العشاء الملكي الأخير- بغداد ليلة 14 تموز
دبي- محسن حسين
هذه رواية انقلها كما وردتني من اصدقاء لما حدث في القصر الملكي ليلة ثورة 14 تموز 1958 وهي رواية تسند الى الذين نجوا من القتل صباح الثورة ومنهم الاميرة بديعة التي توفيت في ايار 2020 عن عمر 100 عام:
في يوم الأحد الثالث عشر من تموز 1958 كان الملك فيصل وعائلته مجتمعين في قصر الرحاب وهم يضعون الترتيبات الأخيرة لسفره إلى اسطنبول ومن ثم لندن. وفي لندن كان من المقرر أن يلتقي الملك فيصل الثاني الذي بلغ من العمر في تلك الايام (23 سنة) بخطيبته الأميرة فاضلة وتقرر زواجهما خلال شهرين.
وكان مقرراً أن يرافقه في سفره ،رئيس وزرائه نوري السعيد، وبعض أركان حكومته ومن العائلة كان سيرافقه بعض أميرات الأسرة وأزواجهن.
وقبل ظهر ذلك اليوم استقبل الملك بعض زائريه في مكتبه وتناول طعام الغداء مع أغلب أفراد أسرته ، ودخل جناحه الخاص للاشراف على إعداد حقائب السفر. وبرغم جو الدعابة الذي ساد اجتماع أفراد الاسرة وهم يتناولون الشاي فإن شيئا من القلق والتوجس كان يسيطر على مشاعر بعض الأميرات، وبخاصة الأميرتان عابدية، وبديعة.
كان الملك قد حلق شعر رأسه بطريقة أظهرته أكثر شباباً ، وهو يفكر بلقاء خطيبته وكان بين لحظة،وأخرى يسأل الحضور ضاحكــاً مستفسراً عن رأيهم بتسريحة شعره: شنو رأيكم زين شعري، قولولي زين .. ثم يضحك بطفولة عرف بها؟!
وعند الساعة التي سبقت الغروب وصلت سيارة شاهدها أفراد العائلة وهم جالسون في شرفات القصر توقفت وترجل منها ضابط يحمل رسالة سلمها للملك تطلع اليها الملك ملياً وقد اكتسى وجهه بالوجوم وحاول اخفـــاء ارتباكه أمام الأميرات وناولها الى الأمير عبدالاله الذي لم يقدر على اخفـاء ارتباكه حال الاطلاع عليها ثم استاذن الحاضرين، وخرج .
لقد ترك هذا الذي جرى تأثيراً نفسيا يبعث على التشاؤم في نفوس أفراد الأسرة، لكن الملك حاول تلطيف الجو ودعا الجميع لمشاهدة فيلم (لعبة البيجاما) تمثيل دوريس داي.
فحوى الرسالة
كانت الرسالة من مدير الأمن العام تتضمن معلومات مقتضبة تفيد بوجود تحركات مريبة من قبل الجيش دون ايراد تفاصيل وكان خروج عبدالاله من القصر لكي يستدعي مدير الأمن العام ليبحث معه مصادر المعلومات، وماهيــة هذه التحركات لكن الوقت كان مثل السيف ولم يتـــح فرصة كافية لاحتواء الموقف وحينما عاد عبدالاله الى القصر تاركا التحقيق في الأمر الى اليوم التالي كان تحرك اللواء العشرين على طريق جلولاء بغداد قد بدأ، وأصبح حكم القدر قاب قوسين عن قصر الرحاب.
بعد مشاهدة الفيلم اجتمعت الأسرة للعشاء وكان الملك يحاول الابتسام والضحك لطرد المخاوف التي تنطوي عليها تساؤلات الأميرات عن سبب غياب الوصي، ومحتوى الرسالة، وبعد العشاء عانق الملك خالاته وقريباته من الأميرات عناقــا كان يبدو وكأنه الوداع الأخير أو (العشاء الملكي الأخير) وبعدها آوى الملك الى جناح نومه آملا النهوض مبكراً استعدادا للسفر وما أن حان منتصف الليل حتى اطفئت أنوار قصر الرحاب بانتظار صباح جديد.
