محنة الزمن في رواية تسارع الخطى لأحمد خلف
العتبات والإيقونات والتقنيات – نصوص – سمير الخليل
رواية (تسارع الخطى) للروائي أحمد خلف صدرت عن دار المدى عام 2014 وقد اختزلت أحداثاً وحكايات تعبّر عن محنة الإنسان في هذا الزمن الأغبر بل تعبّر عن أزمة ألمّت بالعراقيين عامة والمثقفين على وجه الخصوص ولاسيما بعد الاحتلال الذي قوّض الوطن والإنسان وحوّلهما إلى خراب حقيقي.
العتبات :
لاريب في أن عتبة العنوان تمثل إيقونة مهمة في قراءة وتأويل متنها السردي إذ كان عنوان (تسارع الخطى) اختزالاً مضغوطاً لحركة النص فأصبح موجهاً يسترشد به المتلقي للكشف عن دلالاته العميقة، وقد اتضحت أهمية هذه العتبة مع ظهور منهج نقدي جعل من العنوان أداة إجرائية في أدواته التحليلية إذ أنَّ ((له وظائف شكلية وجمالية ودلالية تعدّ مدخلاً لنص كبير)))، فالتسارع يحيل إلى حركة الشخصية والسرد وإلى التقلبات السريعة في المواقف والأفكار والقيم التي أصابتها اهتزازات غيرت من أصولها المتعارف عليها.
يشير عنوان الرواية إلى (التسارع) في تغيّر الأحداث وتقنيات الزمن، وقد تكون قيمة التسارع بالمعنى العام إيجابية أو سلبية على حدّ سواء، والتسارع مصدر للفعل الخماسي (تسارع) الذي فيه مشاركة وحث من لدن النفس أو الآخر وكأنَّ هناك منافسة بين خطى الشخصية وخطى خاطفيه الذين يلاحقونه أو بين أقدامه هو، وسيميائية العنوان تحيل إلى ما يجري في حياة الشخصية من تسارع مضنٍ في خطاه وما مرّ به من حدث رهيب قلب موازين حياته الشخصية حدّ الرعب الذي دفعه إلى تغيير حتى اسمه، والتسارع يلخص وضع الشخصية المحورية (عبد الله) في مواجهة حدث الاختطاف والتخلص منه هرباً، واسم الشخصية نفسه يحيل إلى كل عبد من عباد الله ممن يعيش زمن الرعب والأحقاد وعدم وضع الفوارز بين الأصوات.
فالتسارع بوصفه مضافاً معرّفاً بـ(الخطى) مبثوث في ثنايا الرواية سواء أكان حضوراً نصياً أم استخلاصاً من تقنيات السرد الروائي فحضوره النصي يتجسد في لغة السرد عندما يتحدث (عبد الله) الشخصية الرئيسة مع (فاطمة) التي فكّت وثاقه راشدة إياه إلى طريق الفرار وناصحته: ((حين تنطلق كن حذراً من الطريق وكل شيء تراه قريباً إليك، لا تلتفت إلى الوراء، عليك أن تصغي إلى تسارع الخطى إلى وقعها المتصاعد مع الجري المتلاحق، خطاك وهي تصنع لحنها الخاص، عليك أن تزيد تسارعه، لحن يظل يرافقك إلى عالمك الجميل الذي ينتظرك))، وقد يكون ذلك حواراً منفرداً استرجعه عبد الله وهو يحثّ الخطى ليكون بوصلته في الهروب المتسارع إذ نجد إشارة إلى أن لحن الخطى المتسارع سيلازم الشخصية المطاردة إلى عالمها الجميل الذي ينتظرها، وهو – كما تظهر الأحداث- ليس جميلاً بسبب الواقع المزري الرتيب الذي تعيشه الشخصية ولكنه جميل قياساً بما هو فيه من ضيق الأســر والإذلال والمعاناة.
