العراق ومستقبل الدولة – نوري جاسم

العراق ومستقبل الدولة – نوري جاسم

منذ العام 2003 والعراق يسير في دروب متشعبة، وكأنه يمضي فوق جسر هشّ معلق بين أطلال الماضي وأشباح المستقبل، وكلما لاحت في الأفق بارقة انفراج، تعقّدت الخيوط، وكلما نهضت فكرة الدولة، هوت أمام ثقل الواقع وتشابك المصالح، عراق الحضارات والأنبياء والثروات الهائلة، تحوّل إلى ميدان تتصارع فيه الإرادات، وتتعثر فيه السيادة بين شظايا الداخل ومخالب الخارج، والعراق ليس مجرد ساحة للصراعات، بل هو قلب جيوسياسي نابض تستقطبه القوى الكبرى والإقليمية بأدوات ناعمة حينًا، وقاسية حينًا آخر، من واشنطن التي لم تكتفِ بإسقاط النظام بل أرادت أن ترسم مستقبل البلد عبر قواعدها ومواقفها الضاغطة، إلى طهران التي نسجت شبكات نفوذها داخل النسيج السياسي والاجتماعي، إلى أنقرة التي تمد نفوذها شمالًا تحت غطاء الأمن القومي، إلى عواصم الخليج التي تحاول إعادة التموضع عبر الاستثمار والسياسة، الجميع يحضر في العراق، ولكن نادرًا ما يُسمح للعراق أن يحضر في نفسه،

والخطورة لا تكمن فقط في الخارج، بل في الداخل الذي يعاني من شروخ عميقة في بنية الدولة والهوية، القوى السياسية، رغم تغير الوجوه، ما زالت أسيرة معادلات المحاصصة والولاءات الضيقة، تائهة بين خطاب الوطنية وممارسة التبعية، والمكونات المجتمعية تبحث عن حقوقها ضمن مشروع دولة، وضمن مقايضات آنية تخشى المستقبل ولا تبنيه، والاقتصاد العراقي، رغم موارده النفطية، لا يزال هشًا، ريعياً، مرتهنًا لأسواق الطاقة وتقلبات السياسة، تحاصره البطالة، ويضربه الفساد في مفاصله، فيما يقف الشباب العراقي، وهم أغلبية ساحقة، في انتظار وطن لا يأتي، ومستقبل لا يُرسم، وسلطة لا تسمع، وانتفاضة تشرين لم تكن مجرد احتجاج، بل كانت صرخة وجودية ضد الرداءة والانغلاق والتبعية، صرخة جيل يريد أن يصنع هوية جديدة لعراق جديد، ولكن تلك الصرخة جُوبهت بالقمع، ومحاولات الاحتواء، وإعادة التدوير، وكأن النظام السياسي يريد أن يستمر بصيغته المهترئة مهما كان الثمن، وسط هذا المشهد المعقد، يُطرح السؤال المصيري : هل هناك أفق؟ هل يمكن أن نعيد الإمساك بخيوط المبادرة وننقذ الدولة من شبح التفكك؟ الجواب ليس في الأمنيات، بل في الإرادة السياسية التي تملك الشجاعة لمراجعة المسار، وتضع مصلحة العراق فوق كل الحسابات، والإرادة الشعبية التي لا تيأس ولا تتنازل عن حلم الدولة المدنية القوية، وبإمكان العراق أن يستعيد دوره ومكانته إذا أعاد ترتيب بيته الداخلي، توازن في العلاقات الخارجية دون ارتهان، بناء مؤسسات قوية وعادلة، إصلاح شامل للمنظومة السياسية، اعتماد الكفاءة لا الطائفة، إعادة الاعتبار للشباب باعتبارهم قوة التغيير لا عبئًا على الدولة، وكما يجب أن يُعاد إنتاج خطاب وطني جامع، لا يُقصي أحدًا، ويعترف ان تنوع العراق قوة وليس تهديد وخطر، بل صمام أمان، والعراق ليس قدرًا محتومًا، بل خيار يتشكل كل يوم بقراراتنا، بخياراتنا، بثقافتنا السياسية، برؤيتنا لأنفسنا وللعالم، إن الدولة لا تُمنح، بل تُبنى، وإن الوطن لا يُستعار، بل يُصنع بصبر ونضال طويل، بدماء شهداء، وبعقول تؤمن أن عراق الغد يجب أن يكون مختلفًا عن عراق الأمس، فهل نمتلك الجرأة لنبدأ؟ هل نحن مستعدون لنتحرر من رواسب الماضي وقيود الخارج وضغائن الداخل؟ أم سنبقى ننتظر معجزة لا تأتي، ووطنًا يتسرب من بين أيدينا؟ العراق لا يحتاج إلى المزيد من الخطابات، بل إلى مشروع وطني كبير، عابر للطوائف، جامع للهويات، متصالح مع نفسه، مؤمن بمستقبله….

اللهم صلِّ على سيدنا محمد الوصف والوحي والرسالة والحكمة، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليمًا كثيرًا.

مشاركة