العكاز

العكاز
ليث غانم
كانت الغرفة مظلمة يلفها سكون كامد ورائحة عطنة .والليل النائم في الخارج يقطر ماء 0أشعل الضوء. كان الضوء يحلق في اشياء الغرفة التي لم تكن مكتظة باثاث ولا اية اشياء منزلية اخرى ماسحا الجدران المطلية بدهان ابيض ،وحافات اللوحات المرصوفة في زاوية الجدار، وفي وسط الغرفة استاند الرسم وعلية لوحة لم تكتمل بعد ،وامامها كرسي خيزران. ومنضدة فوقها عدد من الفرش الملونة وعدة الرسم ومنفضة رماد وكاس فارغة وقنينة شراب ثلثها فارغ. وفي الطرف المقابل للباب يلتصق للجدار سرير واسع يعكس فراشه المخملي التماعات براقه،وعلى حافته البعيدة صورة لأمراة جميلة. وباتجاه النافذة المطلة على الشارع مكتبة صغيرة ذي حواجز عالية ،أما الاريكة فهي تحت النافذة.
ظل واقفا عند الباب، ثم تركه واتجه نحو النافذة،كانت السماء محشو بالسواد، تمطر رذاذا،والشارع يبرق تحت اضواء الاعمدة،والابواب مقفلة جميعها على جانبي الشارع. تحرك صوب اللوحة،جلس على كرسي الخيزران، كانت اللوحة ترتدي ثوبا أبيضا من ذات القماش البازة ،يحشوها الظلام احد عشرعاما. فمد يده تناول الفرشاة وبمفاصل اصابعه داعب خشبها0كان الضوء يمتد على رقعة البياض مخترقا نسيج القماش. شاهدة الساعة المعلقة والتي تشير عقاربها المتوقفة عندة الواحدة الاربعا0تلك الساعة التي داهمت فيها قوة عسكرية داره واقتادته الى جهى مجهولة. مرر الفرشاة فوق رقعة الالوان. أفرغ اللون الاحمر,الازرق،الاخضر0مزج الالوان الواحدة تلو الاخر.
علق عند الركن البعيد للوحة صورة جماجم بحجم الكف،بينما علق عند الحافة القريبة منه وجه أمراة نصفه نضر،ونصفه الاخر مشوه،وبين الزاويتين رسم طيورا بروؤس كبيرة… توقف للحظة. مخاطبا نفسه في هذا الوقت… الان. 0لا أهمية لهذا الترتيب الخراب فوق الحرب،الحرب فوق الخراب،الخراب او الحرب،لا فرق حطام،الحرب الخراب،في الخارج اوفي الداخل… الان،او في أي وقت آخر… رسم في الوسط نهرا بعمر تاريخ فيه اسماك بأنياب بارزة… حركه الفرشاة بعد ان غمسها بما تبقى من مداد حياته،وفي اللحظة ذاتها أنبثق شكل اخر فوق رقعة البياض فرسان يمتطون صهوات خيول منطلقة نحو الافق.
2
غاص في الالوان. منطلقا الى اللوحة المكتملة الا من لمسة اخيرة. يدرك جيدا الان انه لم يبق الا هو. احس بثقل في رأسه،توكأعلى العكاز نهض مترنحا على ساقه الوحيدة. 0اخرج من العلبة لفافة تبغ رخيصة،خطى بضع خطوات الى الوراء. تذكر وهو ينظر اليها انه لم يقدر على الامساك بأيامه وهي تمر سريعة حين كان يمشي على قدمين وسنواته تمضي امامه،اخذت ذاكرته الواهنه تسترجع كرى سنواته امام عينيه. احس بمرارة دبقة في اعماق فمه،وهو يرتشف دخان لفافة تبغ رخيصة. لا مفر من ان يقف بين الامس الذي غادر وغد مقسم الى الف الف حلم غير قابل للانجماد0وحاضر غامض فوق عكازان ينتظران أفول روحه. اراد ان يصور كل هذا فوق لوحة. تذكر وهو ينظر الى المجهول ان احلامه كانت تركض فوق اسفلت مهيأ للرحيل قبل الان.
فقد كانا معا وهي تلهث وهما وحبا عذبا،وبمباهج قلبيهما. فطالماالتقط الحب من راحتيها والارصفه تلتوي تحت اقدامهم غير منتبهين لاشارات التوقف او الانطلاق 0سمع صوتا هز كيانه هزا عنيفا.