يقول الناقد فاضل ثامر في هذا الشأن ((إنّ بنية المطاردة في هذه الرواية قد أكسبت السرد ذاته سمات مميزة تناظر فعل المطاردة حتى بات بالإمكان الحديث عن بنية المطاردة في الرواية، فهي مكتوبة بتوتر عال، يتمثل في إحساس [عبد الله] وتمزقه وفي لغة السرد أيضاً، وكذلك في فعل المطاردة ذاته، بل كل المشاهد الحوارية أو الوصفية التي أثبتت هذا الفعل السردي، ويمكن القول إنّ القارئ يجد نفسه يلهث أيضاً وهو مضطر لملاحقة أحداث المطاردة، دونما وجود فصول أو وقفات طباعية، فالرواية مكتوبة بنفس سردي واحد متلاحق.. وبذا يحق لنا القول إنّ بنية السرد هنا مكافئة لبنية المطاردة))، فعتبة العنوان – إذن – تحيل إلى أنّ الأحداث في الرواية متسارعة حدّ اللهاث فضلاً عن عنصر الزمن المتسارع تقنياً.
ننتقل الآن إلى عتبة أخرى في الرواية تتلخص في نص (ابتهال) لـ(سان جون بيرس) وهو مع العنوان يمثل موجهاً نصياً للقارئ بل يلخص الرابط بين ما ضمنه الروائي أحمد خلف من نص (بيرس) في الصفحة بعد العنوان مباشرة وصلة ذلك بأحداث الرواية، والنص المضمن، اقتطع الروائي جزءاً منه، وسأثبت الجزء المنقول وتكملته لتتضح الصورة الدلالية في أذهاننا، يقول (بيرس):
ونحو البحر من كل صوب تتدفق ينابيع ..
((هذه حكاية سأرويها، هذه حكاية ستسمع
هذه حكاية سأرويها كما يليق أن تروى
سيكون سردها من اللطافة بحيث تفرض الاستمتاع بها))
يقيناً هي حكاية يشتهى سماعها كذلك في غفلة الموت
ولتبق هي هي عذبة وفي قلب الإنسان الذي لا ذاكرة له )
فقد يكون توظيف مقطع محدد من بيرس المعنون (ابتهال) مقصوداً به ما تصبو إليه رواية أحمد خلف من الاستمتاع بلطافة سردها وأنها يشتهى قراءتها وسماعها حتى في غفلة الموت، ولعلّ في ذلك إحالة إلى ثقة المؤلف بعمله واحترامه لإبداعه واعتداده بذاته، أو من الممكن أن تدل على أن اختزال متعة الأحداث كلها بهذه الكلمات، بل ستكون رواية أحمد خلف أكثر تشويقاً للقارئ لجمالية سردها ولبعض من الشعرية في أسلوبها وعرضها للأحداث فضلاً عمّا (وراء السرد) فيها، حينما جعل الروائي من الشخصية المحورية كاتباً مسرحياً
-وهي تجربة سبق أن مارسها الروائي في عمل سابق – يفكر بتأليف مسرحية منبثقة من واقع الوطن الذي يعيش فيه والموت المجاني الذي يلاحق الجميع بعد أن طال الأبرياء منهم .
التقنيات :
يفتتح أحمد خلف روايته بجملة تحمل طابع السيناريو : ((هل لي معرفة أين أنا الآن؟ – لتبق ساكتاً وساكناً أيضاً عليك أن تكف عن السؤال، لن يصغي إليك أحد ، ألا تسمع الريح تعوي في الخارج ؟!… كل شيء سيكون على ما يرام شرط أن تبقى ساكناً ولا تبادر بالقيام بحركة قد تأتي بالسوء إلى قلبك المكلوم… ألم تستطع المدينة العامرة.. أن تحميك أو تخفيك عن عيون القتلة ودعاة اختطاف الناس من أماكنهم الآمنة))) وهذا الحوار المبسط يجمع الزمان والمكان والحدث في صياغته.
