العراق.. أرض العجائب والمقامات المقدسة.. وحنين لا ينضب

تأملات ابن بطوطية: العراق.. أرض العجائب والمقامات المقدسة.. وحنين لا ينضب

د. مصطفي إبراهيم تيسيرتش – المفتي العام في البوسنة سابقاً

في تاريخ الإنسانية، هناك رحلات تتجاوز حدود الجغرافيا والزمن. ليست مجرد خطوات على الأرض، بل هي حجٌّ في عمق التاريخ، إلى قلب الروحانية، حيث تلتقي التقاليد مع تحديات العصر. كانت رحلتي الأخيرة إلى العراق من هذا النوع – إلى أرض الأنبياء والأولياء والعلماء، الأرض التي تشهد كل ذرة من ترابها على البحث عن الحقيقة، حيث يتوحد الماضي والحاضر في أفق روحي فريد.
بدعوة كريمة من السيد جواد الخوئي، الأمين العام دار العلوم للإمام الخوئي، مؤسس النهج االمنفتح في التشيع وأستاذ المرجع الديني الأعلى في زماننا، السيد علي السيستاني، كان لي شرف المشاركة في النجف الأشرف في إحياء ذكرى المولد النبوي الشريف لرسول الله محمد ﷺ. وبين نخبة من كبار علماء السنة والشيعة في العراق، حظيتُ بفرصة إلقاء كلمة في افتتاح المؤتمر وختامه. كانت تلك لحظة تحوّل فيها الكلام إلى جسور، والحضور إلى برهانٍ أن التنوع يمكن أن يكون ثراءً لا تهديداً.
لقد حرص المضيفون على أن تكون زيارتنا ذات طابع تعبدي وتعليمي ومُبهج. ومنذ اللحظة الأولى للاستقبال، شعرنا بالدفء والإخلاص اللذين طبعا كل لفتة وكل لقاء. كانت زيارتنا لعتبة ولروضة الإمام علي عليه السلام، وللمكتبة الكبرى في حرمه الشريف، في التاسع من سبتمبر 2025، محطة لا تُنسى. في تلك الخزانة الزاخرة بالعلم، حيث تُحفظ وتُنقل حكمة القرون، قدّمنا هدية رمزية: مونوغرافيا “سربرنيتسا – دعاء سربرنيتسا”، رمز ألمنا وصمودنا في آن واحد. وقد أدهشني غنى المخطوطات والكتب في المكتبة، إضافةً إلى النظام البديع في إدارتها.

وفي اليوم التالي افتُتح المؤتمر الذي استمر يومين – كان وقتاً للحوار، وللصبر، وللتفكير المشترك في التحديات التي يواجهها اليوم جسد الأمة. ثم مضت بنا الرحلة من النجف إلى كربلاء، حيث كل حجر وكل دمعة تحفظ ذكرى تضحية الإمام الحسين عليه السلام. لقاؤنا مع الشيخ عبد المهدي الكربلائي، نائب السيد علي السيستاني والمشرف على شؤون الحُسينيّات، كان مشهداً مهيباً محفوراً في قلبي كرمز للوقار والحكمة. لحيته البيضاء، وابتسامته الهادئة، ويداه اللتان حملتا صورتي وسيرتي، كانت أبلغ من الكلمات.
وفي حوارنا مع علماء الشيعة، كوني سنياً في روضة الإمام الحسين، حملت شعوراً لم أعرفه من قبل – شعور أن البحار الصافية العظيمة يمكن أن تلتقي وتتوحّد، لولا تلك الجداول الصغيرة العكرة التي تعكر صفاءها. لم يكن ذلك مجرد فكرة، بل تجربة حيّة: أن الأمة، رغم جراحها وانقساماتها، قادرة أن تجد قوتها في وحدتها، إذا أسستها على كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة.
ليلة في كربلاء – جرح لا يلتئم

