العبور والعبّارة – جليل وادي

كلام أبيض

العبور والعبّارة – جليل وادي

يبدو قُدر لنا ألا نعبر المحنة قبل أن ندفع أثمانها ، ومن الأثمان ما هو كارثي ، و عندما تكون الأثمان بهذا الهول ، فكن على يقين ان مَن يدير الامور جاهل بها ، وعليك ألا تتوقع منه حلا ، الا بعد  حين ، وقد يطول هذا الحين ، لأنه يكتسب المعرفة بالتجربة وليس بالتعليم الذي يمنحه بُعد النظر ، ومثله لا يعرف جحيم الطائفية الا بعد أن يكتوي بجمرها ، ولا يُدرك عظمة وحدة المجتمع الا بعد أن تبرق سيوف الأعداء في عقر الدار ، لقد ابتلينا بالمغامرين  وقصار النظر والجهلة والذين يرون الأمور بعيون غيرهم ان كانوا أصدقاء او أشقاء ، ولم يستحوا منها  ، من ستين عاما ، أقصد مذ أبصرت الدنيا وربما قبل ذلك أيضا ، والعراقيون يحلمون بالعبور الى الضفة الاخرى ، ومنهم من فنيت أعمارهم  جيلا بعد جيلا من دون أن يروها مع انهم دفعوا كل ضرائبها قسرا او طوعا ، بينما ظلت الحسرات تخنق أنفاس مَن تبقى وهم يرون كل من حولهم ينعمون بالسلام والأمان والعيش الرغيد والحياة المدنية التي يحكمها القانون وليس نزعات الأوصياء . العبور هاجس العراقيين الذي يصبح ويمسي معهم كل يوم ، وكانوا وعدوا به مرارا ، وآخر تلك الوعود ما قطعه النظام السابق على نفسه في منتصف التسعينات عند اندلاع أزمة خانقة بين العراق وأمريكا أسماها ( العبور ) ، وكنا نظن ان بانتهائها سنتخلص من الطحين الأسود ، وسنخلع ( البساطيل ) والبدلات الخاكية ، وسنعيش المتبقي من سنوات العمر من دون أن يطاردنا كابوس الالتحاق بالعسكرية ، نعم ، الأبناء لا يعرفون عن هذا الكابوس سوى  مفرداته ، و لا يمكن أن تدل على معانيه ، بل تكمن في كم مشاعر الكآبة التي لا ينفس عنها ذرف الدموع ، مع ما للدموع من أثر في اخماد حرائق الروح ، لكن العبور لم يحصل ، بل انتقلنا الى وحل آخر أغلق جميع أبواب الأمل  . وأردت لفكرة العبور ان تكون حافزا للشباب ، وبث روح التحدي في نفوسهم لمواجهة ما خلفه الآباء من خراب ، فقلت له وكنت تصورت انه استوعب فكرتي التي أردتها ان تكون موضوعا لفيلمه التلفزيوني القصير جدا ، يا أحمد بطلك طالب عصامي يتقلب بين أعمال شتى ، مرة يبيع في عربة واخرى عامل بناء وثالثة في (بسطية ) على رصيف ورابعة صباغ ، وفي كل مشهد ينظر الى الجسر الذي يصل ضفتي نهر ديالى الذي يداعب شاطئيه خير وفير من ماء رقراق ، في كل مشهد لا تنسى يا أحمد ، الجسر ، الجسر ، وفي نهاية الفيلم بطلك يركض على الجسر والكاميرا تلهث معه الى أن يعبر الجسر ، لابد من عبور الجسر ، وبعد العبور نراه ببدلة زرقاء وخوذة مهندس يوجه عمالا في مشروع بناء ، نريده يا أحمد بخمس دقائق بلا حوار سوى المؤثرات ، هو رسالة تفيد أن الكادحين يعبرون ، لكن أحمد استبدل الجسر بمجسر، وأوقف بطله عند منتصفه ، ولم يعبر البطل ، بل أهدر وقته متفرجا على المارة ! . لم يمكّن أحمد بطله من العبور، وكذلك أطفال الموصل قدر لهم ألا يعبروا من ضفة الحزن والدماء وصور القتلى وخراب البيوت وتدمير المدن والسواد الذي يلف المدينة ، الى ضفة البهجة والفرح ، وبدل ان تمتلىء أفواههم بالقهقهات امتلأت بالماء ، فماتوا غرقا في واحدة من أبشع جرائم المهملين ، يا سادة : ادارة الدول لا تتم بالأربطة البراقة والثرثرات الفارغة والمكاتب الفخمة ، وليس القيادة باعتلاء المصفحات والتبختر في المسير ، بل بخدمة الناس ومحاسبة الفاسدين ومتابعة المهملين واعمار البلاد والانشغال بعبور العراقيين ، في كل يوم لدينا كارثة ، وفي كل ركن نائحة ، ولم تهتز منكم شعرة أو تدمع عين ،او تغطوا وجوهكم خجلا من الفشل ، لكن أقول لكم وتذكروا : سنعبر حتما وانتم ستعبرون أيضا ، لكن لكل منا وجهته بالعبور .

مشاركة