ولقد مالت رواية (تسارع الخطى) إلى استعمال أسلوب السرد الاسترجاعي حينما تبنى الروائي الصياغة الفنية لمتنه الروائي، ولم يكتف الكاتب بآلية الاسترجاع فحسب بل حاول في أحيان كثيرة الميل إلى أسلوب الحوار بغية الكشف عن مواقف الشخصيات التي تشكل المبنى الحكائي، فضلاً عن استنطاق وجهات نظرهم وأفكارهم المختلفة، كما عمد في بعض الأحيان إلى الأسلوب غير المباشر الذي يمتزج فيه ملفوظ السارد والشخصية فيتحول في مقاطع سردية عديدة إلى تقنية (المونولوج) أو الحوار الفردي (الداخلي) بمناجاة تكشف عن الصراع الداخلي والتمزق النفسي الذي جاء انعكاساً لأزمة المثقف في زمن (العشوائيات) الضاغطة التي حولت الشخصية الرئيسة المثقفة إلى إنسان مطارد مرعوب بدلاً من أن يكون فاعلاً بثقافته ورهانه على السلام متمثلاً بفن المسرح ((حيث يتوسل بالفن لانقاذه عندما راح يتساءل: فكيف الحال مع دهاليز السياسة التي لا أجد لها مبرراً واحداً للكثير من أفعالها، الفن هو المصحة المناسبة لأمراضنا وعللنا التي ابتلينا بها منذ أن تفتحت عيوننا على فاعلية الفن في حياتنا الخاصة والعامة (ص (9 لكنه من جهة أخرى راح يشكك في قدرة الفن وحده على إنقاذه من ورطته التي جعلته في حالة من الخوف والهلع)).
ومما يؤكد ذلك حوار (عبد الله) مع نفسه قبل أن يلتقي (رياض) الذي سلب عفة ابنة اخته وتركها نهب الضياع والانكسار ((ترى هل سيصغي للذي سأقوله له عن هند باهتمام أم تراه سوف يسخر مما اقترحته عليه بخصوص انقاذ البنت من وصمة عار قد تؤدي بحياتها.. ربما سيجرأ ويتحدث معي بلغة أفهم منها لغة التهديد، كل شيء جائز في هذا العهد الغريب الأطوار..)، ورياض كما يبدو من خلال الرواية يمثل انهيار المنظومة القيمية بعد الاحتلال وضياع جيل من الشباب في حومة اللامبالاة الأخلاقية.
فضاء الزمن:
كانت تقنية الزمن من التقنيات المهمة التي اشتغل عليها أحمد خلف فهو يبدأ الرواية بجملة تكشف عن تاريخ مجرى لأحداث فيما يسرد: ((كانت ثمة انفجارات مدوية تسمع من بعيد امتازت أيام هذا العام بكثرة التفجيرات في الشوارع وبالقرب من الأسواق والمقاهي الممتلئة بالرواد وبعض الطلبة.. وطالت التفجيرات المساجد والكنائس))) فالزمن المذكور يشير بوضوح إلى سنوات ما بعد الاحتلال ، وزمن الرواية هذا ألقى بمحنه على الشخصية الرئيسة وما قاسته من مآسٍ ، فالزمن كان مكوّناً سردياً حساساً وأساسياً في الكشف عن فداحة العيش وبؤس الواقع.
إنَّ الروائي تمكن بفنية عالية من الربط بين ماضي الشخصية وحاضرها من خلال اللجوء إلى الاسترجاعات المختلفة، فالزمن السردي هو زمن يختل فيه الترتيب الخارجي ويتوزع بين الاسترجاع (الفلاش باك) والاستباق ولكن الاسترجاعات كثرت حدّ التسارع في السرد الروائي بطريقة لافتة وهو ما يمكن أن يحيل إلى أن الشخصية رافضة للحاضر والمستقبل، فالحاضر مظلم مرتبك بالنسبة إلى (عبد الله) وهو يعيش فيه على الهامش في عمله المسرحي إذ لم يحصل على دور رئيس مرّة واحدة فضلاً عن حياة رتيبة بائسة، أما المستقبل فهو عامل تهديد مستمر بعد خطفه وهروبه، والرواية باختصار هي رواية الاسترجاعات المتسارعة .
