الشهوان – إبراهيم سليمان نادر

الشهوان – إبراهيم سليمان نادر

رواية نوافذ.. ولكن

أطلق  عنانكَ  للمحبة  ,  وكُن

روحانياً  ,,  كُن  طيباً ,,  كُن  عاشقاً  ,, فالحنين

هو  الخيط  العالق  بين  الأجفان   ….

ستنسجم  مع  من  يشبهكَ  في  الروح

وليس  في  الصفات ،،،  لعل  ثقباً  أصاب

قلبك ،،  جعله  الله  لك   عيناً  تبصر

بها  الحقيقة  …….

مولانا  (  جلال  الدين   الرومي   )

نوافذ   ….  ولكن  !!!

        (الشهوان)… قطر  الندى .. نبع طفولتي  …. وجع صباي ( )   ,  وسفر  قصائدي  …..

(الشهوان)… ذاك السفر الحبيب … نفثة السحابة البيضاء المغسولة بماء السماء .

أحبكِ أيتها المتمردة , المسافرة في أنسجتي , وأحبُ خيلكِ النافرة في ذاكرتي ….

جعبة طفولتي تتفق , وتنفضُ غبار عزلتها عن ما جرى ويجري   ……

ماضيك يخبُ نحوي ويحمحم مرة أخرى   ,,,   صهيله  يسافر في  هامتي  ,,,

تسافر معه (الأكلاك والشباك) ( )… وزوارق الصيد المصنوعة من الصفيح الصدئ .

يقتلني الشوق اليك , كلما دنوت من (دجلة)   البني الراكض فيك كل  حين  ..

(نوافذ) ,, ,,  ذكريات غضة تطل من بيوتات عتيقة وأزقة ضيقة , على مساماتها حكايا لا  حصر لها , تسردها لي وجوه أعرفها وأخرى ربما نسيتها ,  أو  نستني  هي  ..

أتعبتني الأيام والفضاءات وأنا أجول في أحشائك , ركام فوق ألم أحجار تناثرت هنا وهناك . ماذا فعل بك (الدواعش)  ؟ , ذبحوا كل جميل وعذب فيك  ….

نوافذ خاوية , صماء بكماء , وحدها تعرف الحكاية , لكنها لا تقص لي ما جرى .

النوافذ تطل نحوي من كل زاوية وركن . وجوه أعرفها , وأخرى تحبني وأحبها…

أراها الآن قبالتي تبكي . تخشى أن تسرد لي ما حل بها , لكن (دجلة) باق وحده , لا يكف عن السرد   والحب والانسياب…..

ألهثُ ولهاثي يلهث معي , أرى قدميّ تجراني رغماً عني لأفتح نوافذك  تلو الاخرى , علني ألثمُ ما تبقى فيها من وجع الماضي وأسد بعضاً من رمق الشوق وأروي ظمأ الايام العجاف  و صدى السنين الحاكي…… ( ) ،، فنصف جمالها كتاب ،،  والعناق  هو  الكتابة من جسد  الآخر ،،  هي أنثى  من  زبد  الليل  ،،  تتخمر  في  كأس  شاعر  ،،  الآن أخفيها  في  لغتي  كي لا يراها أحد  …..

نافذة إلى لغة الشمس

إلهي  ,, ….. ما أحببتكَ   وحدي  ,,

لكن  أحببتكَ  وحدكَ  ,,  الحزن  أن  أستيقظ

قبل  دمعي ,, كي أجد  الصبح  لم  يرحل  ،،  وعصفور

القصيدة  لم  يرف  بعد  ….

(  محي الدين بن  عربي  )

طاف  بي  زورق  الصفيح  الصديء  على  صفحة  النهر  ماراً  من  تحت  (  الجسر  الثالث )  ومنحدراً  جنوباً  نحو  (  الجسر العتيق )  ….  تطلعتً  الى  الضفة  الأخرى الى  ( باب  الشط )  و(  الجامع  المهدم )  وأنفاس ركام  البيوت  بقلب  خافق  ,  كانت  ذاكرتي  تدور  كالمغزل  السريع  ….

انمحت صورة (الشهوان) كلياً وحل الخراب والدمار . أستعيد الآن خمسين سنة . تقدمت  ذاكرتي القصيدة في لحظة الزورق ولحظة (حينا العتيق) الذي يعود من ألق الماضي إلى مرارة الخرائب .

وجدت تلالاً من تراب واحجار وأكثر من لسان يصل إلى منتصف النهر تقريباً , وسدوداً غير مكتملة دخلت كألسنة رمادية وتركت سخامها على الجدران .

توقفتُ وصنعتُ لنفسي بما يشبه الجزر العشوائية ….

يأتي الماضي بملامح نارية ملتهبة , لكنها ملامح عامة تترجرج كموج النهر العتيد  …

نهر وفضاء , مدينة وركام وبيوتات خربة .

جسر وأشلاء ونبات محترق .  صيادون ووجوه محترقة فزعة أو صارمة في ذكريات الصور, لوحات رسمها هواة ومحترفون بعد خروج (داعش) تحاكي آلامها وماضيها في يوم الحرق والغرق العالمي .

وجوه مرصوفة لرجال وشباب ونساء وأطفال يتناوبون في الظهور كمسرحية بلهاء .

 نافذة اتخذ اطارها حجماً أكبر نسبياً من الصور كلها التي تسندها من الجانبين . ركنت القارب ورحت أبحث عن ركام بيتنا العتيق , لم يبق منه سوى نافذة واحدة تطل على النهر  . ولجت إلى داخله بين ركام الاحجار المتناثرة ثم إلى حجرتنا الجوفاء . وحدها بقت صامدة تتحدى غضب الجنون والعبث. تطلعت من خلالها إلى النهر وغبت في تداعيات السنين العذبة التي مرت بها طفولتي . اليوم أجول بباصرتي بين جدرانها الخرساء , وأتيه في يم الاعراس ومقالب الطفولة  . من بعيد لمحت صياداً عبر أسياخ النافذة بقبعته الواسعة وحزامه الجلدي . يداه على خاصرته يتأمل  في صفحة النهر كمن يبحث عن شيء ضاع منه.

كان الصياد نحيلاً , سحنته تلمع في الضوء كالخشب المدهون وقد صبغته الشمس بسمرة داكنة .

كان النهر ينبسط أمامه طويلاً , عريضاً ممتلئاً . صفحته الصقيلة تشرق تحت أشعة شمس الصباح , والنوارس تبحث عن الاسماك الصغيرة في المياه الضحلة . صيحاتها الصاخبة تختلط بهدير الصمت وانسياب النهر . نورسة قطنية تركت قصيدتها تعوم على لجج النهر, ثم رفت إلى الفضاء . دارت دورتين ثم اتجهت إلى نافذة حجرتي وحطت على أسياخ النافذة. كانت (النورسة ) القطنية الجميلة ترتجف وترمش لي بأجفانها الارجوانية الرقيقة , ربما من الخوف أو ربما من شيء آخر . كانت تشحذ منقارها بأسياخ النافذة بين الفينة والأخرى وتتأهب للتحليق ولكن بلا أجنحة .

كانت مليشيات (داعش) قد اقتحمت بيوتات (محلة الشهوان) والاحياء الاخرى , ولم تكتف بقتل السكان  , إنما بتهجيرهم أيضاً , وإسكان عائلات أخرى محلهم , فقد طرد المسيحيون من حينا . وتم اسكان عائلات أخرى . نهبت منازلهم , وأحرقت الكنيسة , وتحول أكبر منزل هناك إلى  مقر لأحد  قادة المليشيات .

عرفتُ اليوم أني ولدت من أرض الحجارة السوداء ذاتها . جئتُ من صحارى الانبياء المطرودين نفسها . ولدتُ هنا من الحشود الهائلة في مدينتي كالنمل .

جئتُ في مدينة تتوحد وتتبعثر فيها أنا و(نورستي) كلانا جاء من دوران الحشود على أنفسها , من أسلحة (داعش) وقذائفها التي تتساقط  كالأحجار من سفح جبلي عال .

جئنا من الضجيج الأصم لعظام أجدادنا الساكنة في قعر مقبرة , من حينا الذي قهرته السنون . من (مدينتنا) التي أنجبتنا وافترستنا .

قالت لي ( النورسه )  :

– أنا يعربية . لم تتعرف  بعد على أسرابنا  .. لم تتعرف بعد على صوتي , على لغتي , على شهيقي  و زفراتي ،، أنا نورسة يذوب  بها النص ولا تذوب ،، وحدي أجعل  الخيال  جميلا …  النهر  ساكن ،، لا أدري لماذا يتبعني الموج ؟؟ ،، كأنني  قمر يسبح في بحيرة الدموع  …

كنت شعراً  عربياً أصيلا عبروا عليه.

عبروا منه إلى آلهتهم وقناعتهم , إلى فسلفتهم وهذيانهم , إلى شرقهم وغربهم . لم أكن سوى تمثال من الرمل في الشرق , أو تمثال من الثلج في الغرب .

أنا يا صاحبي تمثال بلا ملامح , (نورسه) قطنية  وقفت على أسياخ نافذتك لتسرد  حكاية الدمار والخراب  .  إنكسارات  أتعبني ,  تعثرت  فيها  خطاي  , ربما  هي  مرحلة  بداية  لسعادة  أبدية  ,  او  نهاية  لأفق  مشوه  ..

أرى خلفي خرائب حينا الجميل .

أرقب ما خلفه (الدواعش) من بؤس ودمار . أطفال برؤوس مقطوعة , نساء بلا صدور ولا عيون .

أراجل بلا أعضاء تناسلية , دماء تختلط مع النعالات البلاستيكية , وسخام على الجدران والسقوف والأبواب التي احترق نصفها أو كلها.

قالت لي  ( النورسة )  :

– لقد وصلت متأخراً. لا مكان لك في (  الشهوان ) .

سأترك الحي كي أكون لاجئة بلا أجنحة .

ها أنا أمامك  . لقد اعترفت بكل شيء ولن أنجو , أشباح ترف حولي وإن متُ ,  متى يعديني الله مرة أخرى ليلهوا بي أشباح الشهداء  في لحظات أعراسهم الدامية   ؟  …

سأرحل عنك . أعرف أن الكل بانتظارك , والأهل بانتظارك , فأنت لك أشباحك كما أنا لي أشباح .

لا يمكن أن نكون معاً , فأشباحنا لا تلتقي مطلقاً ,  أنام  وأحلامي  لا تنام  معي  ….

كان وقتنا هو وقت هروب قصير. العالم الذي كنا نعيش فيه هرب ,  كنتُ أشعر في داخلي أن الامر الذي بيننا لن يستمر طويلا . هذه اقدارنا, لا يمكننا أن نفلت منها أبداً ولابد لنا من العودة إلى سابق عهدنا .

في تلك اللحظة رأت  ( النورسه ) دمعتي .

أخذ جنحاها يرتعشان . اقتربت مني ومسحت دمعتي . شعرت بأن قلبي يحيا من جديد ونبضه يصل إلى رفيف جفنيها .

أحسست بسعادة كبيرة بأن (الشهوان) ستحيا من جديد .  أما هي فستعود إلى حياتها ،، فكلما أطفيء  في  عينيها  ناري  ،، تشتعل ،،  فوحدها  تجمل  الخيال  وحنيني إليها  هو  خيط  الروح  العالق  بين  الأجفان  . . . .

خرجت من فضاء الحجرة وبقت ( النورسة )  جاثمة على أسياخ النافذة .

أنفقت كل الصباحات , من أجل طلة ابتسامة على (دجلة)  وحينا العتيق .

طلة أجدها في ابتسامة (نورسه قطنية ترف نحوي )  بشوق .

سلام من طاف أسمه على سراج الروح .

القبور وحدها فقد تتسع لأحزان الفقراء .

روحي تسعى جاهدة للتخلص والتحرر والانفكاك من جسدي , لكني أتشبث بتلابيبها.

أرف مثل (نورستي) فوق هامتي ونفسي , تاركاً بقايا جسدي وأشلائي حيث يدور ما حولي بفوضى عارمة .

هرج وحرائق وأشلاء تتناثر …..

أمر مقرف عصي على التصديق , كالسديم  , أتكاثف في حيز أو فلك مهم  .

أطوف أو أغفو في هالة الحيز الغامض .

لا سبيل لتحديد طبيعة ما يحدث .

شيء ما يستحوذ على هامتي ويلفني على نفسي .

ثمة ما ينفرج فجأة ويكشف طبيعة هذا السديم المجنون .

نفق يمتد أمامي لا أرى نهاية له .

أمواج صوتية غريبة تداهمني .

ينجذب صوتي إليها .

يتردد صوتي داخل العتمة . يأتني الصدى بنبرة آلية عجوز وكأنني لست أنا الذي يحكي .

أختلط واتفاعل مع هسهسة الريح , وصرير وزفير  نار  وموج  ونهر  ….

خليط مجنون من التداعيات واللاوعي توحده ذبذبات خابية الرنين .

أرى نفسي في أتون النفق المجهول ,,  يسحلني صوتي الذي يردد .

– داعشي…. أنا داعشي , جئت أكمل الزمن الهارب مني .

تعثرت قدماي وأنا ألج بين ركام البيوتات المهدمة .

تناثرت الحاجيات بعضها فوق بعض , أشلاء لنسوة ورجال وأطفال تحت الانقاض البعض منها , يئن ويتأوه , والأخر صامت ساكن .

وصلتُ إلى الجسر العتيق , ثمة فتية يحدقون في النهر, وآخرون يرمون فتافيت الخبز اليابس ويرقبون عراك النوارس .

الكل صامت , المدينة , الجسر, العابرون على  الجسر إلى الضفة الاخرى .

آخرون كدسوا حاجياتهم في عربات وراحوا يدفعونها وهم يركضون , كأن هاجساً خفياً يلاحقهم ويكاد يمسك تلابيبهم .

أهو الجنون ؟  أم الخوف من المجهول ؟ . هدير مروحيات  داكنة مرت من فوق الجسر . كانت على علو منخفض . لا أدري ؟ هل كانت من طائرات التحالف أم ماذا ؟  …

كانت المروحيات بلا أعلام أو هوية تدل على جنسيتها . وطني أصبح مستباحاً للغرباء , القاصي اصبح منهم والداني . أصبح كل شيء مباحاً في هذه المدينة المنكوبة والمغلوبة على أمرها.

الآن يتلقفني نفق آخر يصعد فوق بصيص بعيد . أمواج النفق تختلط مع لجج النهر تعالجني برمية في  تجويف يبتلعني كفوهة حوت ضخم , ثم يلفظني إلى عتمة النفق .

يقذفني النفق الضال إلى كوة شبكية تذكرني بشباك العناكب التي كنت أراها في نوافذ (جامع شيخ الشط) و(كنيسة مار يوسف) .

تنتزعني عاصفة من الخوف ,  ثم يلتهمني تجويف معتم ويمتصني مريء أجوف ….

تنتزعني معدة جوفاء يمور فيها طوفان , ثم تقذفني المعدة إلى تجويف مجهول المعالم , ضال الاتجاهات ,   مشوه الحافات .

لا أستطيع التعريف بنفسي .

هل أنا في الشمس؟ أم في العتمة الدهماء؟ ,,,

لا نور يلفحني ولا شعلة تنقذني  .

أتساءل  ملء  جوفي :

– هل مدينتي مكروهة حتى الاخرة ؟ …!!!

أتبول على نفسي لا ارادياً .

لمن أسرد كآبتي وأوجاعي ؟……

رفع شخص لا أعرفه يده محياً .

– السلام عليكم .

كنت قد غدوت في تلك اللحظة إلى قرب نهاية الجسر .

كان الجسر مخرباً بفعل قصف طائرات التحالف , لكني تمكنت من العبور فوق قضبان الحديد المتبقية , ولم تمض سوى لحظات حتى كنت انحدر نحو ضفة النهر .

تأرجحت في جوف فراغ , وداهمني ألم صاعق وأنا أرى أشلاء طافية فوق صفحة النهر . فتحت عينيَ بعد هنيهة , فوجدت نفسي منطرحاً على ظهري وسط سهل فسيح جداً مغطى بثلج أسود , تمتد فوقه سماء قاتمة بلا ضوء .

كان الصمت المفزع ينتشر في كل الفضاءات . أحسست بأن ثمة أعداد مجهولين يزحفون نحوي , وقبل أن أطلق صرخة هلع مدوية أشرقت شمس كبيرة , وغدت السماء زرقاء رائعة , وتلاشى الثلج الأسود , واكتست الضفاف بخضرة ناعمة , وهدر غناء شجي مهيب تلاقت فيه واتحدت السماء والأرض الخضراء والشمس وملايين البشر . كانت اسراب من نوارس قطنية تحوم وترف فوقي إلا (نورستي) , كانت الوحيدة التي جثمت على صدري وراحت تداعب شفتيّ  بمنقارها الاسود الصغير .

تدفقت غبطتي كسيل منحدر من قمة جبل .

فجأة هيمن صمت عجيب وسمعت صوت امرأة تناديني :

فتحت عيني لأجد (أمي) منحنية فوقي وهي تسألني بلهفة :

(هل أنت بخير يا حبيبي ؟ انهض سأساعدك) .

تطلعتُ إلى المصباح الكهربائي المتدلي من السقف .

ها أنا ذا مرة اخرى في النفق المعتم الطويل , لا أقدر  على  الفرار  ..

كانت الدماء المنسابة من شراييني نهر رماد بارد ، وكانت كآبتي أقسى من عذاب ارض بلا مطر .

لم أكن اكثر من كومة لحم بائسة تنتظر عون الرب  , الجبار العظيم  …

في عتمة النفق سطع قمر نوره أزرق ، ثم انسابت موسيقى فظة الايقاع . كانت ثمة مجموعة كبيرة من الابواق النحاسية ترسل فوضى وصراخاً وحشياً متحشرجاً يحاول أن يتسلق أعلى قمة ، لكن صدى النفق كان لا يهزمه سوى كمان صغير ناعم يتأوه وحده مرتجفاً بينما تابعت سيري في تلك اللحظات أصبحت المدينة عجوزاً هرمة ذات وجه شاحب متعب لا يعرف الابتسام .

فرت اسراب النوارس من حولي على هدير مروحية كانت امريكية الصنع ، بينما ظلت (نورستي) ترتجف فوق صدري وأنا أمسد ريشها الابيض الناصع الجميل  . ..

لا فائدة في البحث عن حينا وجامع (شيخ الشط وشط الجومة وعيسى دده والخاتونية والبدن والطوالب )….

لقد اضعت قبري هناك، فلا أدري أين أذهب ؟ …..

قلت لنورستي :

–           جناحك ينزف قصيدة وينثر عليها الريحان  والنعنع . .. دعيني أغطيها بمرايا الشوق حتى تتعافى مدينتي …  تكسرني (حدباء  الرماح  / 5), لكن  صوتكِ  يلملم  ما  تبقى  مني  ,  كلما أطفيء  النار  في  عينيكِ ,  تشتعل  مرة أخرى ..

–           لن يغريني الشعر، ولا الحب ، فضفاف دجلة أضاعت لحنها الجميل , و لابد

من  إطفاء  الشمس ,, أنا  الفرح  الذابل  الذي لا يزهر  إلا  بالعناق حتى  ينتشر  الجمال  ويحل  على الأرض  السلام  ….

–           سأنزع شوكة هذا الحزن وأشنق سماسرة (داعش) وأغسل تاريخ المدينة من همجية الكذب  …  ما  سر هذا النور   يخرج  من  جرحك  القديم ؟؟

–           من أجل (بواسير العطية) ( )  ،  سنبقى في (مؤخرة) القافلة , لم تبق في الألبوم غير أشباح الصور ,,  إصفرت  وتلاشت ألوانها  البهية  ..

(شامخة) أنا ..  (  ماجدة )  أنا  …  (  يعربية  )  أنا  …

لن يكسرني القدر، هبطت من القمر وسأمسح كل فصول الاحزان ، وتبقى بأزقتنا وأحيائنا ملح الاغاني .

أنت تعشقني وتحبني وتضمني بفراغ جسدك , الحب هو أن ترقص الأشجار قبل عزف الناي …

أنت تتنفس (أنشودة) تجهض كل تفاصيل الاحزان وتسقط كل الاوجاع وتصبح في قلبي (الهوية)…

هويتي انت،… وعشقي هو أنت…

أنا (نورستك) الضالة ، تتيه في ريشها فوضى مدينة أكلتها  نيوب (الدواعش) ورمت فتات عظامها على ضفاف دجلة .

غابت الشمس وراء ركام (الشهوان) ، ولم تبق سوى ذوائب برتقالية شاحبة حجبتها الاشجار العالية وبقايا  من  قباب  لمساجد  ومآذن  لم  تنال  نصيبها  من  الخراب .

كان الظلام يتسارع ليغطي الحي المهدم وقد إنسدل كلوحة غامضة  .

محيت الالوان فجأة في عتمة مباشرة واصطخبت السماء بالمطر من جديد ، تصادمت سيوف البرق الفضية بطريقة رعدية شديدة ، وانعكست على مرايا النوافذ المتبقية من الحي.

يترجرج النهر والفضاء معاً ، لحظات منقلبة لا تثبت قبل أن يستقر كل شيء ، ولا تبقى سواء إلا اهتزازات بسيطة لا تؤثر كثيراً على انسيابية الصورة الزاهية مع مجرى النهر، تتكرر بين لحظة وأخرى وأصوات لطبيعة اسئلة معروفة وأجوبة جاهزة…

تمسح هذه الصور المتلاحقة ضفتي النهر .

مشاهد متنافرة بينهما من بنايات وشواخص وجسر عتيق ، وتعود لتستقر على وجه صياد يتوقف على التجذيف بين حين وآخر…

أتخيل المكان حولي مفتوحاً ، بلا بيوتات ولا أزقة ولاأرصفة , صخب طفولة جميلة تفيق وتغفو .

لا يوجد غير الركام المتناثر والشط وحوريات النهر والبط والنوارس والطيور المهاجرة والبلابل والغرانيق والخضيري  والاولاد الذين يمسكون الدود بأيديهم ويصطادون السمك بسنارات صغيرة وتنانير الخبز. أتخيل الاخضرار الطافح على الضفاف والمزارع الواسعة وقطعان الجاموس وزرازير بيتنا العتيق وحكايات كثيرة لأسماء ملأت أمي رأسي بها.

ترى من بقى منهم حياً ؟ ، كيف سأعرفهم ؟…

كنت أفكر بشكل البنات والنسوة والاطفال ، كأني أزور عالماً غريباً اسمع عنه كثيراً في مروريات أمي ويوم كان أبي حياً وبعض الصور القديمة التي يحتفظ بها أبي لجدي ولبعض اقاربنا لا أعرفهم تماماً.

