العراق إلى أين..؟

العراق إلى أين..؟

 

 

معتصم السنوي

 

 

هناك مثل شعبي يردده الناس كلما ضاقت بهم الأمور وينقلب عاليهم سافلهم (أي يمشون بالمقلوب) في هذا الزمن الصعب.. والمثل يقول : المؤذن عجمي والمصلين هنود ” ويعني أن الصلاة لا تقام .. هذا واقع حالنا اليوم بعد أن طغت لغة الطائفية والمحاصصة والمنافع الشخصية على لغة التفاهم والعقل المجسدة لطموح الجماهير في الحياة الحرة الكريمة . ووصلنا نتيجة للمعاناة التي ضربت جذور المجتمع لليوم الذي أصبح فيه القابض على إيمانه كمن يقبض على الجمر .. فوسط هذا التدهور الشامل ، والتردي الذي لا سابقة له ، يحتاج المرء إلى قدر غير عادي من الثقة والتماسك حتى يؤمن بأن ثمة طريقاً للخلاص ، وثمة مخرجاً للجماهير من المأزق الذي سيقت إليه .. ليس لأننا نفتقد عناصر القوة والقدرة على أن نحتل مكاننا اللائق على خريطة العالم ، ولكن لأن كل شيء معبأ وموظف لتدمير أو على الأقل (لشل قدرتنا على أن نتجاوز المحنة) ، وعلى أن نقاوم عملية الدفع بنا إلى الخلف والعالم من حولنا يتقدم … والأكاذيب الجريئة هي ما يكتشفه المرء عندما يخدش الكلمات الكبيرة التي تصاغ بها البيانات والقرارات السياسية .. بل حتى دون ما حاجة لخدش هذه الكلمات … وعادات المجتمع الاستهلاكي يجري ترسيخها في بلاد لا تنتج حتى ما يوازي ثلث احتياجاتها ، وحيث الأسعار المستوردة من الغرب مع ما نستورده منها ، من سلع تجلب معها معدلات متزايدة الارتفاع لتكاليف المعيشة ، ومعدلات تضخم متسارعة الزيادة ، ومعدلات إفقار قياسية للجماهير الكادحة في الريف والمدينة.. يضاف لهذه الإشكالية. استيراد عشوائي من مناشئ وبلدان تدخل منتوجاتها في عداد السلع المتدّنية الجودة والنوعية . والإنسان في سعيه لتأمين مأكل وملبس ومسكن له ولأوّلاده ، يبدو وكأنما أصابه الدوار فلا يعود يعي إلى أي مصير يقاد ..  في هذا الطاحون المركب حيث يجري ( دش عظام الإنسان) تسحق أيضاً كل القيم القوية ، ما كان منها أصيلاً توارثناه ، وما كان منها جديداً طوره آباؤنا وأجدادنا في معارك مريرة خلال ما يزيد على قرن من الزمان . والعديد من القنوات مفتوح على العقل ، قنوات عربية وأخرى غير عربية، الكثير منها ، عربية كانت أو غير عربية، تبدو وكأن نبعها  واحد ..( مسموم) ، تصب من الأفكار والقيم ما تحاول به أفتراس الوجدان ، وإلى تكريس نظرة سطحية وغير علمية للأشياء ، وغرس قضايا صغيرة وهامشية في بؤرة الوعي، وطرد القضايا الجادة إلى هامشه.. حتى تستمر عملية دفعنا إلى الخلف دون مقاومة.. هنا تبرز بشكل خاص مسؤولية المثقفين .. والمثقفون في بلادنا أصبحوا يشكلون فئة عريضة وكثيفة معاً ، ثقلها ملموس في كل مناحي الحياة ، وبصماتها واضحة بجلاء في الحياة الفكرية والأدبية والفنية.. وأخطر من ذلك في الحياة السياسية. في جو التردي الذي نعيشه ، وحيث الكثير من المقاييس والمعايير قد اضطرب ، واختلطت الأوراق فإن المثقف الذي يقاوم ذاته ، ويصمد لضغوط حسابات الربح والخسارة في تحديد موقفه مما هو مطروح ، أو فيما يطرحه ، هو بلا شك إنسان فذ ، وهو بلا شك عملة نادرة في هذا الزمن الرديء .. أنه مما يدعو إلى الحسرة والمرارة أن عدوى حسابات الربح والخسارة قد انتقلت إلى تلك القوى التي كان مفترضاً أن تكون نموذجاً في الانحياز إلى المبدئية ضد حسابات الربح والخسارة ، والتي من أوليات مهامها أن تربي وتدرب على إخضاع المصلحة الخاصة للمصلحة العامة، وعلى أن تكون للقضية العامة دائماً الأولوية على القضية الخاصة الضيقة .. فكان أن خفضت هذه القوى راياتها لترفع رايات أخرى لا علاقة لها بشعوبنا إلا من زاوية أنها رايات قهر لهذه الشعوب، رايات غوغائية لا تستحي رغم الكثير من الاختبارات العملية التي مزقت أقنعتها ، وكشف زيف كلماتها الكبيرة وعباراتها عالية الطنين.. وليس من الصدفة أن حياتنا السياسية تشهد منذ سنوات ظاهرة جديدة لم نكن نعرفها من قبل ، أو على الأقل لم تكن على هذا القدر التي هي عليه الآن من التفشي والسفور ، ولم تكن موضع شكوى عامة ومحل انتقاد عام كما هي عليه الآن : هي ظاهرة التناقض بين القول والفعل ، وبين الموقف المعلن والممارسة في الواقع .. حتى نشأت أزمة ثقة حقيقية بين الجماهير وبين ما يقال لها ، سواء ممن يحكمونها ، أو ممن يعارضون باسمها .. وهنا قمة المأساة .. أن تجد نفسها بلا قيادة لكلمتها مصداقية ، ونداؤها يلقي الاستجابة الواسعة .. ولتجاوز هذه الأزمة فإن الدعوة إلى مراجعة الذات لن تكون أكثر من مناشدات أخلاقية تتلاشى أصداؤها حتى قبل أن تصطدم بالحقائق المادية .. هؤلاء المثقفون ” الأفذاذ” الذين يرفضون حساب الربح والخسارة منطلقاً لمواقفهم ، ولا يتعاملون إلا بحساب الصواب والخطأ .. الذين يعون قيمة وخطورة ما ” ينتجون ” من فكر ، وما يتخذون من مواقف ، ولا يلتزمون في ذلك إلا بالحقيقة ، ولا يشعرون في ذلك بالتزام إزاء سلطة أو ” دوجما ” وإنما إزاء الناس والتاريخ .. هؤلاء، وهم ليسوا قلة ، وإن بدوا كذلك فلأنهم متناثرون متباعدون .. هؤلاء هم القادرون على أن يرسوا الدعائم لجسر يُعبر عليه شعبنا أزمته ، وتخرج عبره من مأزقها .. هؤلاء هم المطالبون بتسليح الإنسان بالقدرة على تشكيل موقف نقدي من كل ما يطرح عليه ، ومن كل ما يراد صبه في عقله ووجدانه ..