وما يميز تقنية الزمن في هذه الرواية أيضاً أنّ الأحداث هي التي تحيل إلى التواريخ لا العكس فلا يفوت المتلقي ولا سيما العراقي تشخيص تاريخ الحدث، فالزمن الذي يرد في سرد هذه الرواية هو زمن ممزوج بين المتخيل والواقعي بسبب ارتباط الأحداث بالواقع الزمني في أحيان كثيرة، وهو زمن عام يغطي ما قبل وبعد تغيّر النظام في العراق ((امتدت أعمال التخريب والترويع إلى مناحٍ عديدة، ولم تستطع الحكومة السيطرة على ما خلفته التفجيرات من فوضى عارمة فتركت أمرها إلى القدر لعلّه يحسم هذه القضية المدوّخة للجميع)))، ولم يرد ذكر للتاريخ إلاّ مرّة واحدة عندما تحدث أبو العز مع عبد الله قائلاً ((لا يسكن معي سوى أمّي وأبي الذي أصبح ضريراً بعد القصف على بغداد والذي حصل قبل 9/4/2003 وهو الآن لا يأخذ ولا يعطي كما أنك لست غريباً عليه)) ولايخفى أنّ التاريخ المذكور هو تاريخ احتلال العراق باليوم والشهر والسنة، ولكن الأحداث التي وردت في الرواية تحيل إلى تواريخها بوضوح ويسر .
إنّ من يتأمل استرجاعات الراوي يكتشف أنها استرجاعات لا تشعر بالانفصال بين اللحظة الآنية وماضي ما استرجعه من أحداث ولعلّ السبب أنّ الروائي اعتمد على التدرج في الاسترجاع ويوظفه متى ما أحس بحاجته إلى الحدث الذي يشد السرد في الرواية ويخدم بنيتها العامة .
إنَّ اشتغال الروائي على تقنية الزمن كان لافتاً في بنية الرواية، فقد بسط هيمنته على تفاصيل سرده هيمنة منحت الراوي حضوراً مميزاً بالابتعاد عن التراتبية في تقديم الأحداث مما أفضى إلى عدم فقدان الرواية فاعليتها الجمالية، لذا جاء السرد بهذه الكيفية ومن خلال التلاعب بأزمنة الرواية وأحداثها بشكل يضمن التواصل ويحققه، فهو أحياناً يلجأ إلى حذف ضمني في سرده يؤكد فيه فاعلية تقنية الزمن السردي كما في حديث عبد الله مع هند ((لم يرد عليها، إنما تشاغل بقلم الحبر الجاف يقلبه بين يديه وينظر جانبياً إليها وهي تعرف معنى نظرته التي زرعها الآن كما لو زرع في الأفق علامة لا تمحى وانتبهت إلى أن المساء يتقدم ويداهمها الوقت…)))، وهذا الحذف يبين أن حالة مسك القلم بهذه الطريقة والنظر إلى الجانب هي حالة يمارسها الخال بشكل معتاد في المواقف المحرجة، ولقد نقل إلينا الراوي واحداً من تصرفات الشخصية في لحظة زمنية معينة بشكل مختزل.
تقنية الحدث:
ولعلّ جميع التقنيات أسهمت في إيصال الحدث بأسلوبية طبيعية على الرغم من عدم تراتبيته التقليدية، ويتمثل الحدث بحالة الخطف الذي تعرض له الكاتب والممثل المسرحي (عبد الله) الشخصية المحورية ويبدو أن الجهة الخاطفة عصابة منظمة خطفته من منطقة معروفة واقعياً في بغداد هي (البياع) واتجهت به إلى أطراف بغداد في منطقة معروفة واقعياً أيضاً هي (سبع البور) في الوقت الذي كان فيه (عبد الله) ينوي اللقاء برياض الذي اغتصب ابنة اخته (هند) وإقناعه بالزواج منها، وكان لاستخدام تقنية (ما وراء المسرح) أو (ما وراء السرد) أثر واضح في أحداث الرواية فاعتماد الراوي توظيف المسرحية التي ألفها (عبد الله) يعدّ معادلاً موضوعياً للواقع الذي نعيشه فحياتنا أشبه بمسرحية مأساوية وكان الروائي موفقاً في جعل مؤلف تلك المسرحية بطلاً لروايته ليكون معادلاً موضوعياً أيضاً لمحنة المثقف العراقي .