الصباح التمـوزي
عند الساعة الخامسة فجراً تقريبا استيقظ الجميع على أصوات طلقات نارية هبَّ الجميع فزعين: الملك والوصي والأميرات والخدم وخرج أفراد الحرس الملكي الى حدائق القصر يستقصون مصدر النيران، وازداد رشق الرصاص والاطلاق نحو جهة القصر ولم يهتد الحرس الى مصدر النيران في البداية ،وخرج الملك فيصل من جناحه وقد ارتدى ملابسه وخاطب الحراس من أعلى الشرفة مستفسراً عما حصل؟.
ومن شرفة قريبة طلب عبدالاله من حراس آخرين أن يذهبوا الى خارج القصر ليروا ماذا حصل ،وعاد الحراس ليخبروا الملك الواقف على الشرفة مع أفراد الأسرة بانهم شاهـــدوا عدداً من الجنـــود يطوقون القصر، فسأل الملك: ماذا يريدون؟
– يقولون عندنا أوامر بتطويـــق القصر، والمرابطة أمامـــــه.
تلقى الملك وأسرته هذا الأمر باحتمال كونه إجراء امنيــــاً لحراسة القصر لكن تطور الوضع لم يترك فرصة لهذا الاحتمال إذ سرعان ما انهال الرصاص ورشـــق الرشاشات على القصر ، وتراجع الجميع الى الداخل ليتبادلوا الرأي حول ما حدث.
وقال عبدالاله إنّـه يعتقد إنّ هذه حركة من الجيش ضد الأسرة ، وساد الوجوم والارتباك وسط ازدياد اطــــلاق النــــار. بعد ذلك دخل آمر الحرس الملكي مستاذناً مقابلة الملك ليخبره بعد مثوله أمامه أنَّ الجيش قام بثورة، وأن الضباط القائمين بها اعلنوا الجمهوريـــــة ، وانهم يطلبون من العائلــــة الملكيــــة تسليم نفسها وأردف قائلا:
نحن بانتظار أمركــــم لمقاتلتهم، وسحقهــــم.
وهنا ردَّ الملك: لا داعي للقتال، ولا نريد سحق أحــــد. ثم استدعى مرافق الأمير وطلب منه الذهاب للقوات التي تحاصر القصــــر قائـــــلا:
اذهب للجماعة، وقل لهم: إننا مستعدون للتفاوض ، ولا داعي للقتال، ولا نريد مقاومة ، ونحن مستعدون لمغادرة البلاد إذا كانوا يريدون ذلك. وذهب المرافق ومعه ضابط برسالة الملك لكنه لم يعد ، وقيل: أن الثوار قتلوه، واعتقلوا الضابط الذي معه، وقيل أيضا أنَّ عبدالاله اتصل تلفونيا بعبد السلام عارف لكن الاخير رفض الحديــــث معه.
كانت الساعة قد تجاوزت السادسة والنصف صباحــاً حين ذهب الملك لتهدئة الأميــرات الباكيات، وسمعت الاميرة عابدية وهي تقول باكية:
ما نريد منهم شي سوى سلامة الملك مسكين ما شاف شي بعمره بعده شاب ما شاف من الدنيا شي يريد يتزوج حاله حال الناس مانريد منهم شي بس يتركون هذا الولــد يروح ، وهي تشير الى الملك.
وفي الصالون كان راديو بغداد يذيع أسماء أعضاء الحكومة الجمهورية ، فورد اسم ناجي طالب فانتبه الملك حين سمع اسم ناجي طالب فصاح بألم مخاطبـــاً عبدالاله: حتى ناجي طالب يابا حتى ناجي طالب !!
كان ناجي طالب مرافقا للملك فترة طويلة ، ويظهر ولاء حميما له ، وهذا ما اثار دهشة الملك