ربما رأيت فلماً وثائقياً في إحدى القنوات عن (محلة الشهوان) وكان أبي منزعجاً لأنه لم يتعرف على الوجوه التي أحتلت الشاشة .

كنتُ أتماهى مع خيال المكان وأبحثُ عن النسوة الملفعات بالعباءات , تثيرني خطوط ونقاط الوشم على وجوههن الباسمة ، مثلما كنت اتناغم مع الطبيعة والنهر واحراش القصب الكثيرة.

وقتها قال لي أبي:

لقد بدأت (الشهوان) تتغير.

لم أفهم كيف تغيرت وكيف كانت ؟…

كنتُ سعيداً لرؤية النسوة الموشومات وهن يخبزن بالتنانير الطينية قرب النهر الجاري المليء بالصفصاف واشجار التين التي نمت وتعالت بعشوائية عجيبة .

غناء ومواويل وصدى نايات بعيد وخوار لجواميس وابقار وثغاء اغنام ونباح كلاب .

تحسستُ في جيبي مشطي الصغير أكثر من مرة وتأملته مرات ونظفت اسنانه المتراصفة أكثر من مرة كما أزلت شعيرات كانت عالقة به ، ثم دسسته في جيبي كأي شيء ثمين سأوصله إلى مسقط رأسه وانتظر القرار بشأنه.

في رأسي اشكال العجائز الباقيات من صويحبات أمي من السلف القديم اللواتي ربما يعرفن حكاية المشط المتوارث ورائحته الغريبة وما يتركه من لمعان حريري جذاب.

كنت أتخيل شكل النساء القديمات.

جداتي الميتات يوم كن شابات واسنان هذا المشط تمر على رؤوسهن من اطراف الشعر النازلة ثم يصعد إلى أعلى كما أمي اوصتني منذ يفاعتي بأن أمشط بهذه الطريقة فيكتسب شعري عطراً فواحاً غريباً ويزداد لمعانه وبريقه مثلما تزاد نعومته ، لكنها لا تعرف لماذا التزمت بهذه العادة سوى انها قالت لي أكثر من مرة:

(حتى يطول شعرك ويمتلئ بالرائحة ويكون ناعماً.. نصف جمال الفتى شعره الجميل) هكذا كانت أمي ترددها أمامي مرات ومرات…

–           من أين تأتي الرائحة يا أماه؟

–           أوووف… أنت تسأل كثيراً.

تنهض أمي من إغفاءة قصيرة وتتطلع إلى النهر والزقاق …   تتمتم قليلاً.

أشعر أني تعبت من الفراغ الاجرد وخيالاته ، فأنام على كتفها دون أن أقول شيئاً ولا أسأل عن المتبقي من الوقت.

إتفقت مع (نورستي) الجميلة أن نلتقي كل جمعة على الضفة الأخرى للنهر، قبالة (باب الشط) بعيداً عن أحراش القصب وقطعان الجاموس والبردي .

كانت (النورسة) ما أن تراني حتى تلف دورتين أو ثلاث حول فضاءات هامتي ، ثم ترف بأجنحتها الصغيرة البيضاء ؛ وتحط لاهثة على صدري ، مداعبة شفتاي بمنقارها المدبب الصغير .

كانت الغبطة والفرح ترشان ريشها الناعم وهي تسرد لي بلهفة عجيبة عما جرى خلال الاسبوع الفائت . المدينة محروقة ، لا وصف أدق من ذلك ولا أكفى . البيوت والشوارع والازقة والمساجد والميادين والكنائس والاسواق ، وكذلك القلوب والارواح والصدور والجثث والانفاس .

كل شيء احترق وتهدم يوم نزل (الشياطين) بردائهم الاسود الى مدينتنا ، وكأنهم يحملون في صدورهم مليون عام من الغل منذ أبى (ابليس) أن يسجد لآدم …..

(شياطين) حديثة … تنظيمات يتسمون بأسماء غير اسماء (الشياطين). (شياطين) في اطياف من الشعر المنفوش واللباس الادهم المقيت ، ولحى كثة واخرون في ملابس قاتمة دخلوا المدينة لا هدف لهم الا الترويع والقتل  ، والذبح بالسيوف والخناجر .

كان الرصيف لا يكلم المشاة ، والمسجد لا يقبل المصلين والسوق لا يبيع للناس الا بعد دفع الجزية ، لكل رئة عدد محدد من الانفاس لا يجوز أن تتجاوزها في اليوم الواحد .

لكل قلب طريقة محددة في التفجع لا يجوز نسخها من قلب لأخر.. لكل ثكلى دمعتان لا أكثر

لكل أرملة حسرتان والويل لمن ينقض الاتفاق ….

لكل يتيم رجفتان فقط…

لا يجب الاسراف…

لا حزن يكفي الجميع….

لا أحد في العالم يعلم  ما حدث للمدينة بسبب التعتيم الاعلامي الصارم ، لذلك لا يمكن استيراد عزاء من الخارج ، علينا أن نواسي انفسنا، أو نتوقف عن الحياة مثلما توقفت المآذن عن الآذان، ومنعت تلاوة القرآن في الجوامع قبل صلاة الجمعة وصمتت أجراس الكنائس.

خرج الناس من اجداثهم ، ساروا في ارجاء المدينة. جثت حية ترثي جثثاً ميتة. طول الطريق الذي قطعته إلى (الشهوان) لم أر دمعة ولم أسمع آهة. وجوم تام اكتست به وجوه المارة ، وكأنهم يخشون أن يفسر حزنهم تعاطف فتحل عليهم لعنة (أمير المؤمنين) ، لذلك قررت المدينة أن تحزن بطريقة جافة ، وتكسو وجهها بالجص البشري .

طريقة مبتكرة لحفظ الاحزان في حالة فيزيائية ثابتة حتى يأتي اليوم الذي يصبح فيه البكاء مسموحاً، فيذوب الجص ونبكي ، وحتى الآن لا أحد يعلم حتى يحدث ذلك , وحتى الآن لا أحد يعلم اذا ما كانت الاحداث قد انتهت أو انها محض هدنة مؤقتة ؟..

تتردد شائعات تسري بين الناس أن الهدف هو تصفية المدينة بأكملها ، وأن ارتالاً من الجرافات راحت تطمس تأريخ وتراث المدينة  وتسرق آثارها إلى دول أخرى كانت مهيأة للحدث من قبل.

قالت لي (نورستي) الجميلة:

–           من كان يظن أن هذا سيحدث ؟ .

–           مدت منقارها النحيل لتسد فمي.

–           أسكت… الجدران لها آذان…

–           أجبتها بصوت خافت:

–           لم تعد هناك جدران، حتى يكون لها آذان..

–           أشارت (نورستي) الحبيبة بمنقارها جهة السماء وغمغمت بدعاء لا يسمع ، حتى الدعاء كانت تخشى أن تلتقطه آذان الازلام. .

–           رفت (النورسة) بعيداً ثم عادت وهي تحمل بمنقارها قطعة من شذر فسيفساء .

–           هذه أنفس ما في مكتبة (الجامع النوري) وبقايا من ريازة مئذنته ( الحدباء ) الشهيدة     …………       آه … يا (نورستي)    …. !!!

كم تمنيتُ أن اجعلك طوقاً على نبض دمي ، لا يحلو أن أدون ما جرى ويجري الآن إلا بالدمع .

لن يكتمل الغفران الا بمحو خطايا المدينة أنت يا (نورستي) إرثي من الليل ، وأنت وحدك من يجعل شوقي يحمر من الدهشة والتعجب!!!

منذ طفولتي وأنا أمرح على رفيف جناحيك ، من عطشكِ أعيد كتابة أمواه (دجلة)…

سأشتري لك غيمة قطنية ترفين عليها  .

أسورها بالياسمين ، وأرسلها مع بريد الشمس ، شمس (دجلة) ،  ربما تمطر علينا مرتين ، تبللنا معاً ، وتغسلنا معاً .

حينئذ يصير الزمن خلوداً ، ويصبح الكل في واحد ….

(صباح الخير)…

أطبعها بشفتيّ على وجهك الطليق النازف بالحب السرمدي  ….

ردت (نورستي) :

_  أنا أعشق (دجلة) والمدينة، متيمة ومتمردة مثل (شعري)  . هذا النهر يحمل أمنياتي . أنا بانسيابه أصبح دنياً مؤجلة . عشقي له لا ينضب في حبي له جعلت ضفافه تتحول إلى ورد وقصائد أرسلها لعناوين القصب والاحراش والعليق والسنابل واللقالق والغرانيق…

في حبي له اخترعت وطنا  , بل أوطاناً جديدة ، وامتدت قصائدي على اجنحة اسراب كثيرة تطوف الفضاءات .

نبتت في كل جناح اساطير وغابات من مرجان وصنوبر ورياحين ونعناع وزعتر.

كلما أرف اليه، اصبح سلطانة على العالمين والجوامع والكنائس والخرائب والمنارات والقباب.

أنا (نورسة) كتبت بالنعنع قصائد حب حكمت بها الفضاء مرتين …

مرة بالياسمين ،  ومرة بعينيكِ .

أحبك أيها (الموصلي) العاشق العنيد المسافر  في دمي كل حين …

–           سأغطي كل مرايا الشوق ، حتى تتعافى مدينتي بين أضلعي يا (نورستي) , قبور تنبض بوجوه الشهداء  …  تكسرني  مدينتي  ألف  مرة  ,,  لكن صوتكِ  يلملم  ما  تبقى  مني  ,,  تعالي  نرتب عيداً  لنا  ,,  ونرسم  المراجيح  على  الورق  ,,  حينئذ  ينتشر  الجمال  ويحل على الأرض السلام

ولن يفقد (دجلة) لحنه الاشوري ,  ولا (حدبائه) العتيدة.

الآن أتنفس أغان تقتل كل تفاصيل الملل ، وتسقط من ذاكرتي وجوه (داعش) ، وتبقى (مدينتي) هي الهوية الوحيدة لي امام العالم.

بين الرغبات الأبدية الجارفة ، والاقدار المعاكسة ، كان قدري .

كان الحب يأتي ، متسللاً من باب نصف مفتوح ، وقلب نصف مغلق .

أكنت أنتظر دون اهتمام ، تاركاً الباب موارباً ، ومتسلياً بإغلاق نوافذ المنطق …

قبل الحب بقليل ، في منتهى الالتباس ، تجيء أعراض حب أعرفها ، وأنا الساكن في قلب متصدع الجدران ….

كنت أستسلم لتلك الاعاصير التي تغير اسماءها كل مرة ، وتأتي لتقلب كل شيء داخلي ، وتمضي بذلك القدر من الدمار …

كنت أحب أولئك العشاق الذين يزجون بأنفسهم في ممرات الحب الضيقة ، فيتعثرون حيث حلوا ، بقصة حب وضعتها الحياة في دروبهم ، بعد أن يكونوا قد حشروا أنفسهم بين الممكن والمستحيل.

افترقت دون وداع مع (نورستي) كما التقينا .

هكذا تحدث الاشياء بيننا …….

لم يحاول أحدنا أن يستبقي الآخر، بكلمة اضافية ، أو بنظرة …..

مجرد قبلة ارسمها على منقارها الصغير .

كان لنا إحساس مشترك بأننا على موعد أجمل من سابقه .

أعترف بأنني كنت أتمنى لو بقيت معها أكثر ،  لقالت لي اشياء أكثر .

عدتُ إلى البيت ، منزوع  الحروف ،  لم يبق  سوى عطر اختزنه ريشها الناعم ، وما زالت تتعطر به لتتعلق بالذاكرة .

العطر… هو آخر ما يتركه لنا الأحبة ، وأول ما يطالبنا به العائدون ، وكل ما يمكن أن نهديه اليهم .

لم يخطئ (نابليون) عندما بعث خبر نصره إلى زوجته طالباً منها أن تحتفظ له برائحتها قائلاً :

(جوزفين…. لا تستحمي ، أنا قادم إليك بعد ثلاثة أيام) …

منذ (نابليون) ، لم يظهر قائد ميداني يتقن فن الحب ويعبث بجسد النسوة وينهزم أمام الانوثة… بالعظمة نفسها التي يهزم بها الاعداء ..

سأخذ حماماً ، وأنام هذا المساء , اللذة  كالألم  ، تجبرني على اعادة النظر في حياتي وقناعاتي السابقة ، بل وقد تذهب بي إلى سؤال جنوني  :

(ما جدوى هذه الحياة) ؟…

ثمة قبلات إن لم أموت اثناءها ، فأنا لست أهلاً لأن أعيش بعدها ، وفي الحالتين أصل إلى اكتشاف مدهش :

(أنا لم أكن جئت إلى الحياة قبلها).

من (نورستي) ، اكتشفت الحياة بها دفعة واحدة ، واكتشفت حجم خسائري السابقة .

كم أود أن ألاقي النحات الشهيد (رودان) وموهبته . كي يخلدنا معاً كعاشقين يتوقف بهما الزمن إلى الابد في لحظة شغف ، ونحن منشغلان عن المدينة والعالم ، ومنصهران في قبلة يصنعها إزميله في حجر .

تراودني هذه الافكار، ورائحة أمي تطفو على ضفاف النهر الذي لا يكف عن السرد والانسياب . لماذا الاشياء معي معقدة دائماً إلى هذا الحد ؟…

أريد من (نورستي) كلمات بسيطة ، كتلك التي يبوح بها العشاق وهم على وشك الغياب ، غياب مفاجئ قد يحدث في غفلة مني .

كلمات جميلة في بساطتها ، موجزة، ممتعة وموجعة . كلمات تذهلنا وتخترقنا ولا تغادرنا … ولكن!!! .. أنا لا أريد حباً يقتات بالكلمات ،  حتى لا يقتله الصمت عند افق النهر . كنت أريد أن أحتفي بعودتي إلى الحياة ، وأعطي إشعاراً لمن حولي . أن اتقاسم مع (نورستي) حياتي العادية ، بمشاغلها وتفاهتها اليومية ، بأحاديثها وضجرها ، بأفراحها وحزنها ومخاطرها وأوجاعها ..

لم أغادر البيت منذ أسبوعين .

اشعلتني رياح الخريف التي لم أحسب لها حساباً.

فاجأني الحزن القادم ، كما باغتني المطر قبل أوانه .

الاطفال يركضون بحقائبهم متوجهين إلى المدارس  المهدمة .

كيف استطعت أن أعيش كل هذا الوقت دونها ودون حنانها المكابر الذي لا يمكن لكل كلمات الحب أن تعوضه لي .

لا أدري اذا كان انحداري نحو الجهل سيكون سهلاً .

في الواقع وحدها الكلمات كانت تستعر داخلي .

رحتُ أستعجل النوم . أحاول أن أنام دون أن أقع في فخ الأحلام ، وبرغم ذلك في الصباح لم أنجِ من جسدي ، كنتُ أستيقظ وتستيقظ رغبة داخلي ، تلفني رائحة أمي فأبقى للحظات مبعثراً تحت شرشف النوم الكسول .

يستبقيني احساس بمتعة مباغتة ، لم أسع اليها ، جاءني بها النهر حتى سريري ليتحرش بي. على غير عادتي ، استيقظت باكراً هذا الصباح ، وكأنني أريد أن أستفيد من كل لحظة قد تسرق في فجأة ، لأي سبب كان .

يفاجئني جوع صباحي لا يقاوم ، كأن شهيتي للحياة قد تضاعفت .

أفرح لإحضار لوازم الفطور، وابقى أتفرج على النهر البعيد ؛ البعيد عني .

رائحة بعد ليلة كاملة من الانسياب تزحف نحوي ، متوحشة

تستفز حواسي بشهية غامضة للحب.

لقد نمتُ نوماً عميقاً , كما لم أنم من قبل . شعرتُ بمعنى السكينة , وكأنني تركتُ كل شيء خلفي وجئتُ لألقي بنفسي هنا على سرير لا ذاكرة له , ولا دفء فيه .

الآن لا رغبة لي سوى في تناول فطوري . لقد جاءت حريتي . معاكسة لمنطق حريتها , فقررت أن اكف عن الاحلام , ولكن ما كدت اتحرر من عبودية الاحلام , حتى وقعت في عبودية حب (نورستي) والشوق اليها مرة اخرى .

علامات مثيرة للقلق والجدل .

اشتقت الى (نورستي) الجميلة .

كانت قدماي تحثان الخطى الى (دجلة) .

وصلتُ الى الجرف قبالة حيّنا العتيق , كانت باصرتي تلف في كل الفضاءات والفراغ , بدءاً من بيتنا المهدم الى غابة الصفصاف والسرو, الى احراش القصب والعليق والدغل الكثيف .

لا أسراب في الفضاء .

هل فرت النوارس والغرانيق والبط والخضيري من هدير المروحيات التي لا تكف عن التحليق فوق النهر والمدينة بحجة البحث عن اوكار (الدواعش)  ؟؟  ….

لا اثر لحبيبتي ….  هل فرت هي الاخرى وتركتني وحيداً اتخبط في فراغات الصمت المقيتة ؟ ….

هي الوحيدة التي اسرد اليها ما تبوح به نفسي .

بقيت فترة طويلة على الجرف ولم افقد الأمل .

من بعيد قنصت باصرتي على الضفة الاخرى امرأة .

تتشح بعباءة سوداء , أقبلت من بين ركام الاحجار وخرائب البيوتات المهدمة والمتناثرة نوافذها وابوابها وحاجياتها .

توقفت المرآة عند  الجرف .

كانت عيناها تنظران الى الماء.

خلعت عباءتها ووضعتها على الأرض , ثم رمت نعليها وفستانها الذي كانت ترتديه , على ضفة النهر القريبة اليها.

دنت من الحافة المشرفة  على النهر, وشهقت بصوت مرتفع سمعته من مكاني , ثم رمت نفسها في فلوات النهر القريبة منها.

شاء الحظ ان يمر زورق فيه رفاس قوي , استنجدت به وانطلقنا الى المكان .

طوحتُ بجسدي في الهواء واصطدمتُ بالماء البارد وغطستُ فيه .

حركتُ ذراعي بقوة فأندفع جسدي الى الاعلى ومرق رأسي خارج المياه , مسه الهواء البارد فتجمد فيه الدم .

سحبتُ أنفاسي بصعوبة وتطلعتُ الى المكان الذي رمت فيه المرأة نفسها , فوجدتها تطفو وتغطس بجواري .

كان صاحب الزورق شهما ونبيلاً , يتابعني بعينيهِ وحواسه القلقلة .

مددتُ يدي وأمسكتُ بشعرها وسحبتها فجاء جسدها طيعاً .

شعرتُ بالغرين يثقل رأسي وتيار الماء يدفعني بعيداً عن الزورق مع ميل شديد نحو الجسر العتيق الغاطس .

شددتُ شعر المرأة كي يبقى رأسها خارج المياه , فرأيتُ خلال لحظة وجيزة التماعة  عينيها المرعوبتين .

ضربني فرع شجرة عائم كان النهر قد خلعه فلم أبال أو اتأوه .

سحبتها بكل قوتي ساعياً الى الزورق دون ان تفلت يدي شعرها ودون ان ينطمر رأسها .

مد الرجل النبيل يده للمساعدة .

تناول شعر المرأة وسحبه برفق  ,  ثم أمسك بإحدى يديها واعانها على الصعود .

مد صاحب الزورق يده للمرة الثانية كي استعين بها , لكنني لم اتعلق بها , لقد صارت الضفة اليسرى على بعد هين مني .

ابتسمتُ للرجل وقلت له :

 _سوف أعوم… انا ابحث عن (نورستي)..

دفعتُ جسدي بعيداً عن الزورق وانا أحسُ بانجذابي الى قاع النهر .

لم يعد البرد قائماً في اطرافي التي خشيتُ عليها من الانجماد .

هللتُ في اعماقي وسبحتُ ثم استويت واقفاً .

إلتفتُ ورائي فرأيتُ الرجل يناور  بزورقه  ضد التيار ويحدقُ نحوي , ربما اطلب نجدته , يا له من نبيل وشهم غيور .

كانت المرأة قد استعادت بعضاً من عافيتها فاتكأت على مقدمة الزورق وراحت تتطلع نحوي بحزن وألم .

حضنت المرأة رأسها بيدها وراحت تنتحب , أما انا فقد استدرتُ نحو الضفة اليسرى ورحتُ ابحث عن (نورستي) الحبيبة وانا الهثُ بما فعلت .

تذكرتُ صيف مدينتي و (الشهوان) وتأجج الصبابات على الحافة حيث الكل يتلهى بشؤونه ومقالبه التي لا تنتهي .

هذا النهر الاسطوري الإمبراطوري , الخارق السحري ,  الفريد  بطبعه  و مزاجه  …

يزيد طوله على آلاف الاميال , بين ضفتيه اسرار وعجائب وطلاسم .

من بعيد تذكرتُ مقالبنا الطرية التي لا تجف في  ذاكرتي .

ثمة وداعة كانت ترضع اطفال الحي بجذوره من الفرح لا تزول ولا تخبو, يتأجج ألقها كلما راحت باصرتي تجول في ركام الحي المتناثرة حجاراته  قبالتي .

فجأة حطت (نورستي) الجميلة على كتفي وراحت تعاتبني بلهفة بائنة .

_ لقد اختفيت وغبت عني , اكثر من عشرة ايام وأنت لا تتواجد على ضفة النهر , ما هذا الجفاء ؟؟ ..

قل لي انك تحبني الان , وسوف تحبني الى الابد .

كانت جملتها التي فاجأتني بها عفوية بسيطة , ازدادت بها حمرة أجفانها مثل رمانتين ريانتين مؤهلتين للقطاف .

–           احبك كأنسياب (دجلة) , أتتوقعين سماع خلاف ذلك ؟ .

أجابتني بسرعة :

–           كلا , ولكن ليطمئن قلبي .

–           دعي قلبك ينام ويستيقظ على طمأنينته معي , أنت نبض دمي  و أنفاسي .

اخذتُ أتأمل ظلها اللاصق بكتفي والذي راح يتحرك جيئة وذهاباً على طول المسافة المحصورة بين ظلي صفصافتين متباعدين بعض الشيء عن بعضهما.

نظرتُ الى ساعتي اليدوية وأكدت بأن ساعة كاملة قد انصرمت دون ان تلوح مروحيات في الافق .

–           الحمد لله ,  صبرك لم ينفد .

–           لكني جئتُ إليك ..

–           إلتفتُ اليها وقلت  :

–           سأذهب الان , لقد تأخرت  ,  تألق وجهها وقالت :

–           لا  تنسى ؟…

–           سأفعل دون ريب .

–           رفت (نورستي) الجميلة , كأنها تحس بوجود شخص يرقبنا عن كثب .

