العراقيون واللون الأخضر
رمز إيجابي يرتبط بالتفاؤل في رحاب المزارات
ساطع هاشم
يرتبط اللون كمفهوم ومصطلح في اذهان الناس بالاشياء والحاجات التي تحمله، وليس كشئ مستقل قائم بذاته، وذلك لاسباب بايلوجية اساسا، فالعين البشرية تميز بين اللون والشكل في وقت واحد وبشكل مترابط، لذلك فمن المستحيل فصل اللون عن الاشياء واشكالها، وقد قامت بضع اتجاهات فنية تجديدية في بداية القرن العشرين في تجارب لفصل اللون عن شكله، ومازالت مثل هذه المحاولات والنزعات مستمرة عند عدد من الفنانين الشكلانين، الا انها لم تستطيع تغيير شئ من واقع الطبيعة كما حلم بذلك مؤسسوها الاوائل.
نظرا لمحدودية اسماء الالوان في اللغات، ولأننا نستعملها ونشير اليها كتدرجات لونية مرتبطة بالاشياء وليس كمصطلحات ذات معنى مطلق، لهذا السبب فإن معانيها ورمزيتها متناقضة بشكل كبير جدا، ولا يوجد لون واحد الا ويحمل معه النقيضين تبعا لوصف الاشياء، ولتوضيح هذا الامر سنخصص مناقشتنا المختصرة هنا للون الاخضر، فهو الى جانب الاسود لعب دورا فكريا وثقافيا هائلا في الرمزية الشرقية وعقائدها المتنوعة، منذ بداية الثورة الزراعية في العصر الحجري الحديث وحتى الان، وارتبط هذان اللونان بشدة في عاداتنا وتقاليدنا في التوصيف المجازي البصري في الفنون الدينية والدنيوية عامة، لفكرة الخير والشر، الجنة والنار، الموت والميلاد وفي عموم النظرة الثنائية للعالم والحياة التي رافقت نشوء وتطور الديانات وتعدد الآلهة للمدن والمهن والظواهر الطبيعية، مثل آلهة المياه المتعددة، والهة القصب، والليل والنهار وغيرها العديد جدا، ما جعل من الاخضر والاسود يرتبطان بالكثير من المعتقدات الخرافية والاوهام والغيبيات والاساطير، ما زالت مترسخة سيكلوجيا وروحيا عميقا جداً في بلادنا ومن الصعب تجاوزها أو إزالتها في وقت قريب، ومن المؤسف ان تاثيراتها في السياسة والديانة والقواعد الاخلاقية ونظرة الناس المعاصرة اليها لم تدرس لحد الان من قبل المختصين بعلم الاجتماع لا القدامى منهم ولاالجدد.
طفرة هائلة
لم تحدث تلك التحولات في ذلك الماضي السحيق نتيجة لصدفة سعيدة او رغبة فردية لبشر خارقين، بل لحاجة انسانية ضرورية للحياة، والصراع في سبيل البقاء، تزامنت مع انتقال الانسان من حياة الصيد والترحال الى الحياة الزراعية والاستقرار، حيث شكل هذا التحول اعظم نقطة في تاريخه لم توازيها على مدى الاف السنين غير تحوله قبل مئتين سنة الى العصر الصناعي والتكنولوجي الحديث.
وهذه الطفرة الهائلة التي حدثت في حياة البشرية قبل حوالي ثمانية الاف سنة، مع نهاية العصر الجليدي الاخير في الارض، مرت بمراحل متعددة، كانت قد بدأت باستعمال الحجر وصقله ثم صناعة الفخار واعقبها اكتشاف المعادن وطرق جديدة لاستعمال النار وتغيير البيئة المحيطة، وكان من اول تلك المعادن المكتشفة واهمها هو معدن النحاس، ومنه صنعت سبيكة البرونز او الصفر باللهجة العراقية، وذلك بخلطه مع نسب قليلة لاتزيد عن الاربعة بالمئة من معدن اخر، ولم يحدث ذلك فجأة وبسرعة، فقد احتاج الحرفيين الاوائل الى حوالي الخمسمئة سنة لاتقان استعمال هذه المادة الجديدة ومعالجتها بشكل صحيح ومقبول، وتبلورت خلال هذه العملية الطويلة المهن الصناعية الاولى حولها، مثل مهنة الحدادين والنجارين والنساجين وغيرها من مهن المجتمع الزراعي، وسميت هذه المرحلة بنهاية العصور الحجرية وبداية العصر البرونزي، الذي استمر لحوالي أربعة الاف سنة حتى تم اكتشاف الحديد بحدود سنة 1500 قبل الميلاد.