ويرتبط حدث خطف عبد الله واسترجاعاته المتتالية بقصة (هند) و(رياض) اللذين ربطتهما علاقة حب من طرف هند في الجامعة وتطورت علاقتهما غير المتوازنة إلى الذهاب معاً لبيت (أم فيصل) وهناك تفقد (هند) عذريتها من (رياض) الذي اعتقدته أنه حبيبها، ثم تفاتح (هند) خالها المتفهم المثقف الكاتب المسرحي (عبد الله) فيما حدث لها مع رياض الطالب (الثري) وما تورطت به، وترجوه أن يلتقي رياض لإصلاح ما حدث بينهما بالزواج .
النص السردي للرواية هو نص مفتوح يتيح للمتلقي أن ينسج استنتاجاته بنفسه وأرى بأن (رياض) هو وراء حدث خطف خال (هند) لكون عبد الله كان ممثلاً ثانوياً في الوسط الفني وموظفاً في دائرة السينما والمسرح ولم يكن يوماً تاجراً وسيطاً بين العراق وبلاد الشام كما ورد في حديث الخاطفين ((إنَّه يكذب جماعتنا أكدّوا عمله، تاجر وسيط بين الشركات العراقية وبعض الشخصيات العربية))، وتلك المعلومة لم يعرفها سوى (رياض) من هند التي أبرقتها إليه تبجحاً وتعويضاً عن حالة الفقر التي تعيشها أمام ثراء (رياض) ((وأوحت إليه أن الخال عبد الله أحد وسطاء التجارة بين الأردن والعراق))، فضلاً عن تكرار الحديث في الرواية عن سيارة (الجمسي GMC) التي رأتها هند عندما توقفت في باب بيت (أم فيصل) ونزل منها رجل يلبس كوفية وعقال وعدد من الرجال الآخرين الذي سيرد وصفهم في مكان آخر من الرواية، ناهيك عن تكرار اسم (فاطمة) فهي مرّة خادمة في بيت (أم فيصل) ثم تردد الاسم نفسه مرّة أخرى عندما حررت عبد الله من أسر الخطف، وليس من المعقول ألاّ يلتفت الروائي إلى أن الاسم توزع بين شخصيتين مع قلّة عدد الشخصيات في الرواية مع أن الروائي غيبها بعد ذلك بالكامل فلم نعرف مصيرها.
ومما يؤكد ذلك قول عبد الله وهو يخامره ((الشك في أنّه ضحية احتيال أو محاولة من الولد للتخلص منه لصلته بابنة اخته التي أصبحت في ورطة كبيرة))) وتتضح الصورة أكثر عندما يتساءل (عبد الله): ((إلى أين كنت تنوي الذهاب؟ مع من كان لديك موعد في باب المعظم؟ في كلية التربية، هل نسيت الموعد الذي تحوّل إلى رصد واختطاف)))، ولعل جعل اللقاء في حرم (كلية التربية) لا غيرها فيه مفارقة فاللقاء مع طالب فيها للحديث عن سلوك غير تربوي بل لا أخلاقي أمر لا يخلو من دلالة موحية مفادها أن القيم صارت أسماء بلا محتوى.
تقنية فضاء المكان:
أولى الروائي المكان في رواية (تسارع الخطى) أهمية مميزة في بناء نصه الروائي وهو ليس توظيفاً عادياً إنما جعل المكان يميط اللثام تارة عن الشخصية من دون أن يقوم بتقديمها فالمكان هو من يتولى هذه المسؤولية، وتارة أخرى يجعل المكان يسهم بشكل أو بآخر في تنامي الحدث وفي ظهور الشخصيات .
تبدأ الرواية بسؤال عن المكان: ((هل لي بمعرفة أين أنا الآن)) ويتضح من خلال تطور الأحداث أنّ هذا المكان هو مغلق وضاغط ومعادٍ ومهين أعني مكان الخطف: ((أرض السموم والعداوات التي يغلفها حقد دفين إلى أرض يتنفس فيها الموت في كل زاوية من زواياها وكل ركن من أركانها؟ أرض المكائد والخطط المتقنة أو المتفقة على تحطيم كرامة الإنسان ما دام لا يتفق معهم في رأي أو مذهب أو عقيدة أو فكرة))، فمكان الخطف بؤرة انطلاق الرواية.