–           كان منقارها يلتفت يمنتة وشمالاً كرأس هرة مذعورة , فيما أخذ جناحاها يقطعان الفضاء بسرعة , فلم تلبث سوى دقائق حتى اختفت وراء ركامات (حي الشهوان) .

عندئذٍ فقط  احسست بالحزن والقلق يجثمان على صدري .

اصبح الامر مستحيلاً في نظري . لن اغادر الامكنة التي أعرفها ,

وأسير هناك متحسساً الطريق الذي مررت بها سابقاً , فليس بوسعي تخيل اي شيء ……

إنه فارغ تماما إلا مما قد يصدمني , وحتى هذا سيذهب الى ماضي (الدواعش) , وسيتعين عليّ أن انساه في الخطوات اللاحقة أو في المكان الجديد .

يتحتم عليّ ان اكون اكثر صفاء ووضوحاً , ولكن ذلك يبدو شبه مستحيل , خاصة وان (نورستي) تزهو قبالتي كل حين .

إن الضوء يتسرب في عينيّ .

لقد أدركت ذلك منذ الوهلة الاولى , أن نيسان من طراز  عجيب , يتفتق عن فردوس أبدي الخضرة  .

فتشت عيناي عن موقع تحدب النهر, فلم تجداه , كانت المياه قد تسللت عبر الاحجار الساقطة والسدود المتهدمة ,  وبقايا  البيوت  الهرمة  ….

كان النهر قد تسلق ضفاف (قلعة باشطابيا)( ) , وغطى الثلث السفلي منها .

سأهرب الى أنين الناي واتوسل فيه الرجاء والأمل , …

هذا الناي هو عزائي الوحيد .

انعقدت سحب ثقيلة في السماء , وراحت تتجه شرقاً ببطء…

كانت السحب مجعدة . كأنها تحمل بحراً, ما لبث ان انفرط عقدها فتجزأت وابتعدت ولم تقطر قطرة واحدة .

كنتُ مشدوداً الى السماء  , الى العالم المسيطر علينا , تطلعتُ اليها , فخضتُ في داخلي من شيء غامض.

حارت عيناي وأفكاري , معاً, فهو صباح لم أعش صباحاً مثله .

صباح ايقنت فيه ان اشياء كانت كبيرة , أشياء من بشر وبيوت  انها من ذهب وفضة وأحجار.

أشياء من مفردات هذا العالم الصاخب , كانت كبيرة في افكاري فصارت لا تعدو قيمتها مساحات أحجامها أو مساحات صمتها القاتل أو مديات عيونها الجامدة .

أين أمي ؟ , أين أبي ؟..

سألت نفسي فعرفتُ أنهما قد سبقاني الى السماء , حيث البقاء الأبدي .

في هذا المكان ينحدر النهر ويقوى التيار .

رأيت أسراباً في السماء .

عصافير وعنادل ودراج وبط وزرازير وحمائم  ولقالق ونوارس وغرانيق .

حاولتُ ان أستعيد صوت كل طير من هذه الاسراب التي كانت مدينتي تستيقظ على اصواتها وتضج بها بساتينها  وغاباتها , لكني نسيتُ بعض تلكم الاصوات .                                لقد تاه الأنين عني وانا قبالة (الشهوان) وغرائب ذكرياته الخفية الدافئة , النابضة بعطر الروح ,  وألق  الماضي  الجميل   …….

أصبح  الحب  مثل  نورسة  ,,  كلما  أطعمتها  ,,  فاض   من  حولها  النهر   ….

وكان  الحب  ,, هو  لحظة  إكتشاف  النبض  الزائد  فيها  …..

في  الحب  ,,  لا توجد  نورسة  أجمل  من  نورسة   …..

كان  الحب  بيننا  يصغّر الأشياء  ,,  وكانت  وحدها  هي  تكبر  …. طهرتُ  السطور

من  أشباح ( داعش )  ……….   تفتش  فيها  ,,  لعلها  تجد  وجعاً  ,, كانت أحد  أسباب

البقاء  في  هذه  الحياة  …

أنتِ   (  نورسة  )  تبدأ  ولا  تنتهي  ,,  كلما  إنحنيتِ   قبالتي ,,,,    تنبتُ  في  الأرض  وردة  …

على  حبل  الغسيل  ,,  ما  يزال  ريشكِ  مزررّاً ….

صار  الأرق أشبه  بخمرة  للعشق  ….

كم  تمنيتُ  أن  نقف  معاً  على  طرفي  شمعة  حتى  يوحدنا  اللهب  ,,,  لكني  ألجأ

الى  النسيان  ,,,  فالنسيان  هو  أن  نتذكر  من  نتمنى  أن  ننساه  …..

أتذكرين  لقاءنا  الأول  عند  أسياخ  النافذة  ؟؟؟

كلما  قنصت  باصرتي  غيمة  قطنية  ,,  يناديها  نبضي  …  (  صباح  الخير

ياغيمة  )  ,,,  هكذا  يبدأ  الحب في  أوردتي  حين  يكتب   يراعي  عنكِ   …..

نافذة الى همس الضفاف

قفي  قبالة  المرآة   ,,,    سترين

أجمل  إشراقة  صبح  ,

فيها  أجمل  ما  خلق  الله  ,  فأنتِ  نورسة

يذوب  بها  النص  ولا  تذوب  ….

أنتِ  وحدكِ  حرة  ترفين  شاهقة

بين   سعير  سطوري   ……

قالت لي (نورستي) :

امتزجنا مع النهر والزمن , وتحولنا الى قصائد مبعثرة  على  الضفاف …..

–           هناك خيل تصهل لقصائدنا .

–           وعصافير تحدق في ذاكرتنا .

–           أصبحت المدينة حقولا  يابسة وبيوتاً متأكلة .

–           إنظر امامك  , صفصاف أسير , وزروع تبكي .

–           لا أدري لماذا أرى العشب مبللاً بالدم ؟ , هل ترينه انتِ مثلي؟ .

–           أصبح المطر أسوداً , والمهاجر يكره الوطن .

هويات مات أصحابها وحرائق بأرجل طويلة , موت ودمار في كل لحظة.

رفعت رأسي وتأملت قطرة ماء سقطت من شجرة فانتشر حبر قصائدنا بين الكلمات , واختلطت المفردات ببعضها تداخل النهر بالدم , وغرقت الاشياء بماء النهر .

تبللت الهوية في جيبي , لكن الشمس طلعت من تحت سحابة ثقيلة .

فأضاءت المكان بدفْ ونور برد الرذاذ من حوله , وعادت عصافير الدوري المختفية في غابات دجلة ترفرف , وتنشر أجنحتها الصغيرة حول صمته المفاجئ..

سألتني (نورستي):

–           هل تحب روايتك   ؟؟….

–           روايتنا بالذات , , لقد أشرقت حروفها برفيف جناحاك , انت (نورستي) الصغيرة , من أجلك لا افكر في الوقت , وأنا المعتاد على الجمال والسفر ,

انتِ عصفورة بجناحين من فضة , جذبني عطرهما النادر والغريب .

ما كنت أحسب ان الوقت يمضي هكذا بسرعة جنونية , فنكبر معاً ونتوالد كالهواء انطلق ونبقى في لحظة تاريخ جديد كتبه القدر .

كل ما فينا من حب بقى حلاوته وطفولته .

–           لكن , لكل حب قصيدته الاثيرة .

–           منذ ان نط الحب في عروقي , وجدتكِ .  بقيت أتنفسكِ على مدار الوقت , كأنكٍ

    مولودة في داخلي …  عندما يكون الكحل خمراً , تسكر الأحداق في عينيكِ  …

دفعني شيء ما إليك بقوة قبل ان اراكِ , فكان حسابي صحيحاً منذ اول خطوة قادتني إليكِ .

ما احلاكِ وأنت تحطين على صدري أو كتفي .

أتذكرين اول لقيا لنا ؟ .. ما أجملكِ حينها وما أحلاكِ فيها .

تخطيت حواجز (الدواعش) , وعصابات الازقة الخلفية , والاحياء القديمة حتى ضفاف (دجلة) كي أراكِ …….

دفنت رأسي في رأسي سنين طوال , كي أُنهي هذا الحب العظيم . حب  (نورسه ترف نحوي)  .. يومها سقطت على قصيدتي , ودمعت عيناي .

كنت لا اعرف السواد الحالك , واصطدام الجثث ببعضها , وصراخ الغرقى في (دجلة) قبل ان يغرقوا.

–           يا له من عشق مهيب , عشق سماوي  أبدي الخضرة , حُضر فيه على   الشر أن يدخل ,, وعلى الخير أن يجيء  …..                                                   ناديتك , وصرخت بقوة.. نورستي , يا ألق حبي  ومهجة  قلبي  ….

غاب صداي عنك , لكن عطرك دلني عليك , لأعثر عليك بصعوبة في ظلام النهر.

ها انت تعثرين عليّ , وتلبسيني ثوب الحب مرة اخرى.

تركني ابي على الضفاف , رف بعيداً عني, وغادر (المدينة) الى غير رجعة , لم يترك وصية لي ولا لأمي .

كان حزينا ومرتبكا حين احتل (الدواعش) المدينة . بكى وتلاشى وانفطر قلبه , لم اعد اراه والى هذا اليوم .

–           آه… يا (نورستي) الحبيبة .  يا ايقونة (مدينتي) , يا مطر الحقول الخضر وسرة المكان الطاهرة .  يا نحلة تجوب الفراديس .

–           غرقت معي , فانتشلنا بعضنا في لحظة موت مشتركة . كان بيننا دم ينزف , وفضاء مطوق بالرعب والدخان .

–           ما انا إلا مجنون طائش , سلخت نفسي مني وجئت اليك . خذي هويتي وجواز سفري ذكرى لتنسيني بها , ربما تجدين مدينة اجمل من (مدينتي) .

–           كنت تمدني بالقوة والارادة , وكنا نكبر معاً ونفهم ان الحياة لن تكون لهم وحدهم. ما هذا الوهم الذي يلف هامتك؟.

كنت تصارع الرصاص والموت , والنهر ينقلب الى جحيم وحرائق يتصل بعضها بالبعض.

–           اين وصلنا ؟ .

–           وصلنا الى هنا , الى ضفاف (دجلة) , الى نظافة الروح وبياض القلب .

–           (مدينتي) تعذبني , و (حينا) يبكيني  .

تضحك (نورستي)

–           أنا (نورستك) ,  نورسة لن تتكرر ابداً..

–           لقد اصبحت روايتي  وألياذتي التي لا أملُّ من سردها ولا اتعب .

على الربوة المرتفعة في (حي الشهوان) والمطلة على النهر, نبح كلب حوله جراء صغيرة .

كانت سيارة رباعية الدفع قد ولجت بين الركام ووقفت قرب الربوة . تسابق معها الكلب وخلفه الجراء الصغيرة .

ترجل من السيارة مسلحون , ثم غابوا بين الركام المتناثر وبقايا الاثاث المبعثرة .

–           رفت النورسة جناحيها وقالت:

–           كل الساعات صباح , ما دامت الشمس مشرقة , الصباح في مدينتي أغنية تغرد لها العنادل …

خذني اليك , واكتب روايتك , فأنا ابنة القدر التي التهمت نار الشوق ثيابها في غفلة منك .

–           أنت (سندريلا) دجلة الموصلي .

–           أنا اكلم الذي مشيت اليه قبل ان يرتد  إليك طرفك  …

–           أنت الحب والبقاء, ايتها المقبلة لأجلي , وانت ترفين نحوي .

كان (دجلة) ينساب صامتاً اخرس .

ما حلمت به زمنا طويلاً , قد تحقق الان , وما اردته واهرقت سنيناً في انتظاره , انتظار اللاهف والمترقب والمشوق قد حصل , ولكن بشكل آخر لم يخطر على بالي .

خمسون عاماً وأنا أحلم وأهدهد …….

وأحلم بذات الحلم .

حلم رسمته مخيلتي بأرشق ريشة ,  وبألوان ضجت بالحياة , وحفلت بالنبض , والضوء , والمجيء .

تخيلتُ كما اشتهي , فكان لي معها فتوحات وارتماءات..

خمسون عاماً , وأنا أهدهد  الحلم كل يوم , ذات الحلم , حتى سكنني   ,, نقش بهي الخطوط والالوان على رقيم (آشوري) .

شهوة من الرقاد الازلي , ولون الانتماء الرائق .

أما الان , بي قهر لا يحد , وخجل لا يوصف .

مخيلتي أصبحت عاجزة ومحدودة . كنت اظنها مبدعة , تخلق قصائداً لها نداوة الطين الراغب في التشكل , القابل للطبائع , فتهب احلامي الوانها لا حصر لها.

الحياة رغم حلوها ومرها وخيباتها , لا يمكن ان تخلو من بعض المسرات المسروقة , وما مررت به كان حالة مسروقة.

يجب ان اكون واعياً من اجل (نورستي) وأصبُ نفسي وروحي بجنون العشق.

لقد احسستني عاشقاً ومعشوقاً في آن واحد , وهجمت على الورق اشهر له لهاثي , وأوشمه على زندي المفتول , واغرق المكان والنهر والضفاف والحي بمنحوتات تكفي قبيلة أفريقية بأن ترقص لأجلها.

كل فرد يرقص أمام صنمه.

لكنها سيرة ناقصة , سيرة لرجل من العالم الثالث , ازهر في حبه السنديان والضفاف وركض الغيم على مواويله . كنا معا موجة لاجه , جياشة , تمضي كهودج سكران بين اجساد متراصة , تنزف تحت سياط العشق , نهراً ثانياً يثور غاضباً .

موجه هياكل بشر… بقع دائخة , تضطرب اهواء واتجاهات وافلاك  …

كل فرد في المدينة اصبح يحمل قبراً مفتوحاً وسيفا يقطع به حبله السري وينسلخ عن مشيمته التي تربطه به في لحظة تمزق .

لحظة يغتال فيها النشيد النائب من بريق الجرح تلك الريح الصفراء التي باغتت (مدينتي) الآمنة .

بات المرء يحلم بالفرار من ذاته , من نضجه , من انامله…

من عهده , ليتمسك بأغصان الريح كشهقة عشق , تكاد تنتهي قبل ان تبدأ .

تحوم حولنا الرعشة ليتسرب الخوف من بين الهمسات .

هكذا تأتي الاصوات , وهكذا تروح وتغدو .

هكذا تحط الاسراب وترفرف مذعورة .

هكذا …… هكذا…..

كبوح عاشقة إختارها الجمال عشاً ونعشاً .

كانت (نورستي) بجناحين من فضة .

جذبتني كالعطر الثمين والغريب وابقتني على ثوبها بصمة حية ملونة .

ما كنت احسب ان الايام تقضي هكذا بسرعة جنونية , فنكبر معاً ولا نموت , بل نتوالد كالهواء الازرق , ونبقى في لحظة تاريخ جديد كتبه القدر لقلبينا .

اللهفة والحب الغريزي الى النهر جعلني اقف كثيراً على ضفته. في لحظة الاحتراق قذفتُ نفسي بلا تردد .

صاحت نورستي :

–           خذني معك.

اللحظة التي اخذتها معي كانت لحظة اعتراف خجولة , لكنها لحظة عشق استثنائية في حياتي .

–           كأن دمك يختلط بماء النهر .

عشق ودم وخوف يثقب النهر بجنون .

كنتُ اسمع دوي الرصاص من خرائب البيوت والحجارة التي سدت منافذ الازقة الضيقة في حي (الشهوان) حتى اصبح الولوج منها صعباً…

كثير من الرؤوس التي عبرت (دجلة) نحو الضفة اليسرى غطست ولم تخرج حتى اليوم , أو ربما جرفها النهر أو انتشلها الصيادون .

كان الماء لزجاً , وانفاسي الحميمة تختلط بأنفاس (نورستي) المذعورة .

–           خذني ابعد مما اريد , أنا خائفة..

لا اريد ان اموت تحت اقدام هذه العصابة السوداء .

ظننت ريشها مبتلاً ببعض الهدوء , كغيمة رمادية محايدة في طقس على وشك ان يعطس, كالسكران بين الغفو والصحو.

كنتُ مغاليا في يقيني بجماليات صوتها الانثوي .

كان رشيقا كشجرة خريفية اعتراها قطن السماء .

إرتقت اعضائها العارية جمالاً عن ازهارها .

ماء (دجلة) وشفتاي , وما بينهما يسكن شيطان الشهوة وحرفة الاشتياق .

يطول عنق (نورستي) فأرى حزنا يحمحم  لها من وراء الخرائب.

–           لا تكن حزيناً , فالنوارس لا تكف عن السؤال . تريد ان تحمحم قليلا كلاما دافئا معك, وتنفض شيئاً من عطرها عليك .

بين همس (نورستي) واسرابها , انتشلني شتاتي قليلاً  …

كم اعشق استفزازها. تذهب لتستحم ,  والنوارس ما تزال تهمس لي اصواتاً لا أفهمها .

وحيد انا وسط عتمة لا يبددها إلا نباح كلب , أو مواء قطة  أوصوت حزين يداوي جراح المدينة .

خراب في خراب… دمار متراكم فوق بعض .

امضي في زقاقنا الصامت .

لا شيء معي سوى حزني و جعبة طفولتي .

كلما اوغلت قدماي , يتعالى نباح كلب , ومواء قطة .

احسُ برجفة قلبي , وبرودة اعصابي . كأن مخلوقاً ما سيطبق أنفاسي . اهجس واهمهم  كالمهموم .

فجأة…

ارى رجلاً قبالتي تماماً , الى يمنيه يمشي كلبان ينبحان , والى شماله قطتان تموءان .

يمشي وهو يهمهم بصوت حزين . أهمُ ان اصرخ به , ومن قلبي , لكنني لا أطيق .

تأكدتُ في لحظة واحدة  أنني أعرف هذا الرجل , وقد حادثته من قبل , وشربتُ عنده الشاي .

لذلك , وقبل أن يتخطاني بادرني معاتباً :

– أنت هنا, ألم تمل, ارحل…!!!!

لم أرد عليه , لقد فقدت النطق أو لأن الكلام لم يكن في فمي ولم ألتفت نحوه , لأنني لم أستطع وقد حاولت .

بقيتُ أمشي . لا أدري من يدفعني إلى وسط الزقاق .

وصلت إلى بيتنا العتيق , وقبل أن أدخل سمعت صوتاً يهتف بي…. (أين نورستك؟)

دخلت ومشيت فوق الركام ومن خلفي يتناهى صوت نباح ومواء وهمهمة صوت حزين  …

كان صوت أمي  يهطل على هامتي… يا إلهي!!!!!!!

حيرني صوتها , كأنها تسألني .

تخثرتُ في لهاثي , كأني أسال نفسي في المنام .

كيف عرفت أمي (بنورستي) وحكاية عشقي لها , ومكان وجودي هنا…..

كيف عرفت تفاصيل هذا الحب ؟

جاءني صوتها مرة أخرى

( لا تتعب نفسك , أعرف كل شيء عنك , أنت وحيدي , سأعود بعد قليل) .

ابتسمت لصوتها الذي اشتقت إليه وإلى حنان كلماتها  .. هززت رأسي , يالها من غالية , بعثت الطمأنينة في نفسي وهي طي الغياب .

يا إلهي…. قبل لحظات كنت غريقاً في الحزن والاسى والذكريات , والذبول والانطفاء والحذر بلغني قانعاً, مستسلماً….. أسندُ نفسي على (نورستي) كي لا نسقط  ..

أكتشف عجزنا ……

نحن غرباء في مكان شرس , ومدينة معتمة . لا ألفة فيها ولا أمان , حتى النهر توقف عن الكلام , لقد أصاب البكم (مدينتي) , وتوقفت النوارس وبقية الاطيار عن التحليق , حتى منارات الجوامع لا آذان فيها ولا صلاة .

الكل بدأ يهرب , ولكن إلى أين؟ لا أعرف …..

لم أكن أتوقع أن يحدث هذا . كنت أظن أن الماضي ذهب بما ذهب !!! ,  لكنه فجأة يطل بقوة أوضح من الحاضر .

احتضنت ( نورستي) الحبيبة , وشممت عطرها الأثير .

مسحت دمعها , وقلت لها :

– ما مضى قد مضى , كان ذلك زمناً قاسياً , من  قواعد  الحب أن تزرعي  عصفوراً

فتغرد  الأشجار  ..  حينئذ  تتوقف  الربابة  عن  الأنين  ..

– أين ذهب الناس ؟ هل فرغت المدينة ؟ ,  لقد جفت الأحياء من الخلق .

– قد نجد بعضهم ذات يوم , الدنيا أضيق من حدقة العين .

– لماذا نحن الضحية ؟ ..

– لأننا أبناء (دجلة) الحقيقيون , أبناء الحقيقة الوحيدة التي تقاطعت مع زيفهم .

أن نحتفظ ونوثق ما جرى لتراه الاجيال من بعدنا …..

شممتها بعمق من عنقها وقلت من بين أنفاسها :

– سيعود (دجلة) للانسياب والسرد , وتعود الضفاف إلى شدوها الرائق المألوف وتتعالى مواويل الصيد وسباق القوارب المصنوعة من الصفيح الصديء , ستتعالى أعراس النوارس وعراك الغرانيق والفخاتي والعنادل وستخرج اسراب الدراج المختبئة في أحراش القصب والعليق والبردي .

– ربما جرفنا النهر إلى مدينة أخرى .

– لا تزال أشياؤها الجميلة تستطع قبالتي الآن .

كانت عيناها واسعتان مثل الامل . عينان مكحولتان بسواد عظيم , من فراغ ناري ملتهب .

كان الملثمون يصطادون الخلق وهم يعبرون النهر .

رؤوس تطلع وتغطس وهي تنحدر مع لجج النهر .

كان الوقت شمساً ونهراً وحريقاً طويلاً ودماً يلطخ سطح الماء .

ارتجفت (نورستي) وصاحت :

– لنهرب, لقد أصبح النهر مقتلنا …..

–  النهر  ساكن  ,,  فلماذا  يتبعك  الموج  ؟؟  ..

سمعتُ أصوات محمومة ومتسارعة , لا أعرف بماذا تصرخ .

كنت أشمُ رائحة الذعر والخوف في نبراتها .

راح الشعور بالفزع يتضخم . هرعتُ إلى الغابات المطلة على النهر, لكنها كانت مغمورة بدخان أسود أثر سقوط قذائف ( مدافع الهاون) عليها من الضفة اليمنى للنهر ومن بين خرائب البيوتات المهدمة .

ملثمون بالعشرات يركنون قواربهم ويطلقون النار بعشوائية فظيعة , وفي كل الجهات .

أيقنتُ أن ساعتنا حانت .

اختبأت مع (نورستي) خلف براميل مصفوفة ,  لكن الرصاص المنهمر جعلنا نترك المكان ونلوذ في الحفر وبين جذوع اشجار الكالبتوس والصفصاف والسرو.