بعد الحوار مع علماء الشيعة في مكتب الشيخ عبد المهدي، زرنا مرقد الإمام الحسين عليه السلام. لم نستطع الوصول إلى القبر الشريف بسبب الزحام الشديد – رجال ونساء من مختلف الأعمار، ومن شتى بقاع العالم، تدفّقوا كالنهر الذي لا ينقطع. النساء كلهن مرتديات السواد، يمشين بوقار وهيبة، بينما وقف الشبان – كثير منهم في ريعان الشباب – بخشوع، مطأطئي الرؤوس، يهمسون أو يهتفون بصوت عالٍ: «لبّيك يا حسين!». وبين تلك الهتافات كان يُسمع نشيج البكاء، خافتاً أو عالياً.
كان ذلك بحراً من الأرواح اجتمعت حول اسم واحد – الحسين. بعضهم يتلون القرآن، آخرون يرفعون أيديهم بالدعاء، وغيرهم يدخلون ويخرجون كما لو كانوا نهراً يتدفق بين شعاب ضيقة. لم ينقطع ذلك النهر البشري، وكل قطرة منه تحمل دمعة أو تنهيدة أو دعاء.
بعد الزيارة، دُعينا إلى مائدة عشاء قرب روضة الإمام الحسين. كان الأرز مع السلطة الخضراء والدجاج لذيذاً، لكن طعم الطعام لم يستطع أن يطغى على رهبة المكان. كان طعمه عابراً، أما أثر الحضور في قلب كربلاء فبقي عميقاً وأبدياً.
عدنا إلى الفندق، لكن النوم لم يأتِ. كانت حرارة الجو خانقة، لكن ما كان أشد منها وقع صوت العبادة المتواصل من روضة الإمام الحسين، الذي كان يتردد صداه طوال الليل. لم يكن ذلك مجرد صوت، بل كان صوت القرون، بكاء التاريخ، دعاء الأمة. ومع ذلك، فإن ما حرمني النوم كانت الأفكار التي غمرتني: فكرة يزيد بن معاوية – رجل بلا قلب ولا روح – الذي تجرأ أن يرفع يده على سبط رسول الله ﷺ، الإمام الحسين، وأهل بيته.

تساءلت – ولم أجد جواباً، ولن يكون هناك جواب أبداً: كيف، ولماذا، كان ممكناً أن تقع تلك الطعنة الدامية في كربلاء؟ جرح ما زال ينزف حتى اليوم في جسد الأمة. الذين ظنوا أن كربلاء ستُنسى، خاب ظنهم، كما يخطئ اليوم من يظن أن جرح غزة سيُنسى. لا كربلاء نُسيت، ولا غزة ستُنسى.

إن التقليد السني لم يطور عادة إظهار الحزن على الحسين كما يفعل الشيعة، لكن لا يوجد مسلم ذو قلب وروح يمكن أن يبقى غير مبالٍ أمام المأساة الدامية للإمام الحسين. وقد شعرت بذلك الشعور على نحو خاص في تلك الليلة، بين الخميس والجمعة، 11-12 سبتمبر 2025، حين قضيت الليل في كربلاء ساهراً – مستيقظاً في أحلامي عن ألم الأمة واملها في نفس الوقت.
بغداد – الجمعة في ظلال الإمام أبي حنيفة

مع بزوغ الفجر غادرنا كربلاء متوجهين إلى بغداد، مدينة التاريخ الممتد لألف عام، مركز الخلافة ومفترق الحضارات. كان مقصدنا أداء صلاة الجمعة في جامع الإمام الأعظم أبي حنيفة، أحد أعظم معالم التراث السني.
قادنا دليلانا الكريمان، علاء وعلي، في الوقت المناسب إلى الجامع، حيث استقبلنا الإمام والخطيب عبد الوهاب السامرائي في مكتبه بترحاب كبير. كان شاباً مفعماً بالحيوية، ميالاً للسلم، وقد أبدى كرم الضيافة منذ اللحظة الأولى، إذ خصص لي مكاناً مميزاً في المسجد.

يقع جامع الإمام أبي حنيفة في قلب الأعظمية على ضفاف نهر دجلة، ويعبق بروح الأندلس في زخارفه. وعن يسار المحراب يرقد ضريح الإمام أبي حنيفة، بسيطاً متواضعاً، ساكناً وقوراً، بعيداً عن مظاهر البذخ والزخرفة. لقد كان ذلك الضريح المتواضع شاهداً أبلغ على عظمة رجل لم يطلب زينة الدنيا، بل ترك نور العلم والحكمة الذي لا يزال يضيء الأمة إلى يومنا هذا.
كانت خطبة السامرائي بليغة مؤثرة، غنية بالمضامين. أثار إعجابي تركيزه على القضايا الراهنة في العراق وغزة، وربطها بالعدوان الإسرائيلي على قطر، وكل ذلك في سياق شهر المولد النبوي الشريف. وإشارته إلى الشعر خلال الخطبة أضفت عليها نكهة خاصة – مزيج من المعرفة والحكمة والجمال – أعادت إلى الأذهان تقاليد العلماء الكبار.

