العراق: ثنائية التهميش وقبول الآخر
صفاء سامي الخاقاني
نعيش هذه الايام ذكري ولادة رسول الانسانية محمد »صلي الله عليه واله وصحبه المنتجبين« ولما كنا ولا زلنا كمسلمين واعين قد رفعنا شعار الوحدة باسم رسول الانسانية وموحدها كان لزاما علينا بيان بعض الشيء عن مشروعه الرسالي الوحدوي في قيادة المجتمع.
بقيادة هذا النبي العظيم نشأت الحركة التغييرية للحياة العامة في مكة وشملت الحياة الدينية كعبادة الاصنام والحياة الاجتماعية وما حملت من مظاهر التعسف والاضطهاد ضد الطبقات الضعيفة للمجتمع وغيرها من ممارسات لا اخلاقية تنم عن جهل وتخلف، فكانت حياته عبارة عن رسالة تمثلت فيها كل أهداف ومعاني وأطروحة الرسالة الخاتمة، فشاهدت الناس الرسالة بصورة انسان تحمّل الصعاب والآهات والألم من اجل هذه الدعوة التي فيها الخير والصلاح والانقاذ لكل البشر.
وبعد تهيئة قاعدة متينة متماسكة ذات عقيدة راسخة رغم صغرها سعي من خلالها لتحقيق الفتح والانطلاق الي ما هو أوسع، وفعلا تحقق ما أراد بعد أن مارست قريش اشد أنواع التعذيب والتنكيل فلم تتزحزح عقيدة تلك الثلة المؤمنة التي أبهرت العقول فتكاملت هذه الثلة الي أن وصلت الي ما وصلت اليه من قوة ورباط جأش واخلاص، وبعد الاعلان والجهر استجاب الشباب وضعفاء الناس الي تلك الدعوة الالهية فكانوا هم الدعاة الي الله تعالي علي ما يملكون من قلة عدد وعدة، ولكنهم حققوا الانتصارات تلو الانتصارات.
بعد ذلك بدء الاضطهاد القريشي بشكل عنيف وغير محتمل ضد تلك الثلة المؤمنة ولكنهم لم يخضعوا بل هاجروا كنتيجة طبيعية لقوة الايمان وعمقه ورسوخ العقيدة فكان الموقف منهم أن يصمدوا في رسالتهم ويصبروا علي دينهم حتي لو كان في ارض أخري، وعلي الرغم من الايذاء والجفوة والمعاداة لرسول الله ورسالته الخاتمة الا انه أبي الا طريق الصلاح والاصلاح والهداية لذلك المجتمع الذي تحمل منه كل المعاناة، ومن أبرز المواقف التي تصف رحمته، عند فتح مكة حيث قال لقومه الذين عذّبوه وأخرجوه من بلده وناصبوه العداء، وكانت زمام الأمور بيده بعد الفتح ويستطيع أن يقتل كل من تسبب في ايذائه ووقف في طريق دعوته الناشئة، فقال قولته المشهورة التي يتداولها التاريخ بكل تقدير واعزاز:
” ماذا تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا ” أخ كريم وابن أخ كريم ” فقال لهم: اذهبوا فأنتم الطلقاء”.
ان هذا الموقف وأمثاله هو الذي يوضح الأبطال علي حقيقتهم وهو الذي يبرز صفات القائد المحنك، وهذه المواقف النبيلة الانسانية الرائعة وأمثالها من قبيل عدم التفريق بين الناس كان لها أكبر الأثر في دخول الناس في دين الله أفواجاً بدون حرب ومن دون اراقة للدم.
ان كل واقع اجتماعي عادة ما تحكمه مراكز القوي التي تقف بوجه أي محاولة للتغيير أو التطوير التي قد تضر بسيطرتها وهيمنتها وتؤثر علي مصالحها، وهكذا يجد المصلحون أنفسهم في مواجهة الواقع الفاسد السائد المألوف في مواجهة الزعامات الاجتماعية المتشبثة بمواقعها حيث انها وعلي مر التاريخ وشواهدها كثيرة تكون مستعدة دائما لابادة مجتمعات وشعوب بأكملها واراقة بحار من الدماء مقابل عدم التنازل عن كرسي الحكم وترك زمام السيطرة.