شاهدت رجلاً يحمل جثة ابنته الصغيرة وهو يبكي .

جرحت ساقي الايمن رصاصة  ساخنة  ..

كانت (نورستي) ترتجف وتبكي وأنا أهدأ من روعها .

– لا تجزعي أنتِ معي  ..

أغوصُ في قاع , وأعيدُ ترتيب أوراقي القديمة   ..  أجمع حاجيات أمي من الكسر الفخارية والاختام الاسطوانية والاقراص الدائرية وأنياب الذئب وخرز التعازيم التي عمدتها أمي في نهر (دجلة) .

ها هو (دجلة) يثور علينا . أبحث عن بيتنا وسط خرائب السنين فلا أجده .

ما أفعله الان مع (نورستي) صعب . تداعيات شاقة وعسيرة ومؤلمة ,  أجج لهيبها طيف أمي المفاجيء .

كل هذه الالتماعات قد توفر قدراً من الاجتهاد في وصف ملامح حينا , حي (الشهوان) , وشكله وطقوسه وسحره وتقاليده وعاداته وزوالها المستمر وحضروها الدائم .

أعتقد أن المهمة ليست بمثل هذه السهولة .

لكنها فكرة على أية حال .

هكذا ينمو العذاب في أوصالي منذ زمن لا أعرف بدايته وإلى أين ينتهي ؟ ..

أعجوبة هذا الزمن , كتب علينا أن أكون فيه مع (نورستي) ونحن نعيش حالتنا المدوخة ونمارس طقوس حياتنا منذ اللقيا الأولى , عند ضفة النهر .

أصبحت (مدينتي) تتسكع بتثاقل على الشط عندما فجت الضفاف امرأة عجوز تتوكأ على عصاها. شعرها ابيض وثيابها بيضاء , بيدها سبحة طويلة , كان السبحة ترتجف مع ارتجاف يدها التي تحمل بعض من حصى (دجلة) .

نظرت إليها وصرخت :

(أمي…..أمي…..)……

لكني ابتعدت عنها متمتاً :

(إنها ليست أمي)…………………..

ظلت المرأة تسير بمحاذاة الجرف قبالة بيتنا المهدم , تلكز الضفاف وتنقرني بعصاها على ظهري :

(قم يا بني)……

بقيت متكوراً على نفسي :

– (أنا لست ابنك)……

– (لا فرق عندي, كلكم أبنائي)……..

– (ماذا تريدين مني؟)…………..

مرت على وجهي حصاتين فشممت فيهما رائحة (عين كبريت) ( ) و( عين فصوصة) ( ).

(يجب أن تعود  يا بني, (نورستك) بانتظارك) ( )

(إلى أين يا إمرأة ؟)……..

نظرت نحوي بعينين دامعتين :

(أنا أمك يا بني)…….

أمسكت المرأة بيدي , وسارت معي باتجاه (شيخ الشط) ( ) , وعندما تعبتُ جلستُ عند الجرف , بينما واصلت المرأة سيرها البطيء حتى غاب ظلها وراء شجرة تين كبيرة نبتت على الجرف .

غاب عني صوتي , فأنحنيت على جسدي وأحلامي .

بهتت (نورستي) وراحت تحدق بي . لقد اخذتها الدهشة هي الاخرى .

– نم الآن…. حاول أن ترتاح يا حبيبي ….

من يداوي من ؟ …… لا أحد يعرف ؟……

بقيتُ أبكي أشلائي على أزمنة ناس وتقاليد (مدينتي وحينا العتيق) … لقد انتقل الجميع من عهد لعهد .

ألجُ في مورثاتهم وذاكرتهم ….

هذا يضربني وذاك يداعبني والاخرى تعشقني ورابعة تطردني والخامس يجعل مني مقبرة لنزواته وآخر سيفاً لثاراته , وقد يجعلني جذعاً لفروعه وأغصانه .

أبقى وحيداً بين مد وجزر…..

يقايضون بي . أصبحتُ الاب والأخ والزوج والقديس والعاهر, الرجل مني وأنا منه , إلى أين ؟ لا أدري….

أصبح الجميع يتاجرون بأشلائي , وبقيت وحيداً أبحث عن أشلائي . أبحثُ عن أسمي في كل اسم. أرنو إلى النهر , فأشعر بشوق عارم إلى مائه , إلى قعره , إلى السفر والغطس فيه …

أنظر إلى اليابسة , تمر من أمامي أشلائي في بشر لا أعرفهم وأرى وحوشاً ملثمين تتصارع , ودماء تجرف حجارة وأرى بيوتا تبني من جسدي حجارتها ونوافذها , وأبوابها أرى كل هذا ولا أعرف من أكون… أنا ؟….

هل صرت عنترة بين شداد , أم أبا زيد الهلالي ؟ ……

لكني أظل في حلم قاتل بالمستقبل المجهول ,,

الذي أهز فيه نخل الخلود , فأكون عصياً ومتمرداً على عتمة (الدواعش) التي داهمت وغزت وهدمت (مدينتي) غفلة.

نظرت إلى السماء وهتفت :

(أماه, لقد حفرت السنون أثارها في عينيكِ .

(ما زلت أمي التي لا أنام إلا في حضنها البري) .

ردت من بعيد , من وراء الغيم الهارب إلى الغرب .

(أنت وحيدي يا بني) .

هتفت مرة أخرى:

( ما حكاية أيامك يا أمي؟)….

أجابتني بصوت واهن:

(الانسان يعيش كي لا ينسى) .

قلت لها :

(هل أنت ِ راضية عني يا أمي) ؟ …….

اجابتني بحنان :

 (حتى قبل أن تولد يا بني).

( لقد رأيتك يا أمي قبل ولادتي).

(والدك زرعك في بطني ومات) .

(هل تذكرينه يا أمي؟) .

( يومها كنت صبية جميلة , هكذا قالوا لي , كان يوماً كما الحلم , وكنت ممتلئة بالنقاء وصفاء الروح .  وجدتُ نفسي بعيدة عن مضارب أهلي . جرتني خيوط سرية , فتوغلتُ خلف ضفاف النهر حافية .

كان الصمت موحشاً , إلا من رنين خلاخلي , وقلائدي وأقراطي . تبعث هذا الرنين الملائكي وأنا سعيدة دون سبب أعرفه .

منقادة وراء الرنين الروحي المقدس الذي احسه يتفجر من داخلي وحتى ساعات طويلة . وجدت نفسي وحيدة في صحراء لا أفق لها. ضاعت مني كل الجهات , وكان المساء يقترب نحوي . ثم شق الضباب الراكد فارس ملثم. اقترب مني ودار حولي دورتين , ثم سرق قلائدي وخلاخلي واقراطي دون أن يقول أو يفعل شيئاً وأنا حائرة ومتوحدة , في حيرة من أمري .

كنت أخشى أن يغيب النهار , حتى انبثق فارس جميل يمتطي فرساً بلقاء كغيمة ناصعة . أركبني وراءه وانطلق بي كالسهم البارق .

كان حلماً أو أشبه بالحلم .

في تلك اللية غفوتُ هانئة ومستريحة وفي عينيّ ذلك الفارس الشهم الجميل الذي أحسست كما لو أنه انبثق من رحمي) .

سألتها راجياً :

( ما الذي تطلبينه الآن من يا أمي؟) .

( ماتت السنوات يا بني) .

( أطلبي المستحيل يا أمي) .

(فقدتُ كل شيء… لم تبق إلا أنت يا ولدي , اتبركُ بك وأحصي ما تبقى لي من عمر).

(أما رأيتني من قبل يا أمي؟) .

(أجل, رأيتك كثيراً) .

(أيام الصبا؟) .

(نعم, يومها كنت ريحاً) .

( هذه يا أمي قلائدك وخلاخلك واقراطك , هي معي منذ ذاك الزمان , ما زلتُ أحتفظ بها) .

(إعطها لنورستك مهراً لها , واحرسها ولا تفرط بها. (نورستك) هذه نقية أصيلة , حافظ عليها كماء عينك).

 غاب طيف امي , وتلاشى صوتها الحبيب وبقى نهر (مدينتي) ينساب ساحراً رقراقا صافياً عذباً كعادته منذ أن ولدت أنا على ضفافه .

أفقتُ من غيبوبتي على قطرات ماء نثرتها (نورستي) برفيف ريشها الابيض.

– أين سرحت ؟

– سعيد جداً بك , أحلم بدفئك وقربك مني . آن الوقت أن أعود إلى البيت .

– لا تنسى موعدنا غداً ؟ ..

– إن شاء الله .

في الطريق اشتد المطر عليّ فحثثتُ السير كي لا أبتل أكثر دائماً.

اشتد المطر وقت الغروب , وبدت لي الاشجار والبيوت مستسلمة للمطر الغزيز, والشبابيك تدثر نفسها بالستائر الطويلة , والشارع يقود الماء إلى نهايته نحو المنحدر برفق حميم.

بدأت احسُ بأن ضباباً بدأ يهبط على المدينة , وراح يحيط بالمكان ويحجب عني مرتسمات البيوت والعمارات وأعمدة النور المطفأة لم يكن في الشارع أحد سوى رجل عجوز, ضامر الجسد, بيده عصا , يتقدم نحوي .

بدأ الرجل غير مبال بالمطر . أراه يرفع العصا إلى أعلى رأسه , ويحركها إلى الامام والوراء ونحو الجانبين , فتنكشف فوقه تماماً مساحة من الضوء داخل الغيوم , مساحة لا مطر فيها ولا ضباب وحين يقترب مني ويحاذيني , أرى ثيابه جافة وكأن المطر لا يصيبها.

حينها لمع ذهني حدس بأن هذا الرجل وهم أو خيال , فهممت بسؤاله قبل أن يغيب عن باصرتي . كنت فقد تخطيته بخطوة واحدة فقط , وكان هو قد تخطاني بخطوة واحدة ايضاً ,  فاستدير نحوه فلا أراه , لكأنه فص ملح وذاب .

أحسُ بوطأة خيبتي وثقلها على هامتي .

وقفتُ مثل ثور الساقية لا أدري ماذا أفعل ودونما تفكير .

جلستُ في مكاني , وافترشتُ الشارع والوحل , بينما المطر يتهاطل بغزارة شديدة , ولم أنهض إلا عندما شعرتُ أنني صرتُ قطعة من خشب , وحين نهضتُ , سمعتُ أحدهم يقول لي :

– خذ بيدي يابني , ولا تتركني في المطر!!!

التفت نحو صاحب الصوت , فأرى الرجل العجول , الضامر الجسد , وقد مد يده نحوي , فأمد يدي إليه , لكن يدي لا تقبض على شيء .

لا أعي كيف وصلتُ بيتي . لم أشعر بنفسي إلا وصرتُ أمام البيت تماماً .

رأيتُ ورقة ملصقة على الباب , مكتوب فيها :

– إلحق بي, لا تبقى وحدك  ……

دخلتُ البيت وغيرتُ ملابسي , وخرجتُ مرة أخرى كي ألحق  ( بنورستي ) ..

في الطريق رأيتُ الرجل العجوز نفسه يذرع الرصيف على عجل , وعلى يمينه كلبان ينبحان وإلى يساره قطتان تموءان.

كان صوته يتعالى وهو يلعن (الدواعش) , وبعض المارة يصفقون له حتى يغيب .

لا أدري ما الذي كان غريباً ومدهشا .

في شكلي…. لأنني ما أن وصلت إلى المارة حتى رأيتهم ينظرون نحوي باستغراب شديد .

كنت خائفاً جداً , وفي حالة مزرية , فوددت الاحتماء بهم , لكنهم انفضوا من حولي وابتعدوا وهم يهمهون , لكأنني مصاب بمرض معد .

أسئلة تدور بي , أحاورها فتلفظي بقسوة إلى خارج الشارع مثل الطريد .

أبداً, لم يكن في البال ما يثير الهناءات أو الفرح .

كانت النفس حزينة , كسيرة , موجعة ,  كان السماء بليلة بالأخبار, الاخبار التي تبصقها الاحداث كل لحظة .

عدتُ إلى البيت , وهيأتُ نفسي للفراش والرقود , فما طاوعتني .

بدأ الجسد قلقاً , نافراً من الهمود , لذلك إقتدته وخرجت به إلى شوارع المدينة التي أعيش فيها .

يداي تناوبتا على التهام  وجهي فركاً وتمسيداً وملامسة …

كنتُ أحسُ على الرغم من التجوال أن حواسي ضيعت صحوها ، وأنني تائه وضال أو أكاد. باصرتي تتقافز هنا وهناك ، ولا أقوى على لجمها ، ويداي في انشغال دائم بأمور واشياء لا استطيع تحديدها ، وخطاي مقبوضة حينا ، ومنفلتة حينا آخر على غير اعتياد منها ومني .

بدت حركتي واهنة متعبة حين وصلت (منصة الاحتفالات). كان الرصاص المذّنب ودوي الانفجارات يشق عنان السماء ، وسيارات رباعية الدفع تمر كالسهم البارق وفوقها ملثم يطبق بكل قوته على رشاش ثقيل ذو سبطانة طويلة وهو يصرخ بقوة (الله أكبر، ,,  الله أكبر).. من الغالب ومن المغلوب ؟.. من المنتصر ومن المهزوم ؟ ، من الرابح ، ومن الخاسر؟  ……

الكلُ يمرق من أمامي وهو يصرخ (الله أكبر …..  الله أكبر)….

هناك مصادفة وجدت نفسي قبالة (نورستي ) الجميلة  . إرتعشتُ عندما لقيتها وجها لوجه.

إبتسمت لي وقالت :

–           أكلني البرد والليل ظالم…

شعرتُ نحوها بحنو لم أعهده في نفسي . من قبل هي وحيدة وأنا وحيد . هي تبحث عني ، وأنا أبحث عنها ، لماذا لا نمضي معاً ؟…

كان ريشها الابيض الناعم يلفني حينما يلف وجهها وعنقها بين حين وآخر..

قلت لها :

–           أنا مطفأ وحزين وأنت نصفي ، نحن  نقف  على  طرفي  شمعة  حتى  يصهرنا  اللهب  ….

–           تمتمت وهي تنقر خدي بلطف :

–           أرجوك… لنمضي معاً ، الآن بدأت رحلتنا  الى  بر  الأمان

قادتني وقدتها ، ولا أدري كيف مضينا معاً ؟  , وإلى أين ؟ ……

جلستُ مع (نورستي) القطنية النقية ، الصافية الجميلة ، على ضفة الشط. كان (دجلة) المقدس يموج أمامنا . أخرجتُ ورقة صماء ورحتُ أرسم تخطيطاً أولياً (لمدينتي) طغراء من أهلة ونجوم ولقى وطيور محلقة ومياه وسعف نخل وأشجار وسلالات من بني (آشور) . ثوار وجياع ومرضى ، تائهين ومتسولين ، فنانين ومتسكعين ، قيثارات وكمنجات بلا أوتار ولا أنامل .

رؤوس ثيران وسلال ورد وأغنام وكلاب وخيول ورعاة وبدو . أتراك وهنود وغجر . فتيات في ثياب قصيرة ورصاص مذنب وأحمر يقطع ورقتي من اسفلها إلى أعلاها ولا يصل إلى مكان .

صار لنهر (مدينتي) شرقان هائلان .

أرفع قلمي و (نورستي) لصق كتفي .

كنا نتأمل معاً هذا المشهد الساحر كثيراً ، والمشوش كثيراً . أشطب  على كل الاشكال بخطوط ناعمة متجاورة .

يدي تهتز بليونة فتصير الظلال خفيفة ، تطمس اشكال وتبقي أخرى ،  تومض تفاصيلها وراء الخطوط .

لا أرى أمامي الا بضعة خطوط وأشكال مبهمة لا تفصح عن شيء .

أتراني فقدتُ المشهد الذي ظل يطاردني أياماً متتالية ؟ ، أم أني في الطريق الذي فقدته ؟ ..

لا، لستُ متأكداً حتى الآن متى إنطلقتُ ومن أين بدأتُ ؟…

تريح (نورستي) عنقها الانيق على كتفي وتهمس لي :

–           ما أروع اللقيا ، هيا نواصل معاً رحلة الحب  الطروادي   الفريد ، ونطوي تأريخ  (داعش) الأسود…… تصطدم الفضة ببريق الذهب ، والخناجر بالأقنعة  , والسيوف  و الرماح  بالدروع .

يتشظى  بريق جميل يرشنا نحن الاثنان معاً ، فنغطس في لجة الحب القدسي الجميل..، تلك هي (نورستي) ظلت ترف نحوي حتى نهاية  ألياذتي   الموصلية العجيبة التي لم تكتمل فصولها بعد , فحرائق  الأرواح

,  تفضحها  حرائق  العيون ..  كأنها  قمر  يسبح  في بحيرة  الدموع ..

لقد  علمتني  هذي  الروح  ما  لم  كنت أعلم  …..

( نورستي )   ….طير لا يبقى  في  عشه  …….

نافذة الى فضاء  الضوء

هناك   نورسة  تُنسى  بنورسة  ,,

وهناك  نورسة  لم  تُخلق

للنسيان  ,   هي  الخط  الواصل

بين  نقطتي  نور  ,,  تبقى  القبلة  إبتلاع

روحين  في  ريق  واحد  ….

ثلاثة أسابيع لم أر  فيها ( نورستي ) . ربما  تاهت مع أسراب الطير المحلقة فوق  أمواه

دجلة  ……  ربما   …..  ولكن  ! ! ! ! …

ها  هي تزهو  في  البال  والنبض  كحورية  شف عنها  الزمن ,  ووقفت  حانية  تتمطى  في  مرقدها   كشمس  صغيرة   بزغت  في  عتمة  الروح …

رأيتها  ترفرف  من  بعيد  ..

 رجوتها أن  أراها حالما  … تحط  الأسراب  على  صفحة  النهر ..

لوحت   لي بجناحيها  بأنها  آتية  نحوي  ..

هناك  على  هضاب  جناحيها  تجلس  الحياة  متفتحة  بشتلات  ورد  دائمة  الحمرة , تطل  على سهول  ثلجية  …

تمنيت  أن  أرى  وجهها  في  هذا  الصباح ,  وأن  أرى  لمعة  عينيها  ..

كانت  ( نورستي )  أميرة  الجمال  ,  والندى  يرش  وجنتيها  ..

تتلعثم  خطواتها  في  الطريق نحوي  ..

ناولتها  شريطاً (  لمحمد  عبده ) :

_  أريدك  أن  تسمعي أغنية (  أحباب  كنا   )  ,  كأنه  يغني  لك

_لن  تراني وأنا  مستيقظة  من  النوم    …..

نأتي  الحب متأخرين دوماً  , بصيغ مغايرة  يعيدُ  الحب  نفسه  ببدايات  وإنحدارات   مباغتة  الألم  …

حتماً  نضج  الحلم , ولكن  الزمن  هو  الذي  لم  يستو  بعد  ,  فما  جدوى  أن  يبلغ  القلب  رشداً  سريعاً…

قالت ( نورستي  ) :

_  في  الحب  والحرب  ,  يسقط  الأبرياء  فقط  ..

_الحب  أن  تسمحي  لمن  يحبك  بأن  يجتاحك  ويسطو  على النهر  والمدينة  ..

الحب  قوة  وليس  ضعف  ..

كنتُ أغادر  البيت  لأول  مرة  منذ  أسبوعين  عندما أشعلتني  رياح  الخريف  التي  لم  أحسب لها  حساباً  …  فاجأني  الحزن  القادم , كما  المطر  هنا  سابقاً  بموسم .  كانت  المدينة تستعد  لأنهاء  دورة  الفصول  والبدء  من  جديد  …

كما  اليوم , كان  الطقس  خريفياً  يغري بشيء  ما ,  ولكنني  اليوم لا أحاول  أن  أسأل  نفسي , بما هو  يغري  بالتحديد  ..

مشيتُ  على  العشب الأخضر  الذي  صار  رماداً  ..

يختفي  العالم  و  المدينة  من  حولي  ..

تبدو  الشوارع  المزدحمة  بالمارة  خالية  أمامي  …  تصيرُ  أرضيتها  السوداء  مثل  حقل  ورد  ,  وكأن  العالم  قد   توقف  عن  الحركة  ..

كأنني  أسير  بخطى  قصيرة  تعود  بي  الى  البيت , كما  لو كنت  نورساً  فتياً  يتقلب  في  طيرانه  ….  أخلعُ  ثيابي  وأستلقي  في  الفراش  ….   السكون  يغمر  كل  شيء  ….  لا أسمعُ  سوى  قطرات  ماء  تتساقط  من  صنبور  مياه  ….  أنهضُ  وأسدل  الصنبور  الذي  يقطر  الماء  ….  أحكم  إغلاقه  فيعم  الصمت  …

ثمة  ريح  تدور  في  الشوارع  وصافرات  بعيدة  وأخرى  قريبة  مني   ….

أعودُ الى  فراشي   ….

لن  يمكنني  النوم  ..  أسمعُ  من  مذياعي  الصغير  إذاعات  مختلفة  ….  أخبار  تتضارب  وتتناقض    و أخرى  تقلب  المفاهيم  المشتعلة  في  ذهني ..

ربما  الحريق آت   ……   ربما  …..  ولكن  ! ! !!  …

فجأة  يبرق  ضوء  ساطع  حاد  ينير  كل  شيء  بلمح  البصر  ,  ويدوي  إنفجار  هائل  ,  ينهمر  بعده  فيض  من  زخات  رصاص  يصم  الآذان  …  تهتز  الحجرة  ويهتز  السرير  ….

أسمع  الباب  الحديدي  يصدر  صوتاً  معدنياً  بطقطقات  عديدة  …

أبحث  في  العتمة  عن  باب  الحجرة  …   أرى  باب  البيت  قد   فتح  على  مصراعيه  …

هل  دارت  عاصفة  في  الشوارع   وفتحت  الباب  ؟ ؟ ؟

أعود  الى  إغلاقه  بأحكام  ..

أسمع  صوت  ( نورستي )  يأتي  ضعيفاً  من  بعيد :

_ ماذا  …..  ماذا  يحدث  ؟ ؟

_  لقد  بدأت  حرب  التحرير   …الجيش  يطهر  المدينة  من  (  الدواعش )  ..

أصعدُ  الى  سطح  البيت  وأنظر  الى  الجانب  الغربي  من  المدينة  …

كان  اللهب  الأحمر  يتصاعد  في  الليل  وهو  يخترق  الظلمة  …

كانت  الحرائق  تندلع  عبر  النهر  و ( نورستي )  تختبئ  جوف  العتمة   …

لم  يعد  لصياح  الديكة  مكان ….