ويطغى على الأماكن الأخرى فيها (واقعيتها) أمّا المتخيل منها فنزر يسير، وفي ذلك يصير المكان محوراً لتحديد أهمية الحدث، فالأماكن معروفة لدى المتلقي العراقي بسبب واقعيتها اللافتة، من ذلك : ((إني أنا الآن اتخطى الأرض المسماة سبع البور))، ((خبط بذراعيه تراب الطريق في حي (البياع) بالقرب من سينما اليرموك))، ((وتصور نفسه وهو يدخل باب المسرح الكبير (المسرح الوطني))) ((إلى أين كنت تنوي الذهاب؟ مع من كان لديك موعد في باب المعظم؟ ((إلى أين في كلية التربية..))، ((وكانا يذهبان إلى أحد الفنادق الراقية كالمريديان أو الشيراتون في ساحة الفردوس))، ((قاطعاً المسافة بين سكنه في حي البياع وبين حي التراث)) وأشار إلى ((النهاية المأساوية لمسرح الرشيد)) ومن الأماكن الواقعية الأخرى ((مطعم ابن سمينة)) و((الباب الشرقي)) و((شارع السعدون)) و((بار السعادة)) و((الموعد)) و((حي الفضل)) و((معهد الفنون الجميلة)) وغيرها)، والأماكن المذكورة استعادية يشير كل منها إلى واقعية سرد المكان الذي أراد منه الروائي تبيان ما لتلك الأماكن من ألفة مع الشخصيات أو النفور منها، فأبو العز مثلاً ينفر من (حي الفضل) وينتقل إلى (حي البلديات)، وعبد الله يستأنس في منطقة (البياع) مع صديقه (هاشم دقلة)، وبعض الأماكن كانت مغلقة مثل غرفة عبد الله في بيته ويسميها (الصومعة) ومكان الخطف، وبعض الأماكن منفتحة مثل شارع الرشيد وباب المعظم وغيرها .
فالمكان له خصوصية في رسم ملامح الشخصية والكشف عن نوازعها النفسية إن ((تبدو أهمية المكان في البناء الروائي للشخصيات قضية أساسية في بنية الشخصية الروائية..))، وقد تمكن أحمد خلف بموهبته الروائية من تقديم شخصياته وإعطاء انطباع عنها من خلال المكان كما فعل مع (هند): (أما الأم فأنها تعيش مع هذه الأسرة حياة لا تطاق في حي شعبي متداعي البيوت يدعى حي التراث، وما أدراك ما هذا الحي بين بقية الأحياء الشعبية الأخرى؟ حي المنسيين والمتروكين للأمطار والعواصف والشوارع غير المبلطة.. هذا الحي هو نهب للفقر والجوع والمرض، تعيش فيه هند مع عائلتها..))، فمن خلال توظيف فضاء المكان تمكن الروائي من الكشف عن العوامل الكثيرة التي دفعت بهند إلى الاندفاع مع رياض والخضوع لرغبات ابن التاجر في سوق الشورجة والوقوع في الحماقة الكبرى على حد تعبير عبد الله ((دعيني أفهم هل قمتما بالحماقة الكبرى))) فحالة الفقر والعوز والمرض كلها كانت علامات لتقديم الشخصية ورسم ملامحها وعوامل مساعدة على تبرير دفع هند إلى فعلتها .