انك ماض معفر بانكسارات وهزائم
كان الصوت يضحك
على ان. 0ان تنفض عنك غبار الزمن
لم المع تاريخي… 00 فاجابه الصوت
حجر جامد لاقيمة لك؟
لم يستطع ان يجيب. اكتفى بهز كتفيه وقال
ليكن000
انت قيد زمان لم يبارح مكانه… اليس كذلك؟. والذي لم يولد بعد مهرجان قائم… ماذا تتصور؟. انها مأساتك انت وحدك.
تلاشى الصوت في الهواء وهو يصيح.
أأنت الان… تفتح أوراق زمان تكور على ثدي فتاة داعبت الأنوثة كفلها. 0وأماني منسربة بشهوة فراغ ذابل؟
تلفت يمينا وشمالا لم يجد احد معه في الغرفة الفارغة الا من لوحته وعكازه0
3
أحرق لفافة تبغ. أخذ ينفذ دخانها بشكل حلقات الى الاعلى محدقا بدوائرها المتعاقبة الواحدة تلوالاخرى.
تذكر فيما مضى من ايام كانا يحلمان معا بظل شجرة يمنحان فراغها شكلا قابلا لديمومه مفرطة بالتوجس 0
راح يتوغل في ذاكرته أعمق فاعمق فيهوي في فراغ تلاحقت الصور في رأسه انبثقت من ممرات ملى بظلمة أنفلتت منها صباحات تعدو بلا عيون وصباح ليس ككل الصباحات يوم غادر المستشفى بساق واحدة0أخذ ينصت الى صداع راح ينمو في ذاكرته المعطوبه حاول ان يجد وهويتغلغل في أعماق روحه أي شيىء ا وان يتذكر كل شيىء. لم يجد غير صمت لسنين أغطست بأوصاب الكبت،والحرمان،والجوع0
مرأى الامواج وهي تتلاحق،على شاطىء دجلة تشوش صمت الليل،وهما يتسامران تحت قمر نيساني جميل وهي تتراكم في روحه وكيانه ووجوده 0
أحترقت يده من لفافة التبغ،رماها،وأشعل لفافة اخرى. 0أنزلقت كل الازمنة دفعة واحدة من بين يديه. ومواكب في التيه،ووجهه الشاحب الذي أبدلته أيام السجن عندما كان هناك. وهويركض خلف رذاذ سنوات وأيام مالحة.
كان منشغلا بالنظر اليها وهي الاخرى ما أنفكت مشغوفه بالنظر اليه0 فيما كان قربها وربيع العمر بين يديه. فتأخذ بيده ليهرب في كل مرة. من برودة تنبت في ذاكرته. وبريق عينيها يخترق شغاف قلبه،وهي تهمس بصوت عذب. مازال ربيع العمر بين يدينا 0
يوم أخر،وفصل أخر،هكذا الى امد بعيد. كان يتراكم تلاشيه. رمى ماضيه واندس بوجهه بين راحتيه. بعد ان فتح أزرار أيام لم يرد لها الرحيل. أشتعل دمه فأحترق في داخله كل شيى0لم
يبق من مكان يلتجىء اليه،ليس ثمة أحد يأخذ بيده. ولا هويمكث في مكان. ليتجشأ حزنا مزمنا كأن لا حدود له. كان كل شيىء واضحا أمام عينيه. الا أن اختلاجات روحه حومت ناشرة ضبابا كثيفا. تدحرجت كل الازمنة على وجنتيه دمعة حارة، فأنشطر المشهد. وأنطفات في عينيه صورة المدينة… عبّ كأسا بعد خيبة،وسرعان ما انفلتت دموعه لتمحو كل هذه الوجوه من ذاكرته التي اتعبها التجوال. تنفس بعمق.
لقد ذهبت تلك الايام سدى ولن تعود. قالها وهو يهز رأسه الذي مازال منتصبا فوق كتفيه.
أنتبه أنه يقف بلا عكازيه. تناولهما وخرج من الغرفة واطبق الباب خلفه. مخلفا وراءه لوحة غير مكتملة الا من لمسه أخيرة تعيد تشكيل الامس القريب والبعيد فتلقفه الشارع،لا يلوي على شيىء في ليل بارد أجرب نبذه قطيع كلاب.
/4/2012 Issue 4177 – Date 18 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4177 التاريخ 18»4»2012
AZP09

مشاركة