الديكة  سكتت  هي  الأخرى   …

  (  نورستي  ترف  نحوي  )  و ترتجف  …

أهمسُ  لها :

_  لا  تخافي   …  أنت  معي   …

ليل يعقبه  صباح  , وصباح  يعقبه  ليل  ..

وأنا من  أكون  أيها  الرعد  القاصف  في  الليالي  الممطرة  …

  من  أكون   أيها  الليل  المتثائب  على  الدروب  المقفرة  …

ليت   لي  صوتاً  قوياً  يقتحم  النفوس  ويتردد  على  تخوم  الكون  كالصدى  ؟؟..

ليت  لي  صوتاً  يهز  السامعين  في  كل  مكان  فأحّدث  الناس  بلغة  سماوية معطرة ,  وأروي  لهم  في  ليلة  مقدسة  عن  كائن  علوي  هوى  كالصمت  ؟؟ …

غامت  الرؤيا  فليس  في  الكون  مصباح , والطوفان  القديم  عاد  كرة  اخرى  بوجه  أكثر  ألماً  وحزناً  ووحشة  …

وعلى  الدروب  أشباح  وفي  الوعور  غيلان  …

ليت  لي  صوتاً  يهز  السامعين , فأحدث  الناس  لا بلغة  الشعراء المترفة , ولا بلغة  العلماء  الحيية  الخفرة . ولا  بلغة  الفقهاء  الحاكمة ,,,  بل  بلغة  الأنسان الذي  أضر به الأشتياق  فتكلم   ؟؟؟….

أواه  …  يا (  نورستي ) ليت  لي أن أجلجل مثل  الرعود  ,, ومثل  العواصف والبروق , فأقصف  كالفجر ذي  الأنوار , هذي  الفجاج و تلك  الهضاب  وأغسل هذا  الوجود وأكنسُ  تلك  التفاهات  السخيفة  المكررة  و أحطمُ تلك  القلاع  والأكاذيب المسورة  ,,  وأدك أركان الظلام بضربة كالزلزلة  ثم  أعتذر  الى  الله  وأطلب منه   العفو والمغفرة  …

آه  ….  يا  ( نورستي ) لو  تعلمين كم  يعذبني  الكلام  ,, فليس  كل  الكلام بسواء …

فبعض  المفردات  من  النار وبعضها  من  صقيع  الصعيق  وفي  القلوب ما  هو  بارد كالكوكب  المنطفىء ,, وفي  القلوب  ماهو  بركان  متفجر  يهدر  حمماً ونارا  ,,  يمنة  وشمالا ….

فبعض  الكلام  يغرف  من  نتف  الثلج , وبعض  الكلام  يغرف  من عيون  الحمم  .. و أنا  أهرول  ساعيا  من  الكلام  الى  الكلام , أبحث  عن  لغة  وسطى   ,,  عن  لغة لا كالثلج ولا كالنار ,,  عن  كلام لا كالكلام  ….  شقي أنا  بتعاستي يا ( أميرتي ) هذا  الحديث , بالشوق أحمله  كالأمانة  التي  أشفقت  من  هولها السموات والأرض , بأوزار  الحياة التي  تكبلني وأجرها مرغما  على ثقلها لأطوق  بها  الدنيا  …

بالشعر ينظمني  وينثرني آناء  الليل  وأطراف  النهار ,  يبعدني  ويدنيني , يرفعني  الى علياء السموات ثم  يرميني  ,,  أتلوه كصلوات عابد  في موهن الليل وكعاشق يبوح بسره لكائنات لا يراها إلا هو  ……….

لكن  الرياح  لاتحمل صوتي الى حيث يُسمع  ,,  والناس  في  دفء مخادعهم لا يسمعون إنتحاب  القلوب  المتوجعة في صميم  الليل ..

صوتي يا ( نورستي ) مخنوق في  كوب لا يُسمع فيه إلا الفحيح , في  دوامة ترغي  وتزبد فيها  الحناجر  وتتلاشى  الكلمات ,, لكأنني أتكلم  من  قعر  بئر سحيق فلا أكاد أميز صوتي  وفحيح  الجدران ..  بل  أكاد ألا أعرف صوتي  ,,,  ألا  أعرف نفسي  في صخب  الحياة الذي  لا يرتاح الى نهاية ولا يستنيم الى  لحظة  من  لحظات  الهدوء  ….

 أنا كوكب  منفلت  يا حبيبتي ,, خرجتُ  من  مداري  ومجرتي لأطارد  في  الخلاء الأبدي الفسيح نجمة  سرابية يفصلها  التيه  والتيهور  العظيم  عني  بملايين  السنين  الضوئية  ……  معتم  أنا  يا ( أميرتي ) حتى  الأنطفاء والوحشة  ,,,  ومتعب  حتى  التلاشي  وحتى  الفناء  …..

الموت  يدق  أبواب البيوتات , والجميع  يرحلون إلا  القلة الذين  ليس  لهم  مأوى آخر  على  الأرض ,,  وهم  ربما  فكروا  بالرحيل  الى  الأحياء  البعيدة  والبقاء  في  مأمن  تحت  رحمة  البرد  والمطر  بلا سقف  يأويهم  …..

المدينة  تخلو  شيئا  فشيئا ,, وصورة  ( الشهوان ) تزداد  إنطفاءاً في  الذاكرة  فلا  يبقى  منها  سوى  خطوط  باهتة  لها  لون  الرماد   ….

لم يعد  الموت  مخيفا  لأحد , يعبر  الناس  لحظات  الخطر  مثل أبطال  تراجيديين  من  مأساة  أغريقية  مبكية  ..

أصعد  الى  السطح  في  ظلام  شامل , أنظر  الى  البيوت  المظلمة  مثل  هياكل  سوداء  اللون تناثرت  بلا  تنسيق  .. لا يبدو  على  السماء  المظلمة  سوى  خطوط  الطلقات  المذّنبة  التي تتصاعد  في  مكان  ما  بعيد  ..  ربما  تمضي  وراء  طائرة  …

يتصاعد  الدوي كل  لحظة , وتعصف  الريح  الي  تحدثها  إنفجارات  القنابل  هنا  وهناك  ..  برغم  كل  شيء  أرى  مدينتي  صامدة  مستبسلة .  ناسها  يتنقلون  في  شوارعها  غير  عابثين بمطر شظايا  القذائف  والحياة  تجري  في  منوالها  المعتاد  …

لو  بإمكاني أن أحمي  مدينتي  من  هذا  الطاعون !!!  لو أمكنني  أن  أكون  درعا  لها  …  لكن  يا  للحسرة , لست  سوى  جرم  صغير  يطوف  مع  نورسته  في فلك  ضال  …..

أمواج ( دجلة ) ترتفع  وتتجه  الى  الشياطين  لتتكسر  هناك  موجة  أثر  أخرى  في  إتجاه  معاكس  …..  صفوف  من  المارة  تحمل  أمتعتها  عابرة  النهر  الى  مكان  ما ..  صف   البيوت المواجهة  للشاطىء  ربما  يكون  خاليا  من  السكاكين  التي  ينحر  بها  ( الدواعش )  الخلق   وهم  يعبرون  النهر  الى  الضفة  الأخرى  .. لم  يعد غير  حجرات  فارغة  وقطع  أثاث  مبعثرة  …

الى  أين  يرحلون  ؟؟ ..

أتساءل  بحرقة  …  أليست  كل  بقعة  من  المدينة  تغير  عليها  الطائرات  ؟؟؟  …..

تألقت  الشمس  منذ  صباح  اليوم  وغمرت  بأشعتها  الذهبية  سطوح  البيوت  ..  ايقظت  نورستي  من حلمها  الجميل  …  كان  بياضها  القطني  الجميل  يلج  الى  شغاف  القلب  كقطعة  سكر  في  فنجان  أضناه  الشوق  ..

ما  لبث الندى أن فر مهزوما  في الهواء  متبخراً  من  على  أوراق  الشجر وإختفت  قطراته  اللؤلؤية البراقة ,,  لكن  البرد ظل  يجثم  على كل  الكائنات  الجائعة الباحثة  لها  عن  طعام  ومكان  في  ركام  الحرائق  …

خلت  السماء  من  الغيوم  وكانت  الرياح  ضعيفة , لذلك  صارت  السماء  مسرحا  للطائرات  بعد  أن خلت  من  وجودها  في  الليلة  الممطرة  الغائمة  الماضية   …

تمنيتُ  لو  أن  الضباب  الكثيف  يغطي  المدينة  ويفقد  الجميع  باصرتهم لما  حولهم  …  كان القلق  من  المجهول  المفاجىء , يهبط  علينا  كطائر  خرافي  ويضرب  سطوح  وشوارع  المدينة  بجناحين  رماديتين   …

يوم  آخر سيمضي  ومدينتي  تحت  ضربات  الجوع  الذي  يهز  الأجسام ويجعلها  فارغة كدمى  من  قش  ..  أجساد  خاوية  ليس  بإمكانها جلب  الخبز  الى  أفواهها  …  يصير  الرغيف  ملاكا يحمل  الى  الوجوه  حبل  الأنقاذ  من الغرق  المحتم  في  بحر  المجاعة   ….  قد  دخلت  لجة  عينيك  يا  ( أميرتي )  وخطوت  فيهما  بعيدا ولكن  …  هل بعد  السراب  إلا  السراب  ؟  ..  أحقيقة  لعينيك   تلوح  من  بعد  السراب ؟  ..  وهل  سأظل  أجري  وألج  الشعاب  والمتاهات وتظلين أبدا يا  (  أميرتي )  كالسراب  الذي   ظنه  الظمآن  ماء  ؟ ؟ ..

على أنني  في  البدء  تبعتُ  النداء  ولم يكن  النداء  معلوما , وكانت  الآفاق  غيوما  تبتلع  الرؤيا  وتسدُ  منافذ  النور  …

وحيدا  كنت  ولم  أزل  وقد  تشعبت  أمامي  الجُدد فأضحت  نسيجا مروعا   لعناكب  خرافية ,, وأنا  الغريب  والضيف  الوحيد ,,  أمامي وخلفي  غيب  المتاهات ..  لم  يكن  العود  محمودا  ولا  المضي  محمودا ,,  لكنني  مغامر  أعشق  ( نورستي  ومدينتي )  أتلفت  كل  شيء  ولم  يزل  بوسعي  إتلاف  المزيد  ….  مكسور  يا  ( أميرتي ) ولم  أبح الحقيقة  بعد ,,  فهل  تأذنين  لعاشقك  الذي  يمتطي  دابة  عرجاء  ويشهر  سيفا  خشبيا  قديما  ,,  يحارب  به (  شياطين )  الدمار ؟  ..  أن  يرفع  لسموك  إنتصاراته  , وزبدة  حروبه  وإنكساراته  ….

أواه  يا  (  نورستي ) ,,  ليس  في  الكون  لغة  تسبر  غور  القلوب ,,  فما  بين  أغوارها  السحيقة  المستوحشة  وسماواتها  المتحفظة  لا تطير  الكلمات  ولا  تحلق  ..  أواه يا ( أميرتي ) ….  أنا  سالك  الدرب  الحزين  والتائه  الأبدي  في  الظلمات  بلا  مسرجة  ولا  مصباح , وهوالضلال  القديم إذن  واللغة  الكبرى  والوهج  البعيد أطلبه  وأجري  إليه  سعيا  والهلع  المروع  يعظم  في  قلبي  حتى  الأغماء  والهذيان  ,,,  لكنني  يا  ( أميرتي )  طفل  يهرع  في  غابة  ترقد  تحت  ليل  مضن  وسقيم  وتتراقص  فيها  الظنون  والأشباح  …  سلام  على  الأحزان  التي  تبخرت  واندثرت  وتلك  التي  ترسبت فأضحت في  قرار  مكين  …   سلام  على  الخطا  التي  مشيناها  والخطى  التي  سنمشيها  ,,  التي تلوناها  وتلك  التي  سنتلوها   ……  على  الأكنة  الصم  التي  جلوناها  وتلك  التي  سنجلوها ……    سلام  على  ما  فات  وما  سيفوت  ,,  على  السراب  الذي  أضلنا  والسراب  الذي  يتربص  بنا  ….

مثلك  يا  ( أميرتي )  يأخذني الحنين الى  البعيد البعيد  ,,,  الى النهر  والمدينة  ,,  الى  صبايا لاهيات  وعجائز ينسجن  الشمال  وشيوخ  ينحنون  للماضي  في  خشوع  ويتذاكرون  أيامهم  في  إنسياب  هذا  النهر  العتيد  …..

هذا  أنا  يا ( مليكة )  الحب  والأشواق التي ملّكتها أزمتي  وألقيت  في  مجراها  سفينتي و أمانتي   …..   هذا  أنا  فارسك  الذي  تضخم  في جوفه  الحلم  فأوحى  له  ما أوحى   …..  كالدوريش  المجذوب  أنا  لعوالم  أراها  ولا  أراها  ,,  وحقائق أعلمها  وأجهلها  ,,  وطوائف من الكائنات  تسحرني  فأتبعها  ولا  ألحقها   ,,  لكنني  وأنا  أسعى  إليك يا ( مليكتي )  تماثلت  في  نفسي  ألوان  الحياة ,,  مطعم  البيع  كطعم  الشراء  وطعم  الربح  كطعم  الخسران  وطعم  البطولة  كطعم  الهزيمة  …

أنا  أسعى  إليك يا ( نورستي ) لم أرثِ  دموعا  ولا إبتسامات ,,  لا مراثي ولا أغنياتي ,,  لا يطن  في  أذني  إلا  نداءك  ولا  أرى  في مجاهيل  الحياة  إلا  السراب , سرابك يا ( مليكتي ),

مع إنبلاج  الفجر , وضحت الأشياء وكنت قد  إبتعدت  كثيرا  , وصارت البيوت  خلفي  تبدو مثل سراب , لكن  الضوء  الراعش  للفجر  كشف  لي عن  وجه رجل في الستين كان  يقف  جوار  كفن  أبيض  , وحين سمع خطواتي إلتفت  إليّ  دون أن  ينطق كلمة …

ألقيت  عليه  السلام  فلم  يرد  عليّ  …

إحترتُ ماذا أقول  له , وتوصلتُ  الى فكرة  حاسمة:

_ هل لديك  ماء  ؟  يمكنني  أن  أعطيك  حفنة  تمر  .

وبدون أن يجيب أشار  الى سلة ..

مضيتُ  الى  السلة وأخرجتُ  منها علبة  مغلقة  فتحت  غطاءها  وشربتُ  جرعة  طويلة  من  الماء  فأرتوت  عروقي  …أغلقت  غطاء  العلبة  وأعدتها  الى  السلة وأردت  أن  أكون  مهذبا , فقلت  بمرح  وأنا أضحك :

_ لدي  تمر  …  يمكنك  أن تأخذ  ما يكفيك ..

ظل  الرجل  صامتا  ولم  يرد  عليّ  ..

زادت  حيرتي ..  هل أغادره  أم  أقف  منتظرا  سماع  صوته ؟ .

نظرت  إليه  ..  كان  قد  أحنى رأسه  وبدت  تقاطيع  وجهه  صلبة  كما  لو   كان  رأسه  منحوتة  صلدة   …  حاولت  أن  أكسر  الصمت  الذي  بيننا  …  قلت :

_ سأذهب  على  كل  حال  .

إلتفت  الرجل  العجوز إليّ , وكان  يتأملني  بنظرة  كسيرة , ثم  قال  بصوت  واطىء  مختنق :

_ هل  تجيد  الدفن  ؟ .

أثار سؤاله  قلقي ….   ليست  هذه  مقبرة  ولست  أنا دفانا . قلت  في  نفسي ..  ( إنه  لا  يبدو ينوي  المزاح  معي  ,  فقلت :

_ يمكنني  أن  أدفن , ولكن أين  الجنازة ؟؟ .

أخذ  يسير  منحني  الظهر  وأشار  لي  أن  أنتبه  …

عبرنا حاجزا  ترابيا  قريباً  الى  ضفاف ( دجلة ) , وحين  هبطنا  الى أسفل أشار  الى  طفلة  متمددة  على  بساط  ممزق …

قلتُ  له  :

–           أهي  ميتة  ؟؟ .

قال  العجوز  :

–           نعم  أصابتها  شظية  في  الليل  بينما  كنا  نملئ  القناني  بالماء ,  هنا  في  العراء إذ  لم  تعد  البيوت  آمنة .

سألته :

–           أين أمها ؟؟ .

قال  بصوت  واطئ  النبرة  ومتحشرج ..

–  أمها  ماتت  منذ  عامين  …  لو  كانت  حية  لما  عرفتُ  كيف  أجيبها  ..  لم  أحم  إبنتها ولم أستطع  أن  ألبي  وصيتها  ..

قلتُ  محاولا  أن  أعيد  له  ثقته  بنفسه  ورجولته  وتبرئته  من  موت  الطفلة  ..

–  أرى  أنك  لم  تكن  سببا  في  موتها  …

قال  بصوت  يشبه  الأنين :

 –  أتعرف ؟  ,,  إنها  حفيدتي  الوحيدة  ..

أخذتُ أنظر  الى  الطفلة  …   كانت  ضفاف  النهر تهمس  لنا  وكأنها  تشاطرنا  الحزن  والألم   ..  بدت  الطفلة  نائمة وكان  شعرها  الأشقر  مبعثرا وذوائبه  ملطخة  بدم  يابس  …  كانت  قد  نزفت  كثيرا  من  جرح   في رأسها  الصغير  ….

إقتربتُ  منها  ورفعتُ  قليلا  شعر  رأسها  الأشقر  فرأيتُ  الجرح  في  أسفل  أذنها , ولمستُ بأصابعي  وجهها  النائم  فآلمتني  برودته  ….  أيقنتُ  أنها  ماتت  منذ  ساعات  طويلة  .  وربما  في  منتصف  الليل  من  تلك  الصواريخ  التي  مزقت  العراء  ونثرت  الشظايا  في  مدينتي  … كان عواء بنات  آوى  قد إختفى , وصعد  القوس  الأعلى  لشمس  شتائية  دافئة  من خط  الأفق  الشرقي  للمدينة  ,  فنثر  ضوءاً  على  المكان  واتضحت  ألوان  ثوب  الطفلة  ولون  الدم  ……

قلت  للعجوز :

–  وهل  ندفنها  هنا  الى  الأبد  ؟  …  إن  كنا  سنفعل  ذلك فأحتاج  الى  علامة  ( شاهدة )   نستدل  منها  على  القبر ….

قال  العجوز :

–           لا تهتم  , أنا  أعرف  المكان  جيدا  فأنا  أعمل  فلاحاً   على  ضفة  النهر …

ناولني  فأسا  صغيرا  فحفرت  القبر  ,  وأودعنا  الطفلة  في  الحفرة  وغطيتها  بالتراب  ….  كنتُ  أرمي  التراب  عليها  وأنا أرتعش  كما  لو  كنت  أدفن  طفلة  من  صلبي  …  صعدت  حرقة  قاتلة  الى  حنجرتي   ….  قال  العجوز  وهو  يدمدم  :

–  …  لقد  صرت  وحيدا  …

لم  أجبه   …….   كانت   الشمس  قد  صعدت  قليلا  الى  الأعلى  وبزغ  الصباح  …..  تأملت  ضفاف  (  دجلة  )  وشدوها  الرائق   , أحسستُ  أن  الضفاف  تهمس  لي  وتردد  ترانيما  حزينة   ,  كأنها تشاطرنا  الأحزان  نحن  معا  …

تركتُ  كيس  متاعي  ومضيتُ  أخطو  بلا  هدف  ..

صاح  الرجل  العجوز  وهو  يجلس  خائرا :

–  لم  تغسل  يديك  ولم  تأخذ  كيسك  ..

قلت  بصوت  حزين  قاطع  :

–  لا  أحتاج  إليه  …  إن  المرارة  تملء  فمي ..

فكرتُ  وأنا  أسير  ….   ستمر  أياما  طويلة  ….  سيرحل  البرابرة  لا  ريب  دون  أن  يتركوا  من  أثر  سوى  ثقوب  مخالبهم  على  جسد  طفلة  شقراء   ……..

بأي حرف  أستنطق  السكون  والحروف  كلها  خواء  ومحض  إفتراء  وتكلف  والكلمات  هي  السجون …

الحرف  جلاد  المشاعر  ,,  والعبارة  نعش  ,,  والدفاتر  أرماس  وكفن   …

بين  الكلام  واللاكلام  تولد  الأحاسيس  كولادة  البرق  ,,  حمراء  دامية  ,,  مشحونة  بحدة  النزيف  والألم  ,,  كاشتعال  السيف  مسلولا  ويغمد   من  جديد  ….

كالطفل  يعود  مسرى  وما  استيقنت  أمه  ….  أما  زال  في  بطنها  أم  وليد  ؟ ؟ ؟  ……  قال  هو  الحرف  …  إذن  لم  يزل  يئد  الأحاسيس  حتى  أضحت  صحفا  موضوعة  ,,  وبلاغة  مصنوعة  ,,  وعبارات  كثيرة  تتداولونها  فيما  بينكم   تداول  المتاع  ,  تحملونها  ما  شئتم  من  ألوان  الزينة  والبهرج  فتُخدعون  بها  وتظنون  أنكم  قد  أتيتم  بجديد  ,  وما  هو  بجديد ,  إن  هو  إلا  التكرار  مستترا  تحت  غطاء  لا  يلبث  أن  ينكشف  لمن  أوتي  فهما  عميقا  وبصرا  جديدا   ………

سلام  على  ما  كان  وما  سيكون  ,,,  سلام  على  غرباء  الدنيا  من  كل  أرض  وعلى  كل  فج  يكونون   ,,,,   سلام  على  غرباء  الحياة  حيثما  كانوا  في  بلادهم  أم  في  بلاد  الآخرين  …….   سلام  على  تلك  العيون  …  والشعر   الذي  يشرب  من ضفاف  النهر  المسافر  الى  المجهول   ……   سلام  على  الشفاه  الطافحات  بالأحزان  ,,  الشفاه  التي  كأنها  خضبت  بدمانا  ونحن  ميتون  ….

