العراق المعاصر
علي شاكر
عراقي، وأفتخر . أحدهم اختّطها على جدار عتيق في العاصمة الأردنية عمّان… قرأتها عابرا، تخيّلت الصرير الذي أحدثه احتكاك الرأس المدبب بطلاء الحائط، كم الأحباط والغضب الذي دفعه لتكريس الوقت والجهد لخدش جدار أصم بكلمات لا تغني ولا تسمن من جوع… عجيبة هي غريزة الفخر عندنا نحن العرب، كم سهل أن تستثار… تمنيت لو أني قد شاهدته وهو يحفر كلماته، تمنيت لو أني قد سألته عن أيّ عراق يتحدث وما تراه سر فخره به… أغلب الظن أنّه فتى غض سمع العبارة في مكان ما وأخذ يردّدها دون أن يتدبّر أن العراق بحدوده التي نعرفها الان محض اختراع بريطاني أبصر النور في العقد الثاني من القرن المنصرم… نعم، الأرض كانت هناك منذ الأزل وكذلك الإنسان والحضارات، لكنها كانت أقواماً ودويلات متصارعة لا تكاد نيران الحروب بينها تنطفئ حتى تعود لتستعر من جديد، فكانت الغلبة لبابل على اشور حينا، ولاشور على بابل حينا، والهزيمة لهما معا على يد غاز أجنبي في أحيان كثيرة. العراق الذي وصم الحجاج بن يوسف الثقفي أهله بالشقاق والنفاق ومساوئ الأخلاق في القرن الهجري الأول ليس عراق القرن الواحد والعشرين الميلادي ببغداده وموصله وكركوكه وأربيله، رغم أن تأريخنا المعاصر ليس بالضرورة أفضل من سابقه، فقد دشّنت دولتنا عصرها الأول بذبح الاف الآثوريين في الشمال، ثم امتد الاضطهاد العرقي ليشمل اليهود الذين طردوا من دورهم وأراضيهم لذنب لم يقترفوه… عراقنا المعاصر لم يوفّر حتى مؤسّسيه من الهاشميين، فانقلب عليهم ولم يراع فيهم إلّا ولا ذمة ولا حرمة نساء، قتلهم وقطّعهم إربا وسحل أشلاءهم في الشوارع والميادين في مشهد مريع تقشعر له الأبدان… ليس في عراقنا مكوّن واحد لم يضطهد القوميون، الشيوعيون، الماسونيون، الإسلاميون، الأكراد، التركمان، اليزيديون، كلهم اضطهدوا، كلهم سفكت دماؤهم… في الحقيقة، قد يكون ذلك هو ما أبقانا مجتمعين طوال عقود حتى إذا ما سقط آخر طغاتنا انقلبنا على بعضنا بعضاً وعملنا في بعضنا قتلا وخطفا وتعذيبا.
في روايتها المثيرة للجدل لقيطة اسطنبول التي تناولت فيها المذابح التي أرتكبتها الدولة العثمانية في آخر عهدها ضد مواطنيها من الأرمن والتي أوصلت مؤلفتها أليف شافاك الى المحاكم بتهمة الإساءة لبني جلدتها، تتكشّف الحقائق في الصفحات الأخيرة لندرك أنّ اللقيطة ليست سوى ثمرة اغتصاب خالها لوالدتها، شقيقته الصغرى… صدمت، شعرت بالاشمئزاز وكدت أرمي الكتاب جانبا ثم فكّرت قد تكون شافاك أرادت القول برمزية منفرة أن اضطهاد الأمم لأفرادها أشبه بفعل سفاح، يغتصب الوطن فيه ذاته… نفس المعنى وجدته عند مشاهدة الفيلم الكندي الاحتراق للمخرج دنيس فلينوف المقتبس عن نص مسرحي باللغة الفرنسية للمؤلف اللبناني الأصل وجدي معوّض… الأحداث تبدأ في بلد عربي لا يسمّيه الفيلم صراحة لكننا لا نلبث أن ندرك أنّه لبنان إبّان الحرب الأهلية… نوال، الشخصية المحورية تتعرض لاغتصاب منظّم في زنزانتها يثمر عن توأم تدرك بعد سنوات طويلة أن والدهما ومغتصبها ليس سوى طفلها الذي أنتزع منها رضيعا… انكشاف الحقيقة يصيب نوال في مقتل ويزلزل كيان أبنائها الثلاثة، يذكّرنا جميعا أنّ الظلم يورث ظلما والكراهية لا تزهر محبة أو تسامحا.
ماضينا ليس استثناء في مسيرة البشرية، مجازرنا ليست وحدها التي لطّخت صفحات التأريخ… نحن كسوانا من الشعوب، لسنا أسوأ ولا أفضل، فلا جدوى إذا من اللطم والعويل… كما أنّ الفخر فعل أحمق وفكر أجوف، كذلك هو استمتاع بعضنا بجلد الذات، محض هروب من الواقع لا يستهويني شخصيا… تعالوا، عوضا عن ذلك، نعيد قراءة تأريخنا بسلبياته وإيجابياته… بدلا من إضاعة الوقت والمال على مناقشات ومسابقات هزيلة لاختيار علم جديد أو نشيد وطني، تعالوا نتحاور ونتدبّر أنبقى معا أم نفترق… كمعظم العراقيين؟ كان مجرد التفكير بالتقسيم يصيبني بالغثيان، لكني اليوم أقول، بعد كل ما حدث ولا يزال يحدث، لو كان في تقسيم العراق حقنا لدماء الأبرياء، فليكن… حتى يتمخّض نزاعنا الحالي عن وطن واحد، أو ربما أوطان، تعالوا نتطّهر من أدران الماضي، تعالوا نعتذر بنبل وترفّع عن كل الأخطاء ولكل الضحايا… تعالوا نخطّها في ضمائرنا قبل الجدران نحن عراقيون، ونعتذر.
AZP07