كما أثر المكان في اكتمال ملامح شخصية (أم فيصل) إذ جعلنا أول السرد نعتقد بأنها سيدة فاضلة غير أن المكان الذي وظفه الروائي وأعني البيت الذي تسكنه كشف لنا حقيقة هذه المرأة التي تؤجر بيتها لأفعال البغاء ولقاءات الأحبة مقابل ثمن، ففي حديث الراوي عن فعلة رياض مع هند يقول ((حالا اندفع إلى البيت وغاب لبعض الوقت ثم جاء وأم فيصل تسبقه إلى حيث تجلس هند، جاءت صاحبة الدار التي أطلق عليها رياض بالسيدة الفاضلة وكانت تصيح من الداخل: ماذا تفعلون ببنات الناس؟ ألا تخافون الله؟ ثم لما وصلت إلى حيث تتخذ هند جلستها الحزينة خضتها بعنف ظاهر: لماذا لم تخبريه أنك ما زلت بنتاً… هل هي سيدة فاضلة أم مجرد قوّادة تستأجر جانباً من بيتها لمن يبحث عن ملجأ أو مأوى مؤقت من أمثال رياض..)) ، فالمكان الذي تسكنه (السيدة الفاضلة) نمّ عن حقيقتها وقدّم لنا صورة واضحة عن حيلها وأساليب تعاملها مع هكذا حالات كل ذلك تكفل به المكان .
تقنية الحوار:
توزع السرد الروائي وفق مستويي السرد الموضوعي براويه العليم والسرد الذاتي براويه المشارك، وتنوع الحوار بين (الحوار الخارجي) المسموع أو الظاهر والحوار الداخلي (الفردي) وقد يصل الحوار إلى مستوى حوار مسرحي مثل الذي دار بين (الشاب الأول) و(الشاب الثاني) حينما رصده الراوي في نهاية الرواية وهو صورة من تأثير المسرح في أعماق الروائي، ومن الحوار الخارجي ما دار بين (هند) و(أم فيصل) بعد تعرض هند للاغتصاب وحزنها الشديد في ذلك الموقف وبكاؤها المر وهي في بيت (أم فيصل): ((عندما قالت متسائلة بهدوء: أنت فتاة عاقلة وحين جئت إلى هنا اعتقد كان عقلك في رأسك أليس كذلك يا عزيزتي؟ والآن ماذا تريدين ؟ أم ماذا قررت؟.. أنــــا لا أريد إلاَّ الحفــــــــاظ على كرامتي واســـترداد ما ضاع مني ولا أكـــــون فتاة منـــــــبوذة من الآخرين.
ما دمت تتحدثين عن الكرامة والبنت المنبوذة فالأمر لا يعنيني يا عزيزتي اعتقد المسألة أصبحت من اختصاص رياض))).
وقد تكررت الحوارات الخارجية بطريقة لافتة كما في الصفحات ( 60، 70، 80، 85، 116؟ 126؟ 132) على سبيل المثال لا الحصر.
ولا يعدم القارئ أن يجد حوارات داخلية (مونولوجات) كما في تساؤل عبد الله: ((ألا تظن أنها تلفظت اسم فاطمة؟ آه نعم نعم هذا هو اسمها الذي همست به أمامي، فاطمة على استحياء، وقد ألححت عليها بمعرفة اسمها ، بعدها دفعتني خارج الأسر، لعلها لا تعلم أني الآن اتخطى الأرض المسماة أرض (سبع البور) وأتركها ورائي، وانطلق نحو قدري المجهول، لعلّ الحظ يقف إلى جانبي في محنتي وبلواي))، في هذا الحوار الداخلي نجد أن عبد الله قد كشف عمّا يدور في خلده تجاه الفتاة وكيف يفكر بها؟ وما هو مصيره الذي سيلقاه بعد الهرب ، بل اطلعنا على مشاعره ومعاناته بصدق وعفوية، وقد تكررت الحوارات الداخلية في أماكن عديدة من الرواية نذكر منها على سبيل المثال الصفحات الآتية: (26، 28، 31، 32، 49، 74).
وفي الختام أرى أن أحمد خلف اشتغل على بؤرة محورية من خلال توظيفه لثنائية التضاد بين ثقافة الإنسان وثقافة الجهل والغباء بين ثقافة الإنسان العراقي بقيمه الأخلاقية السامية وبين ما وصل إليه حال المثقف في محنة الزمن الفاجع المقوّض لكل بناء، ولقد عمقت تلك الثنائية حبكة الرواية فعبرت هذه البؤرة عن الشعور بالإحباط من الذات المثقفة في مواجهة الواقع المزري السالب لفاعليته والمهمش لدوره، وقد حقق هذا الشعور التماهي بين السياق السردي ومحنة المثقف.