تمجيد تموز وعشتار
لقد غيرت صناعة النحاس والبرونز والمهن المنبثقة عنها الحياة الاقتصادية والاجتماعية للناس بشكل لا مثيل له قبله وخلقت حاجات فكرية جديدة كان على اصحاب السلطة قيادتها وتوجيهها بما يتلائم ووضعهم الجديد، فانبثقت ديانة تموز عشتار كحاجة ضرورية للتنظيم الاخلاقي والروحي للناس من تقاليد عبادة الأم القديمة التي كانت منتشرة في مناطق عديدة في عالم الصيادين الرحل، ونشأت معها طقوس عبادة جديدة ساعدت على ادامة الوحدة الجغرافية والعشائرية وفرضت عليهم التفكير العقلاني في إدارة الانتاج الزراعي والاستهلاك والتبادل ثم الدفاع عنها والكفاح في سبيلها.
وفي هذه المراحل الاولى بالذات من تطور المدنية وبزوغ شمس الحضارة ابتكرت الأصباغ الزرقاء والخضراء لأول مرة في حياة الانسان، فهي لم تكن معروفة لانسان ما قبل العصر البرونزي، فزينت بها المعابد والمنتوجات، وكان لجمالها وصعوبة إنتاجها والحصول عليها دورا كبيرا في تمجيدها وإسباغ المعاني الرمزية الخارقة عليها في طقوس العبادات الدينية المتنوعة ومن ثم في الحياة اليومية للناس، كما تجسد ذلك في رموز الالهة المتعددة التي وصلتنا بعض بقاياها، والتي ابرزها شعار الشجرة بين حيوانين اليفين كرمز الى الاله تموز، والذي رسم ونحت باشكال واساليب متنوعة جدا، منها اله بيده غصن يطعم حيوانين او الشجرة وحدها مع رمز حزمة القصب للدلالة على عشتار او صراع بين حيوان اليف وحيوان وحشي وعلى الجانبين شجرة او غصن او شئ قريب اليهما، واصبحت الالوان الخضراء المائلة الى الازرق التي طليت بها شجرة تموز هذه بحد ذاتها رمزا مقدسا يحمل بداخله معاني مجردة متعددة يعرفها المجتمع، ولابد هنا من التذكير بان المنحوتات التي نعرفها الان من تلك الازمنة كانت تطلى بالاصباغ المتنوعة وقد اندثرت الان لهشاشة تركيباتها، ومنذ تلك العصور استمرت عادات التمجيد والتقديس للاخضر والاسود كرموز لتموز وعشتار، وهي متجذرة في مجتمعاتنا إلان بمعان دينية مختلفة.
وأنواع الأصباغ الخضراء التي صنعت وانتجت انذاك هي عموما من خامات ومركبات النحاس، اما الأنواع المتميزة والغالية منه فاستخرج من أحجار اللازورد والياقوت والعقيق بوسائط صناعية وكيميائة احتاجت الى خبرات ومهارات متنوعة ومعرفة جيدة بصناعة وتحويل المعادن من شئ إلى آخر ومن مادة إلى أخرى وهو ما يطلق عليه في زماننا الآن بالصناعات الكيميائة، وهناك انواع اخرى كان مصدرها بعض النباتات والزهور البرية استعملت على الاغلب في صناعة النسيج.
وتعتبر كاربونات النحاس المعروفة باسمها الدولي ملاكايت اقدم الاصباغ المعروفة، التي استعملت في الحضارات القديمة ومنها العراقية، وكذلك الاصباغ المستخرجة من زنجار او صدا النحاس وانواعا اخرى لامجال لنا هنا من ذكرها وهي جميعا لاتشبه في بريقها ونوعيتها الاصباغ الخضراء في عصرنا الصناعي هذا وغالبيتها تميل قليلا او كثيرا الى الازرق كما نعرفه في مصطلحات اليوم.
