(العراة) لعبد الأمير المجر انموذجاً

 (العراة) لعبد الأمير المجر انموذجاً

سيمياء الحدث بين سويوكلوجية الشخصية ودلالة المسرود

محمد كتوب المياحي

طرح المنهج السيميائي نفسه كمنهجٍ فاعلٍ لا غُنى عنه في الدّرس النّقدي ، ومنذ جذوره الأولى المتمثلة بمحاضرات ( دي سوسير) ، والتي فتحت للمختصين في بناء التراكيب اللغوية  أفقاً رحباً ، لاسيما  في المجال الجمالي الفني اللساني .

   اختص مفهوم السيميائية بالعلامة ؛  وعليه جعلنا هذا المنهج نعيش داخل النص السردي وفق الاشارات التي تُحيلنا للمعاني التي يتوخاها صاحب النص  والتي تهدف إلى تمرير رؤيويته ( فكرته) .   ولابدّ من الاشارة إلى أنّ في النص الأدبي ( سرداً ، أو شعراً)  يبحث التحليل النقدي عن المدلول (المعنى) ، وفي الوقت ذاته لا ينوب الدال عن المدلول بل يحمل تصوّراً لدلالة المعنى ، وهذا ما تتكفله الأيقونة السيميائية ،  ومنها  سيمياء الحدث بما تفضي من إشارة .

  وعليه حمل  البعد الاشاري في المنجز الأدبي تشكلّاً تأويليّاً ؛ لذا أفرز هذا السلوك النقدي بنية إمتاعية تخترق بواطن متلقي النص ، شريطة  تحلي الكاتب بالمهارة والدربة التي تمكنه من توظيف التدفق النفسي ومحفزاته ومن ثم تعالقه مع طبيعة نسيج النص وبناءه بشكل مائز ؛ هذا التعالق يتضح بشكل جلي بالتضافر بين مفاصل ثلاثة ( السيمياء ، و السويوكلوجية ، و فنية البناء السردي ) .

دلالة السرد

  تأسيساً على ما ذُكر ورد هذا المقال النقدي تحت عنوان (سيمياء الحدث بين سويوكلوجية الشخصية ودلالة المسرود ، قصة (العراة) للقاص عبد الأمير المجر أنموذجاً ) ؛ لنثبت أن لدينا أدباء معاصرين يمتلكون المقدرة في تطويع القصة القصيرة لاستقطاب ما تجود به الساحة النقدية من مظاهر مستحدثة ؛ فتُطرح القصة القصيرة العراقية كأنموذجاً غني مؤثر في الذائقة .

  في هذه القصة وردت (السردية الدلالية) متواشجة مع ( سيميائية السرد) و متداخلة مع البناء السويوكلوجي للقصة ؛ و قد جاء هذا الطرح  متساوق منذ مستهل السرد ، فالشخصية تجد نفسها وهي داخل الفندق مجردة من ثيابها دون معرفة السبب ، يقول السارد :

( … تمتلكني حيرة قاتلة …) حيرة سببها التعري التام لجسده ، ويقول :

( حين صحوت من نومي ، صعقت  وارتبكت تماماً ، ولم أعرف كيف أتصرف ، فأنا عار تماماً حتى  ملابسي…الخ ).

    هذا التعري في خطاب القصة حدث إشاري (سيميائية) وعلامة لخلجات تعاني منها الشخصية ، وهو بناء دلالي  قصده القاص وبحرفية فنية بأن يكشف إرهاصات الواقع المعيش وتناقضاته المزرية ؛ بسبب تسلط أصاحب القرار السلبيين والتخاذل من قبل الكثيرين  ، تلك السلطة الحاكمة التي جرّدت الأنفس من أبسط حقوقها ، فالتعري في مسرود القصة ثيمة موضوعية ورد لدلالة مفادها أن الفاسد اغتصب الحقوق وعرى أبناء الشعب من كل ما يملك  ، من هنا لم يعزل السرد  الشخصية عن جزئيات مكانها ، فالفندق أيضا يحمل بعُداً إشاريا (سيميوطيقياً)  .

   و يمكننا تأويل المكان  في قصة ( العراة) على أنّه الوطن الذي حكمه الفاسدون ، فبدأ السرد ومن خلال رؤية الراوي ، بتناول الحيز المكاني الذي تسكنه الشخصية (الغرفة) ، والتي تشير إلى ( المكان الحقيقي للشخصية –  البيت  – ) ، و الفندق علامة سيميائية تُشير إلى (الوطن المستلب) ، و خشبة السرير بُعد إشاري الى ( هدوء المكان وجزئياته المفقودة ) ، لذا يقول في مقاطع :

)  … وممدد على خشبة السرير الذي تعري هو الآخر من كل اغطيته وافرشته …)  ، و في مقطع :

  ( … نظرت إلى أرجاء الغرفة فوجدتها عارية هي الأخرى) ، ويقول من خلال البنية الواصفة الموظفة للغرض ذاته :

  ( … فوجدت الصمت يخيم على الفندق بأكمله ولا أثر لأية حركة فيه ، فتحول الخوف إلى رعب قاتل ، فالغرف التي تجاورني بدت كما لو أنها قبور ) .

تأسيساً على  ذلك ومن خلال هذه النصوص ترى القراءة أن القاص (عبد الأمير المجر) يجسد ما ذهب إليه ( غريماس ) في تحليل الحكاية ؛ فهو يجد أنّ الحكاية وجزئياتها مقابلة بين الدال ( الشكّل) والمدل (المحتوى ) ، فالمسرد في هذه القصة تشكل سيميائي ينبلج منه معنى الاستلاب وسلب الحق وأثره على الذات ؛ التي قد تفرز في بعض الأحيان ردود صِدامية وخط مواجهة للظلم / يقول في مشهد : ( … إنها قبور ، يغلفها صمت مطبق ، حينها قررت أن أكسر الصمت المخيف هذا بأطلاق صرخة …) .

