مدينة الطوفان… اخذ يقتفي من أثر الصور صورة أبو (نشأت الباججي) وأبو الحاج (توفيق الكبابجي) والعريف حمودي الذي هوى عليه جدار بيت السقا فمات منذ سنين بعيدة. (ببح العربنجي) حين كان يمر بعربة الخيل بعد ان يجلب ابن البك ليوصله الى القشلة كل صباح….)تحكي هذه القصة محتوى قصصي جوهري عن الزمن الذي يغيّر الأشياء، حيث يتم البحث هنا عن زمن الأراجيح وعن مهبطها، أي المكان الذي كان يحفل بالحياة والحركة والفرح والأطفال والأشياء الجميلة الأخرى.
حين تتحول “الأراجيح” إلى عالم قصصي كامل يبدأ بالعنوان ولا ينتهي إلا مع نهاية خاتمة القصة:
(تزاحمت الاواصر والخواطر في أحد جيوب ذاكرة الحاج ولم يعد من يداري تنهدات تحسره لتلك الأيام التائهة في أنفاق الزمن…
الحاج محمود: كل شيء قسمة…
ثم ماتت جملته هذه في مقبرة صمته ولجمت لسانه الذي ترك سؤالا مخنوقا….
– اين الزائرون القدامى للباب…..؟
اجاب نفسه الحائرة، كأنه يرثي عزاءها، ثم تحسس الفجر الذي أدرك فيه منذ سنين طوال ان خطوات الاثرياء الباحثين عن ايد قوية من العمال تنتهي في هذه اللحظة…
اراد ان يغادر يأسه، علق حاله على صمت اطول شغل نفسه في تصنيع لفافة تبغه بعد ان مد يده في كيس التبغ وطلب قدح شاي جديد، وهو يتطلع الى شوارع الباب وهي تفيض زحمة وحركة شيئا فشيئا مع يوم يولد…
احرق لفافة تبغه، كأنه يوهم نفسه بأن في الوقت متسعا وأن لصمته وانتظاره مخرجاً خرافياً، فجأة طرق زائر مضطرب حلبة صمت الحاج محمود يسأله….
مرحبا يا عم… ألا يوجد عمال شباب هذا اليوم…..؟
الحاج محمود:- أرسل لفافة تبغه مسرعا تحت قدمه وهم بالوقوف امام سائلة ثم تمهل قليلا… وهو يجيب … يا بني لقد ذهب الجميع الى اعمالهم منذ ساعات وما زلت انتظر قدومهم تندى الخجل في عقدة جبين الحاج محمود من ان يستعرض مكانته على الرجل، عسى ان يحل بديلا لأولئك الذين رحلوا عبر دروب اعمالهم… نشطت الحسرة والذكريات من جديد مثل نزف جرح دافئ وانتصبت راية لعنة مستترة في صدره المتصدي من أثر شقوق الرحلة على زمنه الذي مكر لقوته فأحرقها في (كور) اسراره المظلمة…)
فالحوار الدائر بين شخصية الحاج محمود وشخصية الزائر المضطرب يكشف كل كواليس الحدث القصصي، وهنا تتفاعل الصور الزمنية بين الماضي والحاضر والمستقبل مثلما تتفاعل صور الموت والحياة داخل نفوس الشخصيات، فالراوي هنا يحاول أن يجعل من الأمكنة والشخصيات والأحداث صورة كبيرة عن طبيعة الموروث الشعبي الذي لا يمكن أن ينتهي، فهو حاضر على السطح السردي وفي العمق السردي أيضاً، وشخصية “الحاج محمود” تمثل النموذج القصصي الذي يعبر عن الحالة التي يريد الراوي تقديمها في هذه القصة، ولا شك في أن العنوان “مهبط الأراجيح” هو العلامة الجوهرية الفاعلة في إثارة كل هذه الذكريات وصناعة كل هذه الأحلام من أجل أن تكتمل الصورة السردية للقصة.
تبرز عتبة عنوان القصة في المشهد الأخير الاختتامي منها، وهو مشهد فيه كثير من التفاصيل الموروث شعبية على مستوى الشخصيات الموصلية المعروفة ولا سيما في مجال الغناء، حيث يأتي عنوان القصة “مهبط الأراجيح” كشاهد على الحدث القصصي الذي يفصل بين الحياة والموت وبين الفرح والحزن:
(أدرك ان (باب جديد) لم يبق من رمق شفتي القه سوى اسمه المحفور على حجر ذكرياته…. وأن عمره لم يبق منه سوى عمر العصافير او ربما ساعات منها … لم يعد في ساحة الباب من كانوا صبيان زمان ولم يبق من الذين عملوا تحت يده المجندة بالجهد طويلا، اولئك الذين اتعب اكتافهم فيما مضى.. انزوى صوت سيد (احمد بن الكفر) وسيد (اسماعيل الفحام) و(محمد حسين مرعي) (بلبل الحدباء) القبانجي مطربو زمان في فراش الحمى ولم يعد يملأ فضاء مقهى الصنف…. بقي يرقب الطريق منذ ساعات وعربة الخيل لم تأت فهي في حداد على حصانها… تورم الهم واطبق معجم الذكريات ورحل الضباب خلسة دون ان يترك اثرا واعتلى الفجر السماء ترجل الاطفال عن الباب عند (تلة ريمه) مهبط أراجيح العيد يجددون لعبهم المجنونة بعبق الطفولة، وعشرات المارة يلقون التحية على الحاج محمود المتكئ في احدى زوايا مقهى الباب لا يجيب ينتظر من ينتبه اليه ميتا….)
ويرتبط عنوان القصة هنا بالأطفال لأنهم هم أبطال الأراجيح في العيد وكأن العيد أوجده الله لهؤلاء الأطفال كي يفرحوا، وهنا يعمل العنوان عمله القصصي كي يلم أرجاء القصة وعناصرها في المكان الذي يعبر عن موضوع القصة، ويظهر المكان عند تلة اسمها (تل ريمه) يعرفها الراوي تعريفا يتصل اتصالا وثيقا بعنوان القصة: (تلة ريمه: تلة مندرسة تجتمع فيها الأراجيح ايام العيد)، وربما تكون الخاتمة القصصية هنا (ترجل الاطفال عن الباب عند (تلة ريمه) مهبط أراجيح العيد يجددون لعبهم المجنونة بعبق الطفولة، وعشرات المارة يلقون التحية على الحاج محمود المتكئ في احدى زوايا مقهى الباب لا يجيب ينتظر من ينتبه اليه ميتا….) خير ممثل لحضور العنوان القصصي في متن القصة، فالمكان في العنوان وفي طبقات المتن القصصي هي الأصل في بناء القصة وتقديم صورة الموروث الشعبي فيها.