تحولات الرمزية الغربية
رمزية اللون الاخضر منتشرة عند كل شعوب العالم بدون استثناء، فالاخضر عندنا لون ايجابي بشكل عام يرتبط بالتفاؤل ومزارات الائمة والمتقين، والجنة الموعودة، وهذا تقليد قديم كما اوضحنا، لكنه لون سلبي في معتقدات اليونان القديمة وروما بعده، فقد ارتبط عندهم مثله مثل الازرق بالبرابرة والعبيد، واستمر هذا الاعتقاد في اوربا حتى القرون الوسطى كرمز الى الفلاحين والاقنان والانحطاط والشر ايضا.
ومنذ منتصف القرن السادس عشر وانتشار حركة الاصلاح الديني حدثت تحولات جديدة في الرمزية الغربية، فمثلا ربطت الارستقراطية الفرنسية اللون الاخضر بالقسمة والحظ والنصيب بسبب ابتكارهم لبعض العاب التسلية مثل المقامرة والمباراة ولهذا اصبحت طاولات القمار خضراء وورق اللعب اخضر وانتشرت منهم كتقاليد للعالم كله في العاب الحظ وخاصة في الرياضة، كما في طاولة البليارد الخضراء ومنضدة كرة المنضدة الخضراء، وساحات كرة القدم والطائرة والسلة وغيرها الخضراء وليس لالوان هذه الملاعب علاقة بحشائش الطبيعة الخضراء كما هو شائع. اما في امريكا فعملة الدولار خضراء، وبطاقة الاقامة الدائمة للاجانب خضراء وفي لغة الاسكتلندين يعني الحنين والشوق، وقد وصف روبسبير الاخضر بكونه علامة النزاهة والشرف، وكان الاخضر لون نابليون المفضل وهو اللون الذي قتله في منفاه في جزيرة سانت هلين ايضا، حيث طلب بان تكسى جدران منزله هناك بورق الجدران الاخضر الزمردي حيث كان ابتكارا صناعيا جديدا انتشر ذلك الزمان، وكانت الاصباغ الخضراء المستعملة على الورق هذه مطورة عن صبغ اخضر اخترعه الكيميائي السويدي سشيل ويحتوي على الزرنيخ، ولم تعرف اضراره الابعد عدة عقود من الزمن، فعند تعرض ورق الجدران الى الرطوبة والتعفن فذلك ينتج عملية كيميائية تؤدي الى بخار الزرنيخ السام، ثم تؤدي الى مرض يسمى كاسيو نسبة الى مكتشفها، وهذا ماحصل لنابليون، حيث مات بسبب قرحة بالمعدة تحولت الى سرطان، وقبل دفنه قام بعض اتباعه بالاحتفاظ بخصلات من شعره، وقد بيعت قسما من هذه الشعرات بالمزاد سنة 1960 وقام برفسور من جامعة كلاسكو بفحصها وعثر فيها على مادة الزرنيخ، التي يرجح الغالبية من المختصين الان الى انها كانت سبب وفاته.
ولا يقتصر ربط اللون الاخضر بالخرافين والغيبيات والطرهات على العامة من العراقيين وحدهم، بل حتى ارقى الادمغة في العصر الحديث لم تسلم منها، وقصة المؤلف الموسيقي الشهير شوبرت مضربا للمثل في الخوف من اللون الاخضر وقد قال مرة بانه على استعداد للذهاب الى جهنم لتجنب هذا اللون الملعون وهذه الفوبيا او المرض العصابي من هذا اللون الذي من المستحيل تجنبه قد اضاف تعاسة على تعاسته التي كان يعيش بها اصلا.
اما تولستوي فقد كان يضع في السنوات الاخيرة من حياته امامه على منضدته كلما اراد ان يكتب قطعة من الكريستال الاخضر بسمك ورق الكتابة اهديت اليه من قبل عمال معمل براينسك للزجاج مكتوب عليها دع الفريسيون والاب الاقدس يطردونك كما يأملون، سيبقى الشعب الروسي دائما يثمنك باعتزاز وعندما مات دفن في المكان الذي طلبه حسب وصيته، وهي منطقة كان يتردد عليها مع اخوته ايام الصبا والشباب، لانهم اعتقدوا ان هناك قضيبا اخضر مدفون فيها مكتوب عليه كل اسرار السعادة للجنس البشري. ولا ادري بعد لماذا سمى الشاعر سعدي يوسف نفسه بالأخضر بن يوسف.
AZP09