الصين الأصالة والمعاصرة

الصين الأصالة والمعاصرة
صباح علي الشاهر
تأبى الصين الموغلة في القدم الا أن تقدم المثال في كيفية استثمار واستغلال معطيات الحداثة دون التفريط بالأصالة، ربما يُشار في هذا الصدد الى تجربة اليابان التي سبقت الصين في هذا المضمار، لكنما التجربتان مختلفتان في مناحي عدة، فالأصالة في اليابان تحوّلت الى أصالة طقوسيّة، شكليّة، سرعان ما خبت كلما أوغلت اليابان في التقدم التكنولوجي، والانغماس في العولمة التي لا مفر منها بالنسبة للاقتصاد الياباني، بحيث استحالت الأصالة اليابانية الى مجرد الأتكيت، والملبس والمأكل، والحفاظ على الامبراطورية المقدسة، التي أضحت كالملكيّة البريطانية.
الصين تقدم نموذجاً آخر، وهي وان انغمست في العولمة، لكن العولمة لم تحولها الى تابع، وان كان عملاقاً انتاجياً وتكنلوجيا، كما هو شأن اليابان، وانما اختارت أن تكون متبوعاً، وربما سيتحقق لها هذا في قابل الأيام.
لقد دشنت اليابان عصر الترانسستور في الخمسينيات، وعصر السبرنتيك في الستينيات، وتفوقت لحدود مدهشة في مجال الألكترونيات، بحيث استحقت بحق وجدارة وصف المعجزة، والتي أطلق عليها المعجزة اليابانية التي كانت الشغل الشاغل للبشرية في العقود المنصرمة.
باستثناء محاولة اليابان اقناع شركات الانتاج الكبرى في العالم، وبالأخص في مجال السيارات، والمحركات، والصناعات الخفيفة، بالانتقال من الطريقة القديمة، الآلية، الأوتوماتيكية الى الطريقة الحديثة التي تقوم فيها الآلة مقام الانسان في كل مراحل الانتاج تقريباً السبرنتيك الا أن العديد من دول العالم الصناعي الآن أصبحت بمصاف اليابان في هذه الجوانب ولم يعد أحد يتحدث بانبهار عن المعجزة اليابانية، بعد أن عمت معجزات التطور التكنولوجي العالم كله، وتحت قيادة الشركات المتعددة الجنسيات، المُمثل الحقيقي لمرحلة العولمة، والمعني حصراً بكيفية التحكم والتصرف بالتقنيات الحديثة البالغة الدقة، وفي شتى المجالات.
ربما بسبب كون اليابان كانت خاسرة في الحرب العالمية الثانية، ومحتلة عملياً من قبل أمريكا، فقد مُنعت من ترجمة تفوقها التكنولوجي الى قدرات عسكرية، وربما سيبقى الوضع هكذا حتى ترى أمريكا أن من مصلحتها أن تتسلح اليابان لتنافس أعدائها في المنطقة، وبالأخص الصين، التي تعتبر أن اليابان تشكل الخصم الجيوبوليتيكي الأول، والمنافس الأقتصادي الأبرز، الا أن هذين المعياريين يتصاغران، على الأقل حالياً، بازاء تبادل المنافع المطرّد، بين البلدين الجارين، حيث لايمكن لليابان الاستغناء عن السوق الصينية العملاقة، خصوصاً وأن الصين الآن ثاني بلد مستهلك في العالم، يمكن أن يصل تقريباً الى أول بلد، بعد أن أصبح أول بلد مصدر، كما أن الصين بحاجة للتقنية اليابانية، على الأقل في المدى المنظور.
هذا الاشكال المزدوج هو الذي جعل اليابان حالياً، بعيدة عن الجبهة العالمية الجديدة التي تتشكل من روسيا والصين والهند وايران وغيرها من الدول الآسيوية، وليس بمقدور أحد الجزم هل ستلتحق اليابان بهذا المحور، أم لا، خصوصاً وأن اليابانيين يحملون نقمة مُتجذرة ضد أمريكا التي ضربت مدينتي هيروشيما وناكزاكي بالقنابل النووية، وهي أول وآخر ممارسة من هذا النوع تقوم بها دولة من الدول، وأذلت الكبرياء الياباني، ومقابل هذا فان الصين ترتاب من اليابان التي كانت قد احتلتها حتى مطلع القرن المنصرم.
أما وقد وصلت اليابان الى هذا المستوى التقني، فانها قادرة في أي وقت على تحويل الخطوط الانتاجية الصناعية، الى خطوط انتاج صناعية عسكرية من النمط العالي الجودة والمتفوق، لكن هذا يحتاج الى قرار، ليس ياباني فقط، وانما أمريكي أيضاً، وعندما يحدث هذا فان هذا يؤشر الى مرحلة خروج أمريكا من كل آسيا، وتداعي نفوذها.