 

 فبمثل هذا الموقف النقدي يستطيع الإنسان أن يواجه تلك الهجمة التي تستهدفه في وعيه ،  مشاعره ، ومصيره .. بمثل هذا الموقف النقدي أيضاً يستطيع أن يردع كل إدعاء بالحق في الأستاذية ، أو الوصاية الفكرية .. وأن يكسر تيه من يمارسون الإرهاب الفكري عليه باستعراض ” موسوعية ” معلوماتهم ، وأن يلزم ذوي النوايا الحسنة بأن يدققوا ويمحصوا ما يريدون طرحه.. تشكيل هذا الحس أو الموقف النقدي ليس بالمهمة السهلة ، فهو يحتاج إلى الكثير الكثير من المعرفة ، فالإنسان لن يستطيع أن يستقبل أمراً ما بحس نقدي ما لم يكن يعرف الكثير عن هذا الأمر ، وعما يتعلق به .. هي أيضاً مهمة تحتاج الكثير من الدربة والمران .. والدربة والمران لا يتأتيان إلا في مناخ من الحرية ..مناخ ليس به الخوف ولا التردد ، وليست فيه تلك الحواجز التي تسمح لأنواع  معينة من المعرفة بأن تمر ، وترد أنواعاً أخرى .. مناخ يسمح لكل فكرة أن تعرض نفسها في النور حتى يمكن الحوار معها ، فإما أن تبرر نفسها أو تتراجع .. وليس هناك ما هو أحق بحرية التعبير من أفكار تتعلق بمصير وطن وشعب .. وليس هناك ما يستحق حواراً وتدقيقاً مثل هذه الأفكار.. وليس هناك من يستطيع أن يشق الطريق إلى كل ذلك سوى كوكبة من مثقفين ” أفذاذ ” . وبعكس ذلك يصبح ” الوطن ” مجرد تذكار في ذاكرة التاريخ وصحراء في العوالم المنسية والمشطوبة من خرائط الزمن .. وليكتب على لوح الضياع . كان هناك بلدٌ أسمه العراق .