وبالتدقيق في حياة رسول الانسانية نلاحظ صعوبة المسؤولية وعظيم الجهود التي بذلها من اجل اصلاح الأمة وتغيير واقعها الفاسد حيث تحمل أبشع أنواع العذاب وأقسي صنوف الايذاء من قبل أعتي واظلم طغاة قريش آنذاك وبذل الغالي والنفيس من وقته وجهده وصحته وشبابه من اجل الخروج من مسؤولية التكليف الملقي علي عاتقه فقد صبر وصابر ورابط هو والرعيل الأول من سادة التغيير وقادة الثورة علي الواقع الفاسد وأصلحوا باراداتهم الصلبة التي تحطمت أمامها كل قساوة وأنفة وكبرياء كانت تتصورها قريش فأسس الرسول الأمين منهج الاصلاح وطبقّه علي ارض الواقع، فالدولة الاسلامية كانت وما زالت مبنية علي دعامة مهمة وقائمة علي ركن الوحدة الصالحة فمتي ما كانت كذلك كانت ناجحة منتصرة علي كل قوي الاستكبار والتجبر، واذا تخلخلت تلك الدعامة أو انهارت تحولت تلك القوة الي ضعف والصرامة الي مهادنة ومداهنة، لذا نجد علي مر التأريخ ان الطغاة والمفسدين يسعون وبكل ما أوتوا من قوة الي التفرقة وتمزيق وحدة الأمة وافسادها وهذا يكون من خلال التغرير ببعض أصحاب النفوس المريضة واستخدام الجهلاء من الناس الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعا، وكذلك يسعون الي التفرقة وتمزيق الأمة علي أسس عرقية وقومية وطائفية لتجذير الصراع وتعميق الخلاف، وواقع ذلك الخلاف ليس علي أساس الدين واقعا اذ ان الجميع يؤمن بدين الاسلام ويعتقد برسالة الخاتم ويحج الي بيت واحد ويصوم شهرا واحدا، فأين مصدر الخلاف ومنشأ التنازع؟؟
ان مصدر الخلاف والتفرقة والتنازع هو الساسة والسياسة اذ ان الساسة وبشكل عام عزفوا علي وتر الطائفية المقيتة التي تسببت بالقتل والتهجير والاختلاف والتنازع وهذا لم يتكون جزافا بل فرضته الارادة الاستكبارية وجعلته أمرا واقعا لابد منه كما يتصور الساسة فأنتجوا الفرقة ومزقوا الوحدة واذهبوا جهود الرسول محمد وتركوه وراء ظهورهم من اجل مصالحهم الضيقة ومآربهم الخاصة، فهم علي استعداد أن يعطوا أي شيء من اجل استمرار وجودهم وبقائهم وحفاظهم علي تلك العروش التي لم تجلب سوي الويلات للأمة فكم طفل يُتّم وكم أم أُثكلت وكم زوجة رُملّت… ؟؟؟
يا اخوتي، علي أي شيء ولأي شيء مُزقنا وفُرّقت وحدتنا وتناسينا حبيب قلوبنا وموحدنا الهادي الأمين، سوي ركضنا وراء الساسة والسياسة؟ فلماذا احدنا يريد التخلص من الآخر ويريد أن يستأثر بالعيش وحده؟ ولماذا هذه الأنانية والفساد النفسي الذي أدي الي السفال والهلاك للجميع؟ ولماذا لا يرجع الجميع الي صوابه بترك السعي الغبي والسير الأعمي وراء القادة والساسة المفسدين؟
ولنعلم جميعا لولا تفرقنا وتمزقنا لما استطاعوا تمرير مخططاتهم بالنيل من كرامة الأمة والاعتداء علي مقدراتها ومقدساتها، كل ذلك بسبب انهم نجحوا بتفريقنا وتمزيق وحدتنا لأننا حينما نتمزق يتمكن الفاسد من السيطرة علي كل ما نملك حتي عقولنا فيتلاعب بها بالاشاعات والترهات والخزعبلات التي لا تمت الي الواقع بصلة ولا الي خلق الاسلام ومبادئه بوجه من الوجوه.
أين الساسة والقادة من نداء القران وتعاليم الاسلام ومنهج الرسول؟؟؟
ندائي هذا محمل بآهات اليتامي ولوعات الأرامل وصرخات الثكالي وأنات المرضي والمعوزين الذين لم نر جانبا أو مفصلا من مفاصل الحياة الا وهو يضج ويعج بالآلاف من هؤلاء، فأين أنتم يا ساسة العراق وقادته من خلق الرسول ومنهجه القويم؟
لماذا كل هذه الويلات التي أصبحت زاد العراقيين اليومي والكابوس الذي لا يفارق مخيلاتهم والرعب الذي لا ينفك عنهم؟
فلماذا العوز والحاجة والفقر والفاقة؟
هل العراق بلد فقير أو محتاج؟
أم انه بلد الخيرات بلد النفط والغاز والمعادن والزراعة والثروات المائية والحضارات والتاريخ فأين أبناء شعبه من هذه الخيرات والثروات؟
أم عليهم فقط أن يشاهدوا بأم أعينهم تلك الثروات والخيرات وهي تذهب لغيرهم؟
وكما يعبر الشاعر:
تموت العيس في البيداء ظمئا والماء فوق ظهورها محمولُ
أو قول الآخر :
تموت الاُسْدُ في الغابات جوعاپ ولحم الضأن تأكله الكلابُ
فلماذا أبناء العراق يعيشون تحت هذا الوضع المزري؟
السبب هو الفساد بجميع أنواعه المالي والاداري والسياسي والخلقي وغيره …
فعلي مستوي الفساد المالي والاداري تجد المحسوبيات والوساطة والرشوة والابتزاز والمحاباة والتعدي علي المال العام ونهب مليارات الدولارات يوميا ولا عجب !! وكيف لا ؟ فمن يتاجر بدماء الناس كيف لا يبتزهم حقهم ويمنعهم رزقهم؟؟؟
وهذا الفساد المالي قد جَرّ البلد الي التنازع بين الساسة والقادة مما أنتج التناحر والتقاتل والجميع شاهد وسمع واكتوي بتلك النار اللسوع، فتزعزعت القيم الأخلاقية القائمة علي الصدق والأمانة والعدل والمساواة وتكافؤ الفرص وتحولت هـذه القيم الأخلاقية الي السلبية وعدم المسؤولية وانتشار الجرائم ، ونتج جراء ذلك ضعف الاستثمار وهروب الأموال خارج البلد في الوقت الذي كان من المفروض استغلال هذه الأموال في اقامة مشاريع اقتصادية تنموية تخدم المواطنين من خلال توفير فرص العمل.
/2/2012 Issue 4124 – Date 17- Azzaman International Newspape
جريدة »الزمان« الدولية – العدد 4124 – التاريخ 17/2/2012
AZP07