قرار الصين المستقل، وتطورها المدهش بعد الثورة الثقافية وليس بفعلها، أي الثورة، وانما بفعل الاصلاحات الاقتصادية التي دُشنت عام 1978، ووصول الناتج القومي الصيني الى ما يساوي ضعف ناتج روسيا والهند معاً، وتوقع تفوقها على أمريكا بشكل حاسم عام 2015، حيث سيصل الناتج القومي الى 12 ترليون دولار، مقابل 11 ترليون دولار لأمريكا، هو الذي حدد خيارات الصين، وغيّر من سياساتها من العزلة والانكفاء على الداخل، الى خيار التواجد على مساحة العالم كله، حفاظاً على مصالحها الحيوية، وتأتي مبادرتها لصنع حاملات طائرات، تعزيزاً لهذا التوجه الذي يستهدف ليس فقط حماية مواردها، وطرق النقل، وخطوط أنابيب النفط والغاز، عبر الممرات البرية والبحرية، ما أنشأ منها، وما هو في طور الانشاء فقط، وانما للرد على أي تهديد مُحتمل لهذه المصالح، والصين في هذا الشأن لا تمزح.
منذ قيام الصين الشعبيّة، كانت السياسة العسكرية المعتمدة فيها، هي سياسة حرب التحرير الشعبيّة، فالمسيرة الكبرى التي قادها ماو، مثلت تجسيداً لهذه الحرب، ثم أن صراع الصين مع الكومنتانغ والانتفاضات التي قادها أمراء القبائل، والتحركات الانفصالية، ومنها تحركات التبت المتواصلة بقيادة الدلاي لاما وكذلك تركمانستان الشرقية، وغيرها، واعلان أمريكا والعالم الرأسمالي كله العداء للصين الجديدة، رغم أنها اتخذت وفي وقت مبكر موقفاً مستقلاً عن الاتحاد السوفييتي، منذ عهد بولغانين، وبعده خروشوف، الا أن المؤامرات المستهدفة ليس اضعاف السلطة الشعبيّة، وانما القضاء عليها، لم تنقطع، ولم تضعف، وهو حلم لم يتحقق.
كان الجيش الصيني وما يزال، أكبر جيش في العالم، حيث يربو العاملون الدائميون فيه على 2،5 مليون جندي وضابط ومُنتسب، وميزانية الصين العسكرية، هي ثاني أكبر ميزانية عسكرية في العالم، تأتي بعد أمريكا مباشرة، وهي بلد نووي، منتج للصواريخ عابرة القارات، وللسفن الفضائية التي تمخر عباب السماء، ومن المؤمل أن تصبح الصين القوّة الأعظم في العالم في السنوات القريبة القادمة، خصوصاً بعد تغيير العقيدة العسكرية الصينية الى مبادئ جديدة، بالغة الحداثة، لا تعتمد على الكم، وانما على النوع، وعلى طبيعة السلاح، بعد أن تخلت عن استراتيجية الحرب الشعبية.
الصين من بين عدد محدود من الدول على خارطة العالم، التي تزخر بماض موغل في القدم، فهي الى جانب بلاد الرافدين، ووادي النيل، والهند، شهدت ازدهارا حضارياً في زمن مبكر من التأريخ البشري، فالسلالات الحاكمة فيها نشأت قبل أكثر من أربعة آلاف عام، وباستثناء الدول التي ذكرناها، فلا دولة رأسمالية في عالم اليوم يمكن أن تضاهي تأريخ الصين، واذ ذكرت اليونان وايطالياً فهما الآن دولتان ضعيفتان، تغادران مسرح الـتأثير في العالم، وتحتاجان الى دعم ومساعدة الآخرين للحفاظ على مستوى عيش مقبول بالنسبة لأبسط مواطن أوربي.
لم تتخل الصين الحديثة عن عقائدها التي وسمتها بطابعها، وهي وان نهجت النهج الاشتركي، لكنها أبداً لم تجعل المعطيات النظرية لهذا النهج بديلاً عن العقائد الصينية التي وسمت الفرد الصيني بسيمائها، حيث اعتمدت في نهضتها، وثورتها الاجتماعية، بالاضافة للعلم والحداثة، والادارة، على ثالثوها الطاوية و الكونفشيوسية و البوذية ولهذا فلم يتغرّب المواطن الصيني، ولا تغيّر وهو يرى في كل يوم بروز ناطحات سحاب عملاقة، ومجمعات سكنية وتجارية حديثة، كل واحدة منها تتسع لدولة، ولم يشعر بأن الأرض الصينية، بعبق تأريخا الفذ، تهتز تحته اثر أي انجاز علمي أو تقني، وهذا يُثبت بما لا يدع مجالا للشك، أن التطور العلمي، والتكنولوجية الحديثة، ليست حكراً على نظام اقتصادي اجتماعي معين، ألا وهو النظام الرأسمالي، وانما هو مُتاح للجميع، مهما تنوعت عقائدهم شريطة حسن الاستغلال والاستعمال، والتنظيم، والادارة.
/8/2012 Issue 4278 – Date 15 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4278 التاريخ 15»8»2012
AZP07

مشاركة