  التناقضات والخذلان كانت الثيمة التي تقلق الشخصية ، فالقاص ومن خلال سيمياء الحدث جسد هذا الخذلان والخنوع ؛ وعليه نجد البناء الواصف في القصة  يصف الذين يسكون الفندق ( الوطن ) الذي تسلّط عليه العتاة بأنّهم متخاذلون يتسمون بالجبن ، أشخاص يحتاجون من يوقظ  صمتهم التأريخي ، مع وجود المحفز والمشجع  لهؤلاء للنهوض والثورة إلا أن الاستجابة ضعيفة والتفاعل من يدعو للنهوض ضد الفاسد المغتصب ، يقول في مقطع :

  ( كانت صرختي مدوية فعلاً ، جعلت الرؤوس تنز من الغرفة المجاورة ، لكن أحداً لم يخرج بكامل جسده من غرفته ، بل رؤوس مذعورة فقط…). ويقول :

   (… إننا سُرِقنا ولم نعد نملك أي شيء ، أموالنا ، ملابسنا وأحذيتنا ، وليس لدينا ما نستر به انفسنا فكيف نخرج).

  حاول القاص تشخيص البعد السويوكلوجي من خلال تجاوز عقدة الخوف فجعلها تتأرجح بين الظهور والاختفاء ، يقول :

   ( بعد دقائق  فوجئت بمجيء رجل في منتصف العمر ، كان يسير في الممر بطريقة مخاتلة وهو عار تماماً أيضاً ويرتجف… حين أطلت الرؤوس ، الحائرة المحجوزة في غرفتها … تحرر الجميع من خوفهم وخرج بعضهم على استحياء وهم عراة أيضاً …) .

نجد في هذا المقطع  سيمياء السرد ودلالاتها جلية ؛ فالقاص يسعى وبشكل جلي لطرح  محاولات التخلص من الظلم ؛ فيُشير سيميائياً (إشارياً) بأنّه يجب أن تكون تلك المحاولات الثائرة  ذات سمة تتصف بالإقدام وليس كما رسمه المسرود  (ضعف الحراك)  🙁 خرج بعضهم على استحياء) ، نلاحظ – هنا –  الدلالة  واضحة فالخروج على الظالم لابدّ أن يكون منظماً شجاعاً لا يقبل القسمة على اثنين ، وأن تتحلى الذات الثائرة بالمعزم وليس بالانهيار نفسي أو أن تكون ذات مربكة من الباطن فيتلاشى الأقدام في داخلها .

صور موجية

  وتتضح الإمكانية السردية الكبيرة التي يتحلى بها كاتب النص من خلال الاستمرار برسم الصور الموحية وفق المبنى السيمائي ، فجعل القاص ( عبد الأمير المجر)  جزئيات المؤسسة التابعة للبلد هي الأخرى عارية ، بمعنى خالية الوفاض وغير مجدية أو أنّها ذات نفع للناس ، وعليه وصفها إشاريا بأنّها الأخرى عارية ، يقول الراوي :

  ( إنّ كل شيء في الفندق اختفى ،وإنّ المدير والموظفين وعمال النظافة جميعهم باتوا عراة ) ، فالفندق هنا إشارة ( للوطن) كما ذكرنا سابقاً ، و(المدير) دلالة على الحاكم الذي يتسم بفقدان الدور وهو بالنتيجة بحكم العاري المتجرد من الفائدة لرعيته ، فالعري -هنا-  كشف سوءة  الفساد والإفساد ، (الموظفون) رجال المؤسسات وأهل سلطة الذين هم رأس الفساد ، (عمال النظافة) -أيضاً- دلالة وعلامة سيميائية على أبناء الوطن

؛ لأنّهم هم من يُطهّر البلد من الدنس والظلم ، و هم من يظهرون الوطن بأجمل حُلة من خلال انتخاب الأصلح ، فضلاً على أنهم أداة تنظيم الحياة ، وهذا ما لا نجده في واقعنا المعيش ، النص يوحي ويرمز للظاهرة المفقودة ( الحرص والانتماء الوطني)  ؛ من هنا حاول القاص وضمن البعد الاشاري أن يرسل رسالة  للمتلقي بانّ الوطن أمانة عند الحاكم لكن في الوقت ذاته أمانة بيد أبنائه ؛ فهم جزء من المؤسسات وجزء من الواقع الاجتماعي .

   وعليه يمكننا القول أن ( التعري) في هذا النص أتخذ أكثر من دلالة سيميائية :

– تعري الحقوق  واستلابها من قبل المتسلط المفسد .

– تعري عن الشجاعة والأقدام في المطالبة بالحقوق .

– تعري عن الدور الذي يتحلى به أبناء الوطن .

هذه التمثلات لثيمة (العُري) وتعددها ، هي التي جعلت  القاص ينتخب عنوانه بصيغة الجمع (العراة) ، ففي نظره المشكلة التي يعاني منها الوطن ( مشكلة تخلي ) يشترك بها الجميع ، تخلي عن المبدأ أو تخلي عن نزعات الافساد والأنانية أو تخلي عن الخوف والشعور بالعجز أمام التسلط ،  عليه عد الكاتب ظاهرة ( التعري)  العقدة  الأبرز التي ارهقت كاهل البلد .

مشاركة