نحن  الحالمون  في  كل  خرائب  (  المدينة  )  التي  له  شكل  وطن  …  ربما  يسري  إلينا  نسيم  معطر  بعطر  ذات  مساء  ,,  ولربما  نسمع  وسوسة    الحلي  مشربة  بحفيف  ثوب  تعابثه  الرياح  ,,  أو  ربما  تلتقط  أسماعنا  صدفة  عبارة  حب  على  أثرها  أغنية  لعاشقة  من  زمن  رومانسي  غبر  ,,,  وقد  يباغتنا  الحب  كما  باغت  (  نورستي )  والنهر  ساكن  الضفاف  ,,  فيفيض  على  قلوبنا  ويغمرها  ونحن  يومئذ  غرقى  واليوم  لا  عاصم  من  أمر  الله  …. لكننا  في  الصباح  الآتي  وقد  بدا  لعيوننا  السراب  ,,  يمر  بخاطرنا  توا  ان  الحياة  كلها  محض  سراب ,,  فالعطر  الذي  نستافه  في  الأصيل  وهم  ,,  ووسوسة  الحلي  وحفيف  الثياب  وهمس  العذارى  محض  وهم  وأضغاث أحلام  ,,  وسنذكر  فقط  , أنه  بالأمس  الذي  مضى  في  مساء  لا  كالمساء  عبرت  ببيوتنا  المهدمة  ,  فاتنة  حمراء ,  ولأنني  غريب  إحتل  الغزاة  مدينتي  أصبحت  بلا  وطن  ….

  قد  أبالغ  في  حبكِ  يا  (  أميرتي )  ولكن  تلك  هي  الحقيقة  لا  ريب  ….  أنت  (  نورستي  وأميرتي  وحبي  الأبدي  الذي  لا  حد  له  ولا  أفق  )   …..

إلتفت   (  نورستي )  على  نفسها  , شاعرة  بالبرد  ,  وتطلعت  الى  السماء  التي  بدأت  تمتلىء  بالغيوم  ,  فغابت  الشمس  قليلا  وتوسعت  الظلال  على  مساحات  النهر  وضفافه ,  وظلت  مصرة  على  أن  تمسح  ذاكرة  شاسعة  السنوات  وتوقظ  , فيها ماضي ( الشهوان )  وتداعيات  حينا  العتيق , فهي  أجمل  إحتفال  طفولي  يعيد  الحياة  الى  الوراء  ويستقدم  روح  الشباب  الأول  في  تجلياته  المتفتحة  على  الحب  والجمال  وسعادة  الوقت  الأخضر ,, كهذه  الأشجار  التي تندمج  فيها  مثل  رحم  أول  وبشارات  أولى  أوصلتها الى  أكثر  من  سبعين  عاما  حتى  هذه  اللحظة  المزدانة  بالسرور  وبهجة  الذكريات  السبعينية  الباحثة  عن  أثر  قديم ,,  تركته  كخربشات  عاشقة  …..

كانت  الأشجار  العملاقة  محمية  من  المطر  الى  حد  ما  بسبب  تعاشق  أغصانها  العليا  وإمتداداتها  الممتزجة  والمتشابكة  مع  بعضها  ,,  لكن  المطر  يتسرب  على  نحو  قليل  ويسيل  من  الأعلى  حتى  يصل  الى  المدونات  الكثيرة ,, متسربا  ببطء  ويتفتت  في  الغالب  بين   الشروخ  والثقوب  وحفريات  الزمن  في  الجذوع  ….

دفعت ( نورستي )  رقبتها  نحوي  وراحت  تنقرني   بلطف  وتهمس  في  أذنييّ :

–  أنا  نورسة  قطنية  أنثر  حبي  عليك  كهذا  المطر  ….

إختر  جذعا  بعيدا  لشجرة  تسبقها  في  الترتيب ثلاثة  أو  أربعة   أشجار  ,,  ونرسم  بمنقاري  قلبي  وقلبك  ,,  ونضغط  على  أول  حرف  من  إسمي   وإسمك  في  المنتصف  … هههههه  ,  إفتح  عينيك  أيها  الشقي  ….

أفتح  عيناي  وأعيدُ  الإنصات  الى  رفيف  جناحيها  اللذان  ذهبا  قريبا  أو  بعيدا  من  إسمي تاركا  فسحة  مناسبة  لحرف  إسمها  الأول ….

كانت  لعبة  صغيرة  تتكرر  بين  الأشجار  ,,,  لكنها  ممتعة  ورائعة  أن  تبحث  عن  قلب  وحرف  وكلمة  ومفردة  ذكية  تجعل  يومنا  سعيدا  ولحظاتنا  مغمورة  بالجمال  وأشجارها  الكثيرة  تحتفظ  بأسمها   ورائحتها    في  حرفها  ذي  النقطة  الوحيدة  (  ن  )  …  وعشاق  يتناوبون  على  مر  الأجيال  لعقود  بحلوها  ومرها  ……

_  أنت  أميرة  الحب  ,,  تدربي  على  التسامق  وحّلقي  فوق  قباب  ومآذن  مدينتي  …..   غمزة  من  جفنك  الأيمن إذ  يلتمع  على  ندى  بسمتك  الأنيقة  ,,  كفيل  بأن  يعيد  صقل  كل  ما  يجعد  من  الزمن  ……  في  مكان  ما  يا  (  أميرتي  ) ,,  أخبىء  خارطة  لوطني ,,  حتى  لا يُقال  أني  بلا  وطن  ,,, حتى  إذا  الشرطي  في  تلك  البلاد  التي  ننزح  ونفر  إليها  مرغمين  ,,  ألقى  على  وجهي  الشتائم  ,  وعيرني بأني بلا  وطن  …..   تبسمتُ  ضاحكا  من  جهله  ,,  ومددت  يدي  الى  مخبأي  الصغير  ,,  فأذا  الشرطي  يُصعق  من  هول  ما  يرى  ….إذ يرى  كيف  أخرجتُ  من مخبئي  الصغير  ,,,  وطنا  جميلا  بحجم  هذا  العالم  الكبير  …..  ولأنني  أبوح  في  حبك  يا  ( مليكتي )  ..  فأذني  لي  بأن  أطويك  طي  الشراع  ,,  كخارطة  وطني  الكبير  ..  ثم  بسم  الله أدخلك  مدخلا  طيبا  في  قدس  أقداسي  حيث  لا  تجوعين  ولا  تظمئين  ,,  ولن  يعرف  جسدك  الصغير  فقر  الثياب  ولا  القيظ  ولا الزمهرير  …….

أنا  أمين  سر  الدفاتر , وصاحب  الدواة  الأمين  ,  وحديث  الحب  …من  أين  أبدأ  ؟؟  هل  أبدأ  من  ضفة  النهر ؟ , من  حيث  إلتقينا  ….  ذاك  لعمري حديث  يطول ,,  فكلانا  كان  في  الحب  فقيها مُعمما  ,,  وكلانا  في  الحب  مدرسة  و مذهب  وإمام  لكل  العاشقين .. أو  تظني  قد  بدأت  ,,  فخذي  بيدي  إذن  ,,  كي  نمشي  معا  على  الصراط  المستقيم  ,,  ونتوكل  على  الله  يا ( حبيبتي )  ,,  كذلك  دأب  العاشقين  …..

ورثنا  مجد  عنترة  بن  شداد  ,,  إذ  أحب  عبلة  بنت  مالك  ,,  فكان  حرا  وهو  يرسف  في  الأغلال  حينا  من  الدهر  …

ورثنا  جميلا  وقيسا  وكُثيرا  ووردا  ,,  فكيف  إذن  تداهمنا  السنون  العجاف  وفي  أهرائنا  هذا  الحب  والمدد ……

أنتِ  رافدي  حين  تشيخ  الطفولة  في  ملامح  الأفق  ,,  وحيث  يعتزل ( دجلة )  المسير  وتأبى  السماء  نزولا  بكلمات  المطر  …وأنتِ  شاهدي  حيث  يؤرقني  سهاد  الحب  في  صميم  الليل  ,, وحين  القلب  يئن  موجوعا  من  ألم  مجهول  …

وقيل  حسبنا  الله  لو  يعلم  الناس  كيف  حال  الحالمين   ….

بيد  أنهم  وهم يعبرون  ,,  يفاجئون  بأن  ما  يفعله  الأبناء  هو  نفسه  ما  يفعله  الآباء  ,,  وعندئذ  ينظر  بعضهم  بعضا  ,,,  ويدركون  أنهم  حقاً  غرباء  ..  لكنهم  يحبون  على  كل  حال  ,,  فلقد  يعيش  الأنسان  كما  الأشجار  بالشمس  والماء  ,,  يضحكون  كثيرا  ,,  ويبكون  كثيرا,,  يفرحون  ويحزنون ,,  وقد  يغامر  أحدهم  فيحب  …  أجل يحب  ويعشق  كما  عشقتك  يا  (  نورستي وأميرتي  وعمري )  …

ليس  أصدق  من  غريب  يحب  …..

سجى  الليل  .. ….

وفي  أزقة  الليل  يجول  الحالمون  مثلي  ….  الساهرون  المتعبون    ,,  الذين  ضربوا  موعدا  لحبيبة  لا يعرفونها  وهي  تجهل  من يكونون  ….

يشافهون  الأنوار  في  معاقل  النجوم  ,,  والظلال  إذ  تبدو  لوحشتهم  يخالونها  من  وجدهم  طيف  إنسان  ,,,

الشموس  السابحات  في  المجرات  البعيدة ,,  قاب  قوسين  أو  أدنى  من  قلوبهم  فهم  لها  ناظرون  ,,  وهذا  آوان  القربى  …..

الليل  يسجو  وتهدأ  الأرواح   ….

الصبح  يدنو  ,,  إني  أسمع  لتنفسه  كم  أسمعكِ  الآن  وأنتِ  قبالتي  مثل  لؤلؤة  زاهية  البياض والجمال  والنقاء   …..

الصبح  يدنو  ,,  ولسوف  يغمر  النهر  والمدينة  بفيضه  الآلهي  المهيب   ,,,  ولسوف  يمشي  متنفساً  على  تلك  المساجد  والبيوتات  المهدمة  والمئآذن  والكنائس  والقباب  التي  تناثرت  أحجارها  على  ضفاف ( دجلة ) وغطس  البعض  منها  في  النهر ,,  وهاتيك  البطاح  …….

في  الأحلام  ,,   وما  الرؤى ,,  إن  كنتم  للرؤى  تعبرون   …..

كذلك  كان  في  البدء  (  آدم  ) ……

وأنتم  ( لآدم )  وارثون  …  وأنا  الذي  على  فمه  تشتعل  الكلمات  ..  …….

–           ليتني  زر  في  قميصك  لأعب  صدري  من  أنفاسك  .. ..  كم  من  نجمة  عرس سقطت  من  قرط  حلمي  ,,  أو  رفة  نورس  لتمنح  عينيك  والنهر  كل  هذا  الجمال  … سينجو  قلبك  من  هذا  الحزن  …  لا تخف  …  ستلمع  ذراع  الوصل  من  جديد   …….

–           إني  أطلب الشتاء  في  عينيك  يا  (  نورستي )  ,,  أطلبه  جليدا  يغطي  البرية  والجبال  ,,  وأطلبه  مطرا  يتحدر  به  السحاب  ,,  فيهمي  علينا  نحن  والأرض  تشتهي  غفوة  الخريف  …..

–             يا  لعينيكِ  يا (  نورستي )  ,,  إني  أطوف  فيهما  منذ  ملايين  السنين  …  إني  أبحث  عنهما  قبل  ولادتي  ,  وبعد  ولادتي  ,,  والخطى  تدفع  الخطى  ولا  زلت  في  بداية  السنين  …أرى  في  عينيكِ  جنات  عدن  وبساتين  السماء  ,,  والفردوس  والكوثر  العذب  ,,  وأنهار  اللبن  والعسل  والخمر  ,,  والسندس  الأخضر  والياقوت  والمرجان  والأستبرق  والكأس  التي  مذابها  الكافور والزنجبيل  والنور  الذي  يسعى  ,,  والرضى  ..  …  المسافة  بيني وبين  الفرح  ,,  هي  همسات  حروف  إسمكِ  الأربع (  ؟ ؟ ؟ ؟ )  ….

نافذة  الى  همهمات  الغزل

وتبقين  أنتِ  العطر  ,  الذي

سألتُ  عنه  ألف  بائع  , ولم  أجد  ما  يشبهكِ   ,,  معكِ

يتساقط  التفاح  الى  الأعلى  ,,,

الآن أنتخبُ  عينيكِ  لأرى  بهما  مدينتي

وفضاءات  دجلة  والوطن..

أحنُ  الى  الفجر  ليبعثني  من  نومي  فأصحو  ….  فتلك (  لبنى و عفراء  وبثينة  وليلى ) قبالتي  ,,,  وذات  الخال  والخلخال  ,,  والشعر  منظوما  يمر  بخاطري  فأصبو   …..

أحنُ  الى دياري المسافرات  ,  والصبابات  البكر  في  الأعصر  الخوالي  …..  أحنُ  الى  ربعي  ….  بيد  أن الربع  خال  …..

الكون  صار  ينبوعا  يتفجر  عذبا  وزلالا  وسائغا  لذة  للشاربين  ,,,  والحوريات  العاشقات  الناعمات  ,,,  المترفات  في  كل  واد  ينتظرن  القادمين  ويغتسلن  في  الينابيع  الفتية  …  ما  حيلة  الهيمان  ,,  لو  تاهت  عليه  الدروب ,,  أشروق  قلبكِ  في  الصباح

الجديد  ؟؟  , أم  هو  الغروب  ؟؟؟  ….

كالهباء  أن أموت  منطفئا  على  هامش  الكواكب …. أتضخمُ  بالشوق  إليكِ , أيا   ( نورستي )  حتى  ما  تكاد  تحملني  قدماي  ,,  وجمالكِ  المشهدي  يفتك  بي  فتكا  لذيذا  لا هوادة  فيه  ..

أعصبُ  باصرتي ,,  وأشدُ  على  قلبي  فلا أرى أني  أتزحلق  على  مرآة  بحجم  الكون  ,,  أرنو  إليها  فلا  أراني  إلا  مترنحا  على  وشك  السقوط  ,,  أو  ساقطا  يتعثر  في  القيام  مثل  طفل  يحبو وحده  لأول  مرة  ,,  لكنني  أمشي  وأرقص  نحو  الأمام ,,  لا مشفقا  على  نفسي  ولا  ناقما  عليها  ….

إنني  أتزحلق  بمنتهى  الحياد ,,  وهذا  العشق  اللازوردي  من  حولي أتنفسه  بعمق  ,,  وأعبُ  بشبق  خرافي  روائع  النهر  والعليق والنعنع البري   والعوسج  والبيبون  والخزامى والصفصاف   والكالبتوس  والسرو من  حولي  ,,,  لكن  ظمأي  إليكِ  لا  يرتوي  ولو  أهرقتُ  في  جوفي  أمواه  وفلوات ( دجلة )  ….

أنا  سفر  المتاهة  في  أنسجتكِ  والظمأ  ,,  وسراب  (  المدينة )  على  حافة  الكون  ,,,  فمن  يقرأني  فليتحوط  بلجة  من  ماء  (  دجلة )  ….

أنا  البدوي  المسافر  في بيداء  قصائدكِ  ,,  جاء  يتسكع في  محطة  القطار  ,,   لم  يعر  بالا  بالذاهبين  والذاهبات  ,,,  والراكبين والراكبات  ,,  تسلقتُ  ممسكا  جلبابي  بأسناني ,, ثم  غبتُ  في  زحمة  المتاع  والخلق  ,,  وأطلقت  صافرة  القطار  إيذانا  ببدأة  السفر   …..    تحرك  القطار  ودارت  عجلاته  وتعالى  إرتطام  الكتل  الحديدية  ببعضها  …  إنفض  الناس  وعمّ  السكون  المكان  ,,    لكني  بقيتُ  وحدي  على  الرصيف  لا أقوى  على  فراق  أنفاسكِ  …  كانت  كفي  تطبق  على    جناحيكِ في  إطباقة  حانية  ,,,  إطباقة  أضع  فيها  كل  ما  لديّ  من  قدرة  على  الدفء  والأتصال  ….

قالت ( نورستي ) :

–           إذا إستطعت  أن  نتطوف  معا حول  المجرات  على  بساط  من  الريح  فافعل ,,  فالعاشقون  هم  ورثة  العلم ,   والعلم  مفتاح  المعجزات  …  لا تستسلم  لمغريات  الراحة , فإنه  متى  ما  أتاك  طائعا  وأسلس  لك  القيادة  ,,  إنفتحت  في  وجهك  سبل  الحياة  ,,  وإنهتكت  أمامك  بعض  أسرار  اللانهاية  ,,  حينئذ  نعرج  معاً  نحو  الأفق  , فتبتسم  لنا  الأسراب  والنهر والسماء   والمدينة …..

ما  أجمل  الذي  حدث  بيننا ….. وما  أجمل  الذي  لم  يحدث  ….

يقال  إن  أجمل  الروايات , هي  تلك  التي  لا  يعرف الروائي  نهايتها  مسبقاً  ….  كيف  لي  أن  أعرف  نهاية  روايتي  و( نورستي )   تشاركيني  كتابتها  في  كل  فصل  ؟؟  …

أتراني  كتبتُ  رواية  حين  كنتُ أجذف بزورقي  الصفيح  في  نهر ( دجلة ) ؟؟.. أأعود  الى  الماضي  أثناء  ظني  أنني  بلغتُ  شاطىء  النسيان ؟ , لكن  الرماح  السمهرية  ظمأى  للدم  الملوث  بالحب  ……   لله  ما أغلى دم  العاشق  وهو  يناجي  ( نورسته )  ساعة  توقف  النهر  عن  الأنسياب  وليس  في  الغابات  طير  يغني  ولا  يسمع  للنهر خرير  ….  لقد  توقف  الكون  عن  النمو  ,  وضاعت  أنفاسه  عبر الأثير  ,,  تلك  الأنفاس  المضمخة  بعبير  الضفاف  والأودية  البعيدة والتي  كنتُ  أبثها  (  لنورستي )  عبر  تلك  القصبة  السماوية  ,,  وذاك  الناي  المغرد عبر  أنين  القصب  ,  الناي  الذي  لخص  في  أناته أشواق  الحب  وحزن   المشيب  …..

الأنسان لا يولد  مرة  واحدة  ,,,  بل  ثلاث  مرات ..

مرة  عندما  يولد  من  رحم  أمه  ويبعث  من  الغيب  الى  الحياة  ,,,  ومرة  عندما  يخرج  من  ظلمات  الجهل  الى  نور المعرفة  ,,,  وثالثة  عندما  يموت ..

لكن  قلبي  يتهشم  ثم  يحترق  …

أتوجع  كالحبلى  والمخاض  عسير  , والليل  ما  ينفك  يلتهم  البرايا  والساهرون  الخائفون من  المجهول  الآتي  إليهم   …

آهة  لهباء  تخرج  من  رئتيّ  ,,  لكأنني  أتنفس  من  قاع  بركان  ….  لم  أعد  أحتمل  البوح  أكثر  ,,  فعندما  يبوح  العاشق  الكتوم ,,  يزداد  في  قلبه  الوجيب  ,,  ولم  يزل   معرضاً  لسكتة  البوح  حتى  يكف  عن  الكلام  أو  يصبح  في  الغابرين  …. أنظر  وأختال  أن  هناك  جنياً  ضخماً  يطير  بنا  فوق  البيوتات  المهدمة  وحجاراتها  المتناثرة  ,,  فيجمع  حجاراتها  وأبوابها  ونوافذها  وحاجياتها  المبعثرة ,  ثم  ينقلب  مسرعا  وينخرط  في  رصفها حجرا  على  حجر  حتى  يستوي لديه (حي الشهوان ) العتيد  ويتأمل  نوافذه  وأبوابه  المتهرئة  ونوافذه  المهشمة  لكأنها  السدود  في  مضايق  الأنهار  …. أنظر  إليه  كيف  كان  يبدو  لعينيكِ  من  بعيد , وهو  يعتم  أطراف  السحاب ,  وهالات  من  الضباب  تلفه  بأضوائها , كأنه  مبني  على  تلال  الشفق …

كنا  نرنو  إليه  معاً  من  مكان بعيد  ,,  فنراه  مزهواً  بقامته  على  النهر  الواسع  المديد وقبالته  غابات  السرو  والصنوبر  والأحراش  والقصب  والعليق  والعوسج  ….

كنا  نجيل  بباصرتنا  الى  حراسه  وخدمه  وحشمه  وهم  يروحون  ويغدون , ممتلئين  بغبطة  خراب المدينة  المهدمة  ,, ربما  كان  بعضهم  يحمل  أطباق  الطعام  والحلوى التي  مسح الغزو( الداعشي )  طعمها  ومذاقها وشكلها   عن  الناس  ……  ..فجأة هطل  طيف  أمي  على هامتي  ,,,,  جائتني  نغمات  صوتها  الطيب  الحنون  ( منذ آلاف  السنين  يا بني كان  يمر  من  هنا  دجلة  ,,  كنت  صغيراً  حين  كنتُ  أحتطب  من  أشجاره  اليابسة ,,  كان  النهر  يحبك , لكنك  لم  تكن  تعرف  العوم  ,,  كنت  شغوفاً  بالجلوس  على  الضفاف , وكان (  حي  الشهوان )  منا  على  مرمى  حجر ,,,  إيه  يا  ولدي  ,,  لقد  مات  ذلك  النهر و الحي  والمدينة  ,,,  وكذلك  تفنى  الحياة )  …….. ..

خرجت  من  روحي تنهيدة طويلة مثل  حبل  من  ألم , سحبت معها طمأنينتي المغشوشة بلوعة  حينما تخيلتُ نفسي  في  حجرتنا  الضيقة أكثر  مما  يجب , مثلما وجدتُ جوها خانقا لم أستطع أن أتنفس فيه  فخرجتُ بعد أن مسحتُ دموعي وجففتُ  عينيّ  …. مطر  خفيف متقطع  يغسل  الشوارع  والأرصفة والسطوح  والأشجار  العالية  فيزيدها إخضرارا  …  إنفجار  يخترق  المطر  ويبدد  سطوته  الناعمة  وينشر  صوتا  ضخما  ظل  يتردد  صداه  بشكل  موجات  متعاقبة  …

بعد  لحظات  بان  أكثر  من  عمود  دخان  من  الجانب  الأيمن  للمدينة  ,,  وعلى  الرغم  من  الأرتجاجات  المفاجئة  نتيجة  للعصف  غير  البعيد , إلا  أن  واصل  الناس  سيرهم  ولو  على  نحو أبطأ  ….  كان  البعض  منهم  يلتفت  ليرى  جهة إنتشار  الدخان  الطالع  ….

همستُ (  لنورستي ) :

–           لا تخافي  …..  مرت  بسلام  .

كنت  أستطنع  ضحكة  قصيرة  وأنا  ألملم  جناحيها  في  حضني  وأمسح  على  ريشها  وأمرر  أصابعي  على  رأسها  المتكور ..

رفعت  رأسها  وشعرتُ  بخجل  طفيف  يجتاحها  …..

بقيتُ  وقتا  أمسد  لها  ريشها  وأطمئنها  بأن  كل  شيء  عاد  الى  طبيعته  ,,  لكنها  ظلت  وجلة  خائفة  …..

