الحسين عليه السلام
الظمأ إرتواء وخلود
عندما تُمثلُ المياه جُلَّ أوزانِ أجسادنا وسرَ حياتها…..وعندما تختنقُ الخلايا شيئاً فشيئاً بعد آنحسارِ وهجها المائي……لتشعرَ عندها الكائنات بالعطش المارقِ الذي يجعلها تهرعُ الى مصادر الحياة بإيّ وسيلةٍ ممكنة….. وعند عدم الوصول لتلك المصادر ….. فإنّ ثمّةَ أسرارٍ مكنونةٍ في فسلجةِ الخلق تتشبث لآستجلابِ تلك المياه داخلياً لإيقاف عجلةِ الموت وآسترداد الروح التي تُسابقُ الزمن قبل خروجها من نقطةِ اللا عودة…….
لم يحدث ما تقدم آنفاً إلا في أماكنَ محددةٍ من جغرافيا الكون لأمرٍ قدره الخالقُ وأجدبتْ على إيقاعه الطبيعة………ولانّنا بنو البشر مهما بلغتْ شقوتنا وهزالةِ أرواحٍ تعفنتْ عبر التاريخ ….لا يمكن لنا أن نتركَ كائناً يتضورُ جوعاً وعطشاً إلا وكانت على الاقل بقايا رُكاماتٍ من مشاعرَ ربما تستيقظُ من غفلتها وتطفو بعد آنغمارها لتمنحَ ذاك الكائن المحتضر نزراً من قطراتٍ تُعطلُ قليلاً من سرعةِ زفراتِ روحهِ التي تتصعدُ الى بارئها………
في الجانب المظلم كانوا أولئك الذين فارقتهم مشاعرهم المضمحلةُ أصلاً…..وآنفصلتْ عنهم بطلاقٍ بائنٍ غمرته شهواتهم المتأصلة في عمقِ أرواحهم الضاربةِ في أسوأ درجاتِ الانهزام والظلم منذ بدأ الخليقةِ حتى يرثَ اللهُ الارضَ ومن عليها……
وفي الزاوية المشرقة تبرزُ عترةُ المصطفى المتمثلةُ بدررٍ نفيسةٍ والمضيئة بأنوار قَداسةِ الحسين عليه السلام وأهل بيته العظماء…..اولئك الذين نازعوا العطشَ وارهاصاته الدامية وهم يسلكون أوديةَ مصارعهم ليمنحوا من بعدهم سرّ الارتواء……
وكأنّني أتخيلُ خلايا أجسادهم كيف يعتريها الجفافُ لتنفصلَ عن بعضها البعض وهي ممتلئةً بالتحرر من قيودها رغم أنفِ الموت…..لتشعرَ بأقصى عناوين الحياة في لحظاتٍ فارقةٍ من زمنٍ أبتُليَ بالظلم وعبادةِ السلطة من دون الله……. ولكنّ تلك الخلايا العظيمة بعد أنْ تخلصت من أثقالِ مياهها….لتُصبحَ خفيفةً شفافةً تحملها نسائمُ الكونِ كي تمنحَ كلّ من يعشقها حقاً ويقتفي أثارها ومناقبها ويتعرض لنفحاتها ذلك الإرتواء الروحي والانتماء الانساني الهائل.
هل هنالك من أحدٍ بارقٍ من جهابذةِ المبادئ والانسانية من يغرقُ في محيطِ دمائه ذبحاً واهباً من يأتي بعده محاراتٍ تسكنُ جوهرها كلُّ معاني الحرية والانعتاق والسمو الفكري الاستثنائي……
إنّ روحيَ المستغرقة فيهم تراهم مِلئ مساحةِ بصيرتها وخيالها الكثيف…..لذلك أقولُ لحضرةِ أرواحهم معتذراً لجُرأتي في مخاطبتهم وانا الذليل عند مقامهم……….يا سادتي الأكارم……لقد كان ظمأكم سبيلاً تستجدي البحارُ والمحيطات منه الحياة وكأساً رقراقاً رغم غزارةِ مياهها التي لا تنضب…….بل وكانت سيولُ دمائكم الزاكية كلوحةٍ أرغمتْ كل أرجاء الطبيعة حينذاك على أن تتلون حزناً وقهراً لأنّها فقدت مصدرَ النور الالهي الذي تدفق منذ الازلِ في ذرات أصلابكم وعناصر أرواحكم الفريدة………
وهكذا أستطاعت تلك الثلةُ التي تكتنفها أمةٌ وعوالم ….أن تُغيرَ المنطق آختزالاً لتراكيبه وآمتثالاً لمشيئةٍ إلهية….وتذللاً للجبال الشاهقةِ التي يمثلها خزينُ الشجاعة الخارق …..تلك التي عانقت بهيبتها كلّ مجراتِ هذا الملكوت …..حتى توشحت بالسواد الحالك ….وأمطرتْ سمواتها نزفاً من دموعٍ صاخبةٍ لتغسل أشلاءكم الشامخة في صورةٍ أشبه أن تكون للخيالِ أقربَ منه للحقيقة لعظيم تفاصيلها ونحيب عزائها الدامي….فأضحت عند ذلك شاهدةً أبد الابد على سموِّ منازلكم ومقاماتكم في الدنيا والأخرى…..وعمق تراثكم الخالد عبر الدهر……
علي حياد العلي – بغداد