وبعد الصلاة، أشار الإمام السامرائي إلى حضوري من البوسنة. كان ذلك لحظة فتحت قلوب المصلين، فتقدم كثيرون للسلام عليّ بكلمات ترحيب صادقة. وكان من بينهم من خاطبني بلغة البوسنة، إذ درس بعضهم في يوغسلافيا السابقة. كان ذلك بمثابة جسر يصل الماضي بالحاضر، يربط البلقان بالعراق، ووديان البوسنة بضفاف دجلة.
وبعد صلاة الجمعة، كان لنا غداء مشترك في ديوان الإمام السامرائي. ثم رافقنا في زيارة ضريح الإمام أبي حنيفة، حيث وقفنا أمام قبر ذلك الإمام العظيم وقرأنا الفاتحة لروح رجل خدم الحضارة الإسلامية بعلمه وحكمته كما لم يفعل إلا القليل من العلماء في تاريخ الإسلام.

امتحان أمام أبي حنيفة وليلة على ضفاف دجلة

كنت متعباً، لكن كل لحظة من لحظات بغداد كنت أعيشها بكثافة الأفكار التي كانت تتزاحم في رأسي ونحن عائدون من الجامع إلى الفندق في الكاظمية. شعر الجسد بالراحة حين لامست رأسي الوسادة، لكن الأفكار لم تهدأ – كانت تتكاثر وتعود بي إلى النجف وكربلاء والأعظمية.

في تلك اللحظات تمنيت لو أستطيع أن أعرّف نفسي للإمام أبي حنيفة؛ أن أقول له إنني من البوسنة، وأن أخبره أن البوشناقيين – مسلمي البوسنة – يتبعون مذهبه في الفقه والمذهب الماتريدي في العقيدة، الذي نُقل إلينا من مدرسته المباركة. أردت أن أقول له إنني نلت شهادة الدكتوراه من جامعة شيكاغو في العقيدة الماتريدية.
كنت أود أن أشرح له أننا في البوسنة نطبّق مبدَأه في التيسير في العبادات والمعاملات، وأننا نصون وصيته في رعاية الفقراء والضعفاء، ونحفظ فكرته في حماية حرية الإنسان وكرامته، وخاصة المرأة، وأننا على نهجه نقاتل من أجل المساواة بين الناس مهما اختلفت أديانهم وأعراقهم.
آه، لو كان ذلك ممكناً! كنت اود أن أجلس بين يدي أبي حنيفة، أقبّل يده وأصغي إلى درسه على ضفاف نهر دجلة، حيث كان يسير مع تلامذته ويحدثهم عن دلائل وحدانية الله وقدرته في خلق الكون. كان يشير إلى سفينة تعبر النهر ويسألهم: «هل وُجدت هذه السفينة بنفسها أم لا بد أن يكون لها صانع؟». وكان الجواب واضحاً – لا شيء ينشأ من تلقاء نفسه، بل لكل شيء خالق.
وأتذكر حجته التربوية عن الصلوات الخمس: أن النفس إذا تطهرت خمس مرات في اليوم ستنقى من الذنوب، كما أن الجسد إذا اغتسل خمس مرات في نهر دجلة لا بد أن يطهر من الأدران.

وكأن دليلينا علاء وعلي قد علما بما يجول في خاطري وأنا مستلقٍ، فدعَونا إلى عشاء على ضفاف نهر دجلة. كانت ليلة من ليالي الشرق – وليست أي ليلة، بل ليلة أسطورية من «ألف ليلة وليلة». حكاية علي بابا والأربعين حرامياً بدت وكأنها لم تكتمل، بل تستمر في ضوء القمر ووهج الشموع، مع دخان الأرجيلة وهمس خرير الماء. تلك الليلة على دجلة كانت أحلى من كل مأكولات بغداد.
ولم نفوت فرصة ركوب النهر، لا في قارب خشبي من زمن أبي حنيفة، بل في قارب حديث من معدن وبلاستيك كوري الصنع. عاشت أزرا التجربة بطريقتها الخاصة – وفي عينيها انعكست بهجة اللحظة – بينما عشتها أنا كوصالٍ بين ماضٍ مجيد، وحاضر مضطرب، ومستقبل مشرق للأمة. وكانت لحظة حنين إلى تلك الأزمنة الذهبية للحضارة الإسلامية، التي أنارت العالم بالإيمان والعلم والحكمة.

 

سراييفو: ربيع الأول 23، 1447
سبتمبر 15، 2025

مشاركة