–           أنا  ( نورسة ) أستند  على  حبي  ولا  أقع  ,,  إبقَ  حيثُ  أنتَ  ,,  فالعشق  بوح

لا   تراتيل تفر الى الفضاء  …….

–           تبقين أنتِ  العطر  الذي  سألتُ  عنه  ألف  بائع  ولم  أجد  ما  يشبهكِ  …..

في  البدء  كان  الحب  …  وكانت  الأرض  عذراء , في  البدء  كان  أبونا  آدم  وأمنا  حواء وقيوم  السموات  والأرض ,  بداية  البدايات , ومنتهى  النهايات  … في  البدء  كانت  الخطيئة  و أول  الذنوب  والآثام  ….

تكبر  إبليس  ثم  كفر  ..

في  البدء  كان السفر  وكان الأغتراب  ورحلة  الأحباط  من الجنة  الخضراء , ونحن أغراب  وعصاة  ….  درجنا  في  الأرض  مخربين  ومعمّرين ,,  مفسدين  ومصلحين  ,,  كافرين  ومؤمنين  ,,  أقوياء  ومستضعفين  ,,,  ملوكا  وصعاليك  ,,  أغنياء  وفقراء  ,,  علماء  وجاهلين  ,,  عاشقين  وكارهين  ,,  عقلاء  ومجانين  … للتأريخ  عين  لا  تنام  ,,  وقافلة  الزمن  تسير  ….

بين  البدء  والمنتهى  أحلام  وأشواق   ,,, و(  نورستي  )  تترقبُ بلهفة    الحدث  الضال …

يكاد  الحلم  يندثر  والشوق  يغيب  ,,,  وما  تبقى  من  شبح  المدينة  يسير  في  موكب  الأشباح  الى  النداء  الأبعد   …..

عتمة نسبية  تُظلل  من  يتحرك  داخل  المشهد  ….

من  فم  حي  (  الشهوان  )  تقتنص  باصرتي  حركة  دائبة  لرؤوس    وأجساد  تمشي ,,  ثم  يتغير  المشهد  ….  ملثمون  مُتهيئون  ببنادق  مصوبة  من  منتصف  النهر  ,,  وثمة  صراخ  تتناوبه  النسوة   ….  أرجل  تتخاطف  ,,  وأصوات  تتلاطم  ودخان  يتصاعد  من  الطرف  البعيد  للحي  ..  أصوات  الرصاص  تتضح  أكثر ورجل   يحمل  طفلين و يركض  كالمجنون  بهما  بين  حريق  شب  وسط  الحي والرصاص  يخترق  البيوت  قبالة  النهر  …

كانت  أصوات  الأنفجارات  تدك

  الحي  وتفتح في  بيوته دمارا  شاخصا   …..  أيقنت  أن  عملية  تطهير  المدينة  من  (  الدواعش )  قد  بدأت  وأن القطعات   العسكرية  قد  شرعت  بتنفيذ  خطتها  المرسومة  لتحرير  المدينة   …..

توّزع  الرجال  الملثمون  على  أقسام  منتخبة  من  الحي …. سواد  يطغى  , وحركة  محجوزة  في  مكان  ضيق  لا تبين  معالمه  …   حرائق  صغيرة  تكبر  ….  يتغير  إتجاه  الصورة  الى  النهر   ….   الناجون  القلة  يتفرقون  في  النهر  والرصاص  يطاردهم   …  الكثير  منهم  غطسوا  ولم  تخرج  رؤوسهم  ,,  في  حين  يمكن رؤية  رؤوس  طافية  أخرى  وهي  تتخذ  من  مجرى  النهر  سبيلا  للهرب  والنجاة   …..

تساقط  المطر  بغزارة  مرة  أخرى  ,,,  إلتفت ( نورستي )  على  نفسها  شاعرة  بالبرد  ,, وتطلعت  الى  السماء  التي بدأت  تمتلىء  بالغيوم , فغابت  الشمس  قليلا  وتوسعت  الظلال  على  مساحات  الغابات  المتراصة على  الضفة  اليسرى  للنهر  …  كان  الرمي  يشتد  بين   الحين  والآخر  والقصف  جله  ينصب  على  البيوتات  المشرفة  على  الضفة  اليمنى  لنهر  (  دجلة )  …

–           أتحركُ  معك  ,,  أنتَ  بوصلتي  الوحيدة  التي  تشير  إليّ  وتكتشفني  ,,,  أبحث  عنك  ساعات  طويلة  ,,  جسدي  يبحث  عنك  ,,  لا بل  روحي  تبحث  عنك  ,,  شيء  ما  بي  يختلج  ويتفتح  …  أنت  تكتشفني  ,,  أنا  ( نورستك )  وحبيبتك  الى  الزمن  …..  الزمن الذي هو أنا  وأنت  وهذه  الغابة  العملاقة  التي  ما  تزال  روائحنا  فيها  مثمرة  ,,  كأنها  زمن  آخر   نعرفه  نحن  معا ..  كل  عمري  وأنا  أسعى  بين  حروفك  ,,  لا  لأصبح  نبية  ولا  أنتظرك  لتصبح  نبيا  ,,  فأنت  صانع  الجمال  ومؤرخ جمال  هذا  الحب  السرمدي  …  أحبك  مهما  طال   الزمن  وبعدت  بيننا  المسافات  ….

إنطفأت  شمس الغروب ,, ولم  تبقَ  إلا ذوائب  برتقالية  , أخذت العتمة تطغى  عليها  رويدا  رويدا  ..  كانت   الظلمة  تتسارع  لتغطي  المدينة  والنهر والأشجار  المتسامقة  ,,  ثم  محيت  ألوان  الأشجار  وغابت  في  اللون  الداكن   الذي  رش الفضاء  والمكان ,,  أيقنت  بعدها  أن  وسادتي  فقدت  أحلامها ….

منذ  وقت  بعيد , عندما  كنت  طفلا  بين  الخامسة  والسادسة والوحيد  المدلل جاءت  ولادتي بعد خمس أخوات ..  إكتشفت  وحدي  أن ( دجلة ) قريب من حي ( الشهوان )  ومدينتي  قريبة من النهر  الذي كنت أتوجه إليه غفلة مرات عديدة  في  الليل أو في النهار على حد  سواء  ..

وحدي , كنت  مدفوعا  برغبات  شيطانية عنيفة هيمنت  عليّ  منذ الصغر , منذ يوم ولادتي , وتجمعت  كلها  في  تلك  اللذة  العارمة  التي  أشعر  بها كلما  توجهت  الى  الضفاف  …  لا أدري  لماذا   تدافعت  الى  ذهني  هذا  اليوم  عندما  وجدت  نفسي , بعد  هذه  السنين  الطويلة , أقف  عند  حافة  النهر  ووجهي بأتجاه الماء  المنحدر بسرعة  فائقة  نحو  الجنوب , وخلفي  مباشرة  تتراصف  بيوتات  متشابهة متلاصقة مع  بعضها ليتشكل  منها  جدران  من  الجص  والحجارة  المتآكلة الآيلة  للسقوط ,,  تمتد  بأمتداد  الحافة  المحاذية  للنهر, وهي دائما الجانب  الأيمن  للمدينة …وجهي بأتجاه  الماء  دائما , وذاكرتي متأججة  قلقة  هائمة  تعوم  على  السطح  في  أغلب  الأحيان    ……   ذاكرة  طفل  .

تارة يطفئها  الخوف  وتلفها  عتمة  سرمدية  قاسية حتى لا أكاد أبصر شيئا , و لا أكاد أحس بشيء  على  الأطلاق  ,,,  وتارة  يوقدها  إحساس  فائق  باللذة  العارمة تنتابني هناك  على  الشاطىء ,,  فألتم  عليها وأداريها , فأشعر بقشعريرة  تتصاعد  مع  نبض  القلب  حتى  تبلغ  الرأس  والأطراف  ونهايات  الأصابع  ,,,  عندئذ  فقط  يدهمني  الخوف  الحقيقي   …….  حالة  طفل  ..

ومع أنني  لم  أتوقف  عن  الذهاب  الى هناك  يوميا  رغم  تحذيرات  أمي  وأبي وأقاربي  بالنصح  حينا  والتوبيخ  والتهديد  حينا  آخر إلا  أنني  أعترف بأني  لم  أجد  غير  الوهم  والسراب  ….

  وهم  مروع  مبعثه  العثور  على  متكأ  آمن  أستطيع من  خلاله  إستعادة  الثقة  بنفسي  من  هذا  الغول  المفاجىء  الغامض  المجهول  الذي  ينتظرني  ويترقبني  …

الأمر  الوحيد  الذي  كنت  أفتش  عنه  هو  بحثي  الضال  الذي  كان  يزداد  وتزداد معه  فترات  وقوفي  على  الضفاف ,  ووجهي  مع  الماء  وبأتجاهه , ونفسي  مكدودة  متعبة لا تقدر  أن  تقاوم  هذا  التعود  الذي  أخذ  يتجاوز  حدوده  المنطقية  رغم  التأنيب  العنيف  الذي  لقيته  من  أبي  حين ضربني يوما صارخاً  بوجهي (  تريد أن تغرق  !!  أن  تموت  ؟؟؟ ..  يا بن  الكلب )  … وهو يجدني   متلبسا ً بالجرم  المشهود  رغم  كل  التحذير  والنصح  والتنبيه  …

سمعتُ بعضا  من  أهل  الحي  وبالذات  الكبار  منهم  وبعض  النسوة  الثرثارات  عن  وقوفي  المتتالي  قرب  جرف  النهر , أحدث نفسي ويقولون ( أن إبن  سليمان  الوحيد  المدلل الجميل  قد  أصابه مس  من  جنون النهر  , ووجب  عليه  المبيت  كل  ليلة  جمعة  عند سيدنا الأمام ( شيخ  الشط ) و لا ينبغي  أن  يترك  وحده  في  هذه  السن  الخطرة)  ,, لكن حديثهم  لم  يجد  نفعا  بعد  أن  تتدخل الحاج ( قاسم السبّاح وإبنه يحيى) وحسم  الموقف  ناصحا أبي قائلا :

–           إطمئن  يا  حاج  سليمان , لا تقلق , دعني أدربه  وأعلمه  السباحة  …..

في  الليل ,  كل  ليل , وكما  تستسلم  شهرزاد  لأميرها , أستسلم  أنا لذلك  النهر  العاتي  الذي  يخترقني و يقسمني  الى  نصفين ثم  يقتلعني  من  الجذور ,,  و أنا  الذي  أعشق  هذا  الحي  الجميل  من  دون  خلق  الله , ويلقي  بي  بعيدا  عن  هذه  المدينة  التي  أتوق الى  أنفاسها  ودروبها  وبيوتها  وأزقتها ونهرها وأناسها  وأسواقها  ومساجدها  وترابها  والعالم  يسترخي  في  هدأة  نومه  الرائع  … ..

في الفجر كان حينا  يغرق  المدينة  في  ضباب  هلامي  هائل  ,,  لا يلبث  أن  يتفتت  مرعوباً أمام أشعة  الشمس  التي  تحيله  الى  قطرات  ساحرة تبلل كل  شيء ,, لكنها  تترك  على  أوراق  الشجر دموعاً  كالدر  اللامع  يتوهج  تحت  الأشعة  الحنون  …

–           أتدرين أنني لا أملك  ولن  أملك  غير  حبي  لك ؟ ..  هذا  الحب  الموجع  الذي  يسكن  دمي ويتسلل  عبر  كياني  كله  .. هذه  العلاقة  الدموية  التي  جمعتنا  عند  ضفة  النهر وأصبحنا  أقرب  من الوريدين  لبعضهما  وأصبحتِ  منذ ذلك  اليوم  بيتا  لي  وعشا  ودفئا  …لقد  عرفتكِ إلهاً  يستحق  العبادة  كل  يوم ,,  وإن سألني  أحد  عنكِ , سأقول  له أنكِ  إله  ( الحب  والوصل  والفناء  )  …  لقد  أطلقت  عليكِ  هذا  الأسم ,  فأعذريني  …

لقد بدأت أشعر  بالضيق ونزف  الغربة  بعد  خراب  المدينة حتى لقياك , فأصبحتِ  نورا  وقمرا  لباصرتي ….  في  تلك  الليلة , رأيت  النور يدخل  حجرتي , ويزيح  الظلمة التي كادت تخنقني …..  رأيت  النور  لأول  مرة بعد هذه  السنين   العجاف  …..  ألستِ  أنت  التي  فعلت  ذلك ؟؟  ,  فكيف  تريدين  أن أنساكِ  ؟؟ !!  كيف ؟؟ .. لا

هذا مستحيل  …..

الآن  مضى  النصف  الأول  من  الليل , وطارت  من  عينيّ  الغفوة , وها أني أشتمل  الصحو  الحاد  الي  يلفني  ويأويني  …  ها  أنا  أجلس قبالتكِ  في هذا الليل  بالذات

فأنتِ  أقرب  إليّ  من  حبل  الوريد  …… لأحدثكِ ,

أنتِ  ( أميرة ) …  لاتعد  ولا تحصى  ,,  أموت  شوقاً  إليكِ  يا ( نورستي ) , وأهذي  بأسمكِ  محموماً  على أزقة ودروب  مدينتي  …

أنتِ أميرة ( دجلة )  التي  تنام  تحت  لججه  روحي  …

أنتِ  أميرة  الأناشيد  التي  ما  فتئت  تدق  أجراسي  …

هذا أنا  أدبُ  إليكِ  خاشعاً  كالأساقفة  والدراويش  والأحبار  والرهبان  ومشايخ  الجذبة ,,  متعثراً  في  صبابتي ,, تنظمني  وتنثرني ألحان  وترانيم  صبابتي  …

أواه   …..  يا  سيمفونية  الناي   الحزين  والنداء  العطش  …

أي  بيداء  موحشة  بيدائي  ….

أي  صحراء  تسكنها  الأبل  و الأشباح  صحرائي  …

يا  لليالي  الشتاء  والبرد  الطويل  ….

يا  لموقد  النار  والخيال  المديد   ….

  يا  لهزيم  البرق  والرعد  البعيد   …….

يا  لرعشة  وإرتجاف  العتمة  القتيلة  ,  وأسواط  البرق  الخاطفة  …….

يا  لرعشة  الذبيح  في  المحراب  ,,  ودمعة  الأم الحنون  ….

يا  لشهقة  الملاحف  الباردة وضجعة  الآهات    …..

يا ( أميرة )  العشق  والشوق  والبكاء  …..

أنا  إبن  السبيل ,,,,  وإبن  ( آشور ) و (دجلة ) و ( الشهوان ) و ( الحدباء )  ….

أسعى  إليكِ  فزعاً  وهائماً  مع  الرياح  التي  يتنفسها  السديم   …..

آتيكِ  مجبولا  من  سكينة  الكتابة  ,,  وكتابة  السكينة ,,  وحشرجة  حرفي الشهيد  تحت  سنابك  الليل  ,,  وصهيل  الدماء  التي  أضرمها الشوق   ……

هذا  النزف يا ( نورستي ) سيقتلني ,,  وسأموت  على  جناحيكِ  اللذان  ملئا  الضفاف والأشجار وأحراش  القصب  والعليق  عيوناً  وضفائر  وعانقا  السماء  بنحر  الصلاة ,, ولسوف  يخرج ومن  أضلعي  وهامتي طائراً  غرداً  يرف  بجناحيه  الأبيضين  الصغيرين  الى  فضاءات  لا  حصر  لها ولا  آفاق  …….

أيسكته أزيز  الرصاص  ودوي   الأنفجارات  الذي  يمشط  ضفائر  الأطفال   …..  ؟؟

أيخمد  ثورته  قهر  (  الدواعش  ) ,,  أم يُحبس  في  قفص  المأساة  الخالدة  ؟؟؟   …. أيُنحر  في  ساحة  المدينة  ؟؟  … أم  يُلقى  في  (  الخسفة  )  و تنهش  في  الليل  لحمه  الكلاب  والضباع  والأفاعي  والذئاب  وبنات  آوى  …….

……………………………………………………………

(  الخسفة  )  ..  حفرة  عميقة  جداً  ,  تقع  جنوب مدينة  الموصل

كان الدواعش  يقتلون  الناس  ويرمون  الضحايا  فيها  ..

 لليل يا ( أميرة )  الجياد  والصهيل  ,, ليس  في  الكائنات له  شبيه  او  مثيل ,,  لكنني  أنا  ( الموصلي )  اليتيم ,,,  خرجتُ  إليه  تحت  وابل  الرصاص  والقذائف  والبرد  والمطر , فحبستُ أنفاسي , وتلوتُ  أورادي , وتقدمت  إليه  بخطى  واثقة  ..

قاتلته يا ( مليكتي ) بغَرفة  من  دمائي  التي  أخُطّكِ  بها  الآن ,,  فأستسلم  من  خشية  الدماء  المتكملة ,,  فقبضتُ  عليه  وحبسته  في  قارورة  المداد   ………

مظلمة  هي  النفس  ,,  ومظلم  هذا  الحديث   ….

فأي  (  العاشقات )  أنتِ  يا  (  أميرة ) ,,  حتى  آتيكِ  بهذا  النشيد  ,,,  فأنه  ليس    كمثل  الأناشيد  التي  قرأتِ  ,,  ولا كالأحاديث  التي  سمعتِ   …..

قصة  عشقي  لكِ  ,,  هي  قلب  سحرته  قرمزية  الشفق  ,,  وألوان  المغيب  التي  تدعو للسفر  ,,  فمضى  حالماً  ومبهوراً  يطلب  آفاق  الأرجوان   ….

ذلكم  قلبي  أنا  يا  ( مليكة )  القلوب   الحالمة ,, قلبي  الذي أضر  به  عقم  السنين  ويباس  النهر  والأرض , فترجل عن  أفراسه  مكسوراً  من  قفر  الحياة  ويتعقب  السراب  داراً  إثر  دار ,  عفرته  البوادي  ودفنته  الرمال  ,,  مشى  على  كل  الدروب  القاحلة , ونام  على  كل  الأرصفة , داسته  أقدام  العابرين  ,  ونهشته ذئاب الجبال  …..  حملته  نتف  الغمام  ,,  وضمته  أسراب  الحمائم  والنوارس , وتوجع  في  دهاليز  المراكب  المسافرة  وأذناب الأبل    …..

أنتِ  (  نورسة )  وليست  ككل  النوارس   ………   أدعوكِ  لصحبتي  آخر  الليل , وفي آخر  الهذيان  ,  وآخر  الحلم  ……

عناقنا  في  الليل  تباركه  النجوم    والمجرات …

عطر الأنثى الأصيلة يطرد  الأشباح  …..

والوسائد  العطشى  على  السرير  تتفتح  كالورود  لضم (  نورسة )  ترف ,,, ورئة  السحب  مطراً  وثلجاً  تصوغ  به  حكاية  الدفء  الوليد  ,,,  وحفيف  الرياح  في  أقصى  الغابات  يدعو  لعناق  ( نورسة )  مجهولة  ترف  نحوي   ……

من آخر  الليل  الى  أول  الصباح  ,,  ومن  أول  الصباح  الى  آخر  الليل   …..

سمعتُ  صوتكِ  الهامس  وهو  يأتيني  كصدى  حلم  قديم  ,,  أو  أنشودة  بعيدة  من  ضفة  النهر  الأخرى  حيث  النوارس  والطعام  والشراب  ,,  وأنا  الغريب  الملقى  على وجهه  في  كهف  الظلام  ,,  يليق  بلهفتي   التصور  والحلم  ,  وخليق  بمثلي  الوهم   والجنون   ….

في  صهيل  الليل  المتوجع  المحموم  ,,  وتحت  حوافر  المطر  والبرد  الشديد  ,,  أرقد  مرمياً  كجثة  قرصان  ممجوج  في  مغارة  الأشباح  والأرواح  التي  لا تنام  مطمئنة  …لكن  هلوسة  مداركي  تقول  لي  ,,  أن  لكِ  صوتاً  مشبّعاً  بالأنوثة  حتى  النزيف  والألم ,,  وحتى  البكاء  والنشيج   ….

لم  يكن  عطراً  فرنسياً ذلك  الذي  يضوع  منكِ  كلما  أتى  المساء  ,,  ولم  يكن  بخوراً  شرقياً  تسكنه  الطلاسم  والأساطير  ….

لكنه  كان  النداء  يا  سيدة  النداء  …

هذا  النداء  القديم  الجديد   ….  صلوات  أمٍ  تفّرقَ  بنوها  في  شعاب  الحياة  …دعوات  شيخ  جذبة  بتول  في  صومعة  مهجورة  ….

عينا  صبية  أشرقتا  بدمع  هتون ,,

أنين  ناي  يئن  في  موهن  الليل ,,,

قصيدة  تتلوها  الرياح  فتسمعها  آهاتها  البساتين  والغابات    ………

صوتكِ  القديم  يا  (  نورستي )  ..  كان  أول  ما  دعاني  ,,  وكنت  أول  من  لبى  الدعاء , فطفقتُ  أعدو  في  الخلاء  السرمدي  المهيب  …  في  الفراغ  الذي يتمدد  فيه  الرعب  والهول   وليس  له  نهاية  …..

أفزع   فزع  الظليم  المذعور    وليس  أمامي  سوى  النهر وخرائب حي ( الشهوان )  ….. نداؤكِ  يا  ( أميرتي ) هو عشقي  الأزلي  ….

 أنتِ  متاهة  الحلم  والرؤيا   لباصرتي   ,,  وشاطئاً  لملاذي  الأكيد   ,,  بيد  أن  العيون  محض  إفتراض  وأضغاث  أحلام  ,,  وصوتكِ  الهامس  ترياق  حياتي , كنهر( دجلة )  الذي  ينساب  في  فجاج  الظمأ  العظيم  ,,  وجنائن  الأقحوان  التي  عهدتها  تنهض  مع  أبي  في  غبش  الفجر  وتشرب  من  يديه  عندما  يتوضأ  للصلاة  …..

  كان  صوته  مع  أول  خيط  الفجر  يملؤني  حنيناً  وقدسية  ومهابة  وهو  يتلو سورة (  الرحمن )   ….

هل  وشوشت له  مسبحته  (  الكهرمان )  في  غفوتي  وسكينتي  المطمئنة  ….  ؟؟؟

هل  أكمل  الشيخ  أوراده  ثم  مضى  يتوكأ  في  دروب  الحياة  …..؟؟؟

كان  أبي  فلاحاً  ومزارعاً  يعشق  أديم  الأرض  والنهر  …

كان  يقسم  أنه  كلما  ذهب  للحقل  يسمع  ( القمري ) وهو  ينشد :

رزقك  الأرض  والنهر يا  ( أبو العيال ) ,

كفاك  الله  الهوان  وشر  السؤال ,

أقسم  أبي  أن  (  القمارى  )  ناشدته  الله  في  كل  الصباحات  الباكرة  …

أين  إبريقه  النحاسي  والزمزمية  ..؟؟؟

أين  الركوة  التي  قيل  أنها  كانت  لولي  من  أولياء  الله  الصالحين  ,,  يصلي  الفجر  في  بيت  الله الحرام , ويعود ضحى  لحوارييه  …؟؟

أين  سيفه  ومصلاته  العسجدية …؟؟ ,,  ومسبحته  (  الكهرمان )  واللوح  والدواة  والمصحف  العتيق ,, ولوحة  الكعبة  والأقصى المبارك  ومسجد  الرسول  ….  ؟؟؟

أين  الدماء  الزكية  التي  سكبها  (  الدواعش )  على  ضفاف  نهر  مدينتي  الخالد ؟

في  مذابح  الضلال  القديم  تنحر  الأضاحي  لصنم  معبود ..  كانت  تساق  الى  جحيم  المأساة  كما  تساق  القرابين  ….

بيد  أني  أسوق  نفسي  إليكِ  يا  ( أميرتي )  قرباناً  وأضحية  ,,  وأسفح  دمي  على  أعتابكِ  كل  يوم  , ولم  أكن  فداءً  لملك  أو   صومعة  أو  كاهن  …

أنا  لستُ  قرباناً   إلا لأجلكِ  ,  ودمائي  لا  تسفح  إلا  لمثلكِ  أيتها  (  النورسة )  النبيلة  الأصيلة  …

ليكن  سعيي  إليكِ  يأساً  وقنوطاً  ,

 ولتكن  دمائي  التي  سفحتها  على  مواطىء  قدميكِ  لهواً  وعبثاً ,

ولتكن  قصائدي  ورواياتي  بين  القوافل  جنوناً  وسفهاً  ,,

ليكن  ما  لا  مناص  أن  يكون  …

أنا  يا  أميرة  اللؤلؤ  والمحارات  التي  أفر  إليها  من  ذاتي  وحياتي  …

أقسمتُ  لطفولتي  منذ  فجرها  الأول , بأن  نسير  معاً  على  ضفاف نهر  مدينتي  من  الحياة  الى  الموت    ومن  الموت  الى  الحياة  …

يا آهة  البرد  والمطر  الراشح  وقارعة  البروق ,,  والحنين القرمزي الى  الدفء  والمنفى  واليأس  المتكرر  تحت  أوجاع  الزمن  ….

أواه   …..   يا  أميرة ( دجلة )   ….  يحرضني  شوق  الكتابة  إليكِ  الى  الكتابة , وتحرضني  الكتابة  الى  العشق  والحنين ,,  والصحف  البيضاء  باكية  مستلقية  ,,  كحقول  من  القطن  في عالم  المسغبة  …

كالصقيع  المتراكم  في  الزمن  المنطفىء ,,  يحرضني  الشوق  الى  الكتابة  ,,  الى  النزيف  الحلو  بطعم  اللقاء  …

الى  الطفولة  المبعوثة  بلون  الخريف  العائد , والنوارس  العائدة  …..

الى  السكينة  في  ساحل  الليل  المطمئن  ,,  بين  غفوة  الأنام  ويقظة  الحلم  …

يحرضني  شوق  الكتابة  إليكِ  ,,  أن  أرفع  مرساتي  وقلوعي , وأعصر  قلبي  كالنبيذ  بين  أوجاعي  وأضلعي ,  ثم  أبحر  ما  طابت  الريح  …. لعل  الرحيل  عن  المدينة سلام  ,,  ولربما  ترياق  الشعر  يذهب   الألام  ….

يحرضني  الشوق يا (  أميرة )  الحب  والحسن  الماحق  والجمال  الذي  لا يبقى  ولا  يذر  أن  أغفو  على  وجه  صحائفي  …

أنتظر  قافلة  الكلمات  والقصائد  في  رحلتها  الأبدية  بين   دجلة  والمدينة  …

نبضي  يسألني   … :

(  كم  جملة  لحنية  عبرتْ )

( وكم  صورة بهية  رُسمت ) ,

( كم  قصيدة  حب   سُمعت ) ,

 ( وكم دمعة  قيسية  سقطت ),

يدفعني  الحنين  الى  الكتابة ,,  حين  يمتزج   الحزن  بالمداد  ,,  وتتخذ  الحروف  والكلمات  شكل  السحابة  حين  يتجاسر  الحرف  , ويغدو  أديماً  للمزامير  البعيدة  ,, وشجواً  للكلمات  والقمارى  النائحة

(نورستي )  العذبة  الجميلة  ,, لقد  مشت  على   جسدي  قوافل  الزمن  ,,  وأنا  ما زلتُ ملقى لا أستطيع  البوح  ,,  فحدثيني  يا  سيدة  الأقمار  البهية  , كيف أحدث  الخلق  عنكِ ؟؟  , وكيف أفهم  ذاك  النائم  عند  الجرف  والذي  يسألني  دائماً  عن  هويتي  ؟؟  ….

هل  أقول  له  أنتِ  خطوتي  الأولى  في  رحلة  العشق ؟؟  ..

أتراه  يظن  أنني  التائه  الذي  يعرج  نحو  الغيم  صعوداً  في  رحلة  أبدية  الأطوار كالحقيقة  والحلم  ,, أو  كالموت  والحياة  …

خذي  مزماركِ  يا  (  مليكتي )  وأملئيني  أنغاماً  تعيد  لعينيّ  السكون , وتريح  رأسي على  وسائد  السلام ….

أوجعيني يا ( نورستي ) ,  فليس ثمة  وجع  نبيل  إن  لم  يكن  على  يديكِ , وليس  ثمة  ناي  حزين  إن  لم  يشتعل  بين  شفتيكِ  ….

غني  لي  يا  (  أميرتي ) ,  وأمطريني  ببرد  الغناء , وهل  برد  وسلام  إلا  الغناء ؟ ….  تلك  وصية  أمي  النبيلة  وأنا  طفل  لا  يحفظ  الوصايا ولا  الحروف  ولا  حكايات  الأمهات  …..

غني  لي  يا  (  أميرة )  الأقمار  ..فحبكِ  أبطل  كل  فتافيت  الحزن ,  وبكِ فقدت  ذاكرتي  لجة  النسيان  والعدم ..

لقد  محى  الزمن  صحائفي  ,,  وألغى  كل  الذكريات  …

لم  أعد  أذكر كم  شجرة عنب  تشمخ  في  حوش  البيت  الذي  ولدتُ  فيه  ,  و لا أذكر  كم  سدرة  على  الأزقة  الضيقة  التي  طالما لعبنا  فيها  ….

  لقد  نسيت  ألوان  الملاحف  والأواني   النحاسية  والصور  المطرزة  على السجاجيد  القديمة  وخزائن  الحديد  التي  جلبها  جدي  من  الهند  بعد أن باع فيها أفراسه  الأصيلة …

لقد  نسيتُ  جلود  الغزلان  التي  إصطادها  وأنياب  الذئاب  التي  قتلها …..

لقد  نسيتُ  كم  جُبة  لبس  جدي  وكم  عيد  ,,  وكم  مرة  بكيتُ  في  صدر  أمي  ….

لقد  تكلست  كل  الصور  وتجمدت  كل  الأصوات  في  خرائب  ذاكرتي  المتعبة , لكن  صورة  واحدة عذبة  بقيت بصمتها  عالقة  في  أنسجتي أتمتع  بها  حين  ألقاكِ  هي  وجهكِ  النبيل  الذي  لا  يزال  كعهدي  به ,,  حياً  نقياً  زاهياً  حتى  الشفافية  والحزن   والجمال  البهي  كبهاء  (  دجلة )  الأغر  …….

ذلكم  صوت  أمي  الذي  أسمعه  في  كل  صوت  جميل  وهو  أجمل ,, وذلكم  وجهها  الذي  لا يضاهيه  جمالا  وطهرا وجه  من  تلك  الوجوه  الملائكية  الجميلة  التي  أبدعتها  قرائح  عشاق  الفنون  وأودعت  فيها  مل  أشواق  الأنسان  الى  السمو  والى  الكمال   ….  ذلكم  وجهها  الذي  أبدعته  يد  الرحمن  ,,  فتبارك  الله  أحسن  الخالقين  الذي  يصعد  إليه  الكلم  الطيب  ….

هدهديني  يا  (  نورستي )  كي  أنام  الليلة  ,,  فأنا  في  شعاب  هذا  الليل  المنتحب  أتوهج  شوقاً  ليد  أمرأة  كاملة  الأنوثة  ,,,  أتنفس  من  راحتيها  الأوكسجين وأتحوط  بها  درعا  سليمانيا  مطلسما  أتقي  به  شبحا  يمتصني  في  خلال  الليل  المهيب ,,  وأحملها  سراجا  مباركا  في  عتمة  السراديب  والظلام  المروعة   ….

دفئيني  بريشكِ  يا  ( أميرتي )  ,  فأنا  طفل  مقرور  تحت  سماء  منطفئة  ….  إنزعي  من  على  جسدي  الضعيف  ثوبي  المبلل ,,  وخذيني  تحت  جناحيكِ  أخذة  صدق   ….

دثريني  بعباءة  قطنية  صنعها  جناحيكِ    ودعيني  جواركِ  أتجشأ  دفئا  وسكينة  وأنصتُ  في  خشوع  لصمت  نهر  مديني  الحبيب  وسكون  الغابات  على  ضفته  والتي  إبتلعت  في  جوفها  سره  الأعظم  ,,  وجثمت  في  جلال  مهيب  تتأمل  صغار  الكائنات  في  عتو  ولا  مبالاة  …

آواه   …….  ما  أوسع  الليل  يا (  حلوتي  )…..

أتحفظين  شعراً  أو  موشحاً  لشاعر  أدركه  الليل  على  ظهر  دابته  وهي  تخبُ  نحو  ديار  الحبيب ..؟؟  …  البعدُ  يصغّر  الأشياء ,,  لكنكِ  وحدكِ  تكبرين . أسطورة تلفني  ..

لقد  ضاع  شاعر  يقرض  الشعر  ولم  تجد الفئران  في  بيته  ما  تقرضه  ,,,  فتصوفت  هي  الأخرى  وتفرقت  في  حُبك  الظلام  تقرض  الشعر  والموشحات  .

هل  تحفظين ( نورستي )  أرجوزة  الطارق  الغريب  في  موهن  ليلة  من  ليالي  كانون  العتيد  ,  والكون كأنه  جُب  ينز  من  حافاته  الصقيع  .. ؟؟

هل  آنس  ناراً  في  ذلك   الكوخ  البعيد على  حافتي  الغابة  والنهر؟ ,  أم  يقوده  طيف  امرأة  تغتسل  بالأمطار  وتتعطر  بالعواصف  ؟ ..

لله  ما  أروع  ليلكِ  يا  ( أميرتي ) ,,  وأنا  الغريب  الذي  يقتحم  الصقيع  فزعاً  إليكِ ….  ودبيب  الشهر  الكانوني  يسري  في  عظامي , والمطر  الراشح  ينقر  هامتي  ,,  لكأنني أزحف  في  تجاويف  مغارة  متجمدة  منذ  مئات  السنين  …

قلبي  صار فضاءً  بلا  حدود , لكأنه  خلاء  أبدي  تخشع  من  هوله  الأبصار , وتقشعر  من وحشته  الأبدان  …

أصبحتُ  كالطفل  الذي  ضاع  من  أمه  وهو يحبو  مأخوذاً  خلف  طيف  مسحور…

آنستُ  فيكِ  ناراً , فعدوتُ  أطلبكِ  في  التيه  العظيم  ….

دنوتُ  منكِ  ,,  وما  دنوتُ  ….

بين  الأقدام  والأحجام  ,  أراني  واضحاً  كما  لم  أر  نفسي  من  قبل  ….  أرى  الحياة  في  مدينتي  مذبحة  يجز  فيها  (  الدواعش )  الأعناق  قبل  أن  تشرئب , وقبل  أن  تشيع  محمولة  على  المناكب  يا  ( أميرتي )   ….

لمن  هذه  الرؤى  الباكية  ؟.

لمن  هذا  الضريح  الذي  لا يستبشر  بقبر  الموتى  ؟ ..

لمن  جهنم  التي  كلما  قيل  لها  هل  إمتلئتِ  تقول  هل  من  مزيد  ؟؟؟  …

لمن   سعادتي  وشقائي وبكائي  وابتسامي  ؟؟  ..

لمن  هذه  الأكوان  يا ( مليكتي )  ؟؟  …

لمن  أنا  ؟؟؟  ….

دنوتُ  منكِ  ,,  وما  دنوتُ   …..  بين  الأقدام   والأحجام  أهيل  على  نفسي  ركام  الحياة  البالية  ,,  وأجلس  مدحوراً  بفشلي  وذلي  …

أجلس  كالثكلى  في  خرائب  حينا  العتيق  المهدم  والمحترق  ,,  لا  أملك  من  حاضري  إلا  الحديث  عنه وقد  يستعصي  اليراع  أحياناً  ,,  فيكف  عنُه  الحديث …

أراني  كذاك  الراعي  صاحب  جرة  السمن  التي  علقها  فوق  رأسه , وطفق  يحلم  ويحلم  ويحلم , حتى  تهشمت  جرته  واندلق  السمن  على  رأسه  الحالم  فأستيقظ  مذعوراً  من  حلمه  الداكن   .. ..

لم  أر  الحلم  الذي  طالما  حدثته  وحدثني ,,  ولا  الحب  في  فج  الحياة  ,,  ولا  الشعر  ولا  الفن  ….

لكنكِ  قدري يا ( نورستي )  أن جعلكِ  الخالق  ترفين  وتحطين جاثمة على  صدري  ووجهكِ  الصبوح  قبالة  باصرتي  …حينها رحتُ أقبل  منقاركِ  المدبب  الجميل …

قدري  الذي  أسوق  نفسي  إليه  مدفوعاً  بكل  ميراث الكائنات  التي  تنوس  على  عواتقها  المصائر  ….

تلك  الدروب  التي  مشيتُ  عليها  ,, أذكر أنني  عبرتها  كالنائم  ,  بيد  أني  لا  زلتُ  أسري  وأتخبط  كالعشواء  في  السُرى  ,  تتفتح  في  وجهي  المتاهات و  تتأهب  لأبتلاعي   كهوف  مظلمة ,,  فلا  أدري  بأي  قطعة  من  نفسي  أفتدي  نفسي ……

يشتد  شقائي  حين  آوي  الى  مضجعي  في  آخر  الليل  ,  وحين  أستلقي  على  رطوبة  تلك  الدكة  الحزينة  مسرى  وملتقى  أحلامي  ,,,  تلك  الحشية  الباردة  التي  أستعشر  صقيعها  يسري  في  عظامي  ,,  أحدث  نفسي  تواً  بحديث  النوم  ويا  لشقائي  بذاك  الحديث …….

أغمض  جفنيّ ,,   لكنني  لا  أنام  ….  اتنفس  بعمق  وهدوء  لكنني  لا أنام  ….

أتقلّبُ  وأتأوه  كالسقيم   ,  بيد  أني  لا  أنام  ….  أتمدد  مسترخياً  كشيخ  هرم  وأتكور  منكمشاً  مقروراً  كالطفل  الوليد  , غير  أني لا أنام  …  خيّاط  الحب   من  عطر ريشكِ

 القطني   ,,  خيّط  ثوباً  يشبهكِ   ,,,  هكذا  أنا  باق لا  أنام  …..

لا أدري  …  ربما  رأيتُ  حلمي  بين  يديكِ  تداعبينه  مثل  قط  صغير   …  ما  أعذب

الأحلام   يا ( نورستي  )  حين  تموء   …..

كم  يحبكِ  نهر  مدينتي لأنك  نورسته  ….  لكني  أحبكِ  أكثر  من  لججه ,  فأنتِ  قصيدتي

وأنكِ  تجّملين  الخيال  …..  تعالي  مثل  العطر  وإنتشري  …  لن  يقلقكِ  ريش  الأجنحة

….   أُريد  جناحيكِ   ,,,  لأحمل  قلبي    ……

نافذة  الى  عذوق الفلق

بائعة  الورد  نورسة , أتعبتها

الحقول  والفراديس ,,  فتعلمت  مهنة

الرحيق  ووجدت  أظفارها  على

الورق , فعرفت  أنها  حبر  الكتابة   ,,,

وراحت  تتلظى  في  جُب  القصيدة  …

في  البداية  ,  وقبل  اللقيا  مع  ( نورستي ) ,  وقبل  أن  يصبح  لقاؤنا  مصدر  خوف  ووساوس  خطيرة  وتعب  خشية  من  مجيء  (  الدواعش  )  ..قبل  ذلك  كنتُ  أذهبُ  وحيداً  وفي  أية  ساعة  أشاء  ,,  طليقاً  من  كل  قيد  ,  معتقداً بأني  لا أسبب  حرجاً  لها

.. …..

في  ساعات  الضيق  والحسرات  والألم  , كانت  اللقيا  …  كانت  (  أميرتي )  القطنية  وحيدة  مثلي ,  وخائفة  وممتلئة  بالوساوس  ,  لا  تستقر  عيناها  على شيء  …  قلقة    حائرة , تلتفت  عند  كل  خطوة  تخطوها  ,  مطبقة  المنقار , كأنها  لم  تتفوه  بكلمة  مذ  خلقها  الله  ….

صرنا  نتوجه  الى  ضفة  النهر  معا وفي  أوقات  معينة  تختارها ( نورستي )  بعيدا  عن  أسراب  الطيور  التي  تهيم  على  صفحة  الماء    في  أوقات   ومواعيد  قلقة  عندما يصمت  الرصاص  و يتوقف  دوي  الأنفجارات  ….

صرنا   نتبادل  الذعر , والهوس , والقلق  على  الشاطىء  والرمل  ….  صرنا  نجوب  الغابات  في  الأوقات  التي تختارها  هي .

نعم  كانت  ( نورستي )   هي  دائماً  تختار  تلك  الأوقات  التي  يعم  الصمت  فيها  المكان,  وهي  الأغلب  وقت  الظهيرة , أو  الأوقات  التي  تعقب  الغروب  مباشرة .

كانت  هي  التي  تقودني  بين  جذوع   الأشجار وأحراش  القصب , والأوقات  والأزمات وكنت  في  حاجة  لمن  يقودني ,  ولعلها  خير  من  أسلمتُ  له أمر  قيادتي ….  كانت (  أميرتي )   ناضجة ,  وكان  نضجها  سابقاً لأوانه  , وأنا طفل  عرفتُ  هذه  الحقيقة ,,  فهي  لولا  هذا  الشحوب  الذي  يكسو  تقاطيع  وجهها ,,  ولولا  هاتان  العينان  اللتان  تلمعان  بحدة  ,,  ولولا  هذا  الريش  النافر  فوق  جناحيها  لحسبتها  أميرة  القوافي  والخلجان والبحار  …

كانت  حلوة و جميلة  ناعمة ..  واسعة  الصدر  قد  لوحتها  الشمس , وكانت  دائمة  تطلق  ضفائر  ريشها  الى  الخلف  ,,  وتسير  أمامي  حافية  القدمين  ,,  نحيفة  الأصابع  والأظفار  …  دقيقة  الساقين ,  لكنها  صلبة ,  رصينة  الخطوات  على  الرغم  من  أذى  الضفاف  وأشواك  الرمل  النابتة  عشوائياً  والحصى  الناعم   في  الشاطىء …

كانت  تدوس  بهاتين  القدمين  الحافيتين  على  أكثر  الأماكن  ولا  تحفل  بشيء  ….

كانت  ( نورستي ) هي  معلمي  الأول  والأكبر  …..

لقد  تعلمتُ   منها  الكثير في  تلك  الأيام  العجاف ,,  تعلمتُ  الصمت ,  والحب  بصمت ,  والصبر بصمت  ,  والمكابرة الحية  والتمسك  بالألم  والضغط  عليه  في  القلب  بشدة  …

تعلمتُ أن  أترك  كلام  الناس  يدخل  من  تلك  الأذن  ويخرج  من  الأخرى  ….  تعلمتُ  أن  النصائح  التي  يبديها  الكبار  هي  براميل  فارغة  إمتلأت  بالقمامة  النتنة  ,,  تعلمتُ  أن  أقول  ( نعم )  عندما  أريد  ذلك  فقط  …

عندما  كنا  نقترب  من  النهر  في  كل  مرة    نتوقف  قليلا  ..  لا نحتاج  الى  أن  يشجع  أحدنا  الآخر  ,,  بل  كل  ما نحتاجه  هو  أن  ينظر  أحدنا  الى  الآخر  فيتحفز  …  كنا  نتطلع  الى  ظلينا  المتطاوليين  وهما   يتأرجحان على صفحة  الماء  المنحدر  بسرعة  ,  يستطيل  أحدهما  ليقصر  الآخر  تباعاً , وكانت صفحة  الماء  صافية  الزرقة  حتى  نكاد  نبصر  قاع  النهر  المسافر   …..

تنحني  فوقي  ,  فيمتزج  الظلان  ببعضهما  عندما  تكون  الشمس  قد إنحدرت  صوب   المغيب  ,,  وحيث  يكون  بأمكاننا  أن  نرى   على  صفحة الماء  تلك  السلسلة  الملونة  التي  لا تنقطع  من  تلك  البيوتات  التي  إستطالت  ظلالها  هي  الأخرى  من  (  حي  الشهوان  )  وإنعكست  على  صفحة  الماء  مثلثات  سود  ينبثق  بعضها  عن  البعض  الآخر  بأمتداد  الشاطىء   …..

هكذا  كانت  تبدو صورة الجانب  الأيمن  من الحي  ….

صورة  حي  عتيق  مهدم  على  صفحة  النهر …  لم  تكن  المسافة  بعيدة  بين  خرائب  البيوت  والنهر   ….

بقيتُ  أهرع  الى  النهر  قاطعاً  هذه  المسافة  بعناء  شديد  ,,  مهموماً  تلهبني  صورة  (  نورستي ) ,  وأشعر في  كل  مرة  أتوجه  فيها  الى  النهر ,,  أنني  ينبغي  أن  أعود  إليه  ثانية  حتى  أجد  ما  وجدتُ  (  أميرتي )  …

الأتفاق  مع  النفس , أو الأنسياق  الدؤوب  مع  هذه  الممارسة  اليومية  اللذيذة , ولكنني  حتى  الآن  لستُ  متأكداً  من  شيء , لستُ  مقتنعاً بشيء , لستُ  مؤمناً  بشيء , وربما  أحتاج  الى  وقت  اطول  …

  ألم  أقل  أن  (  نورستي  )  أجمل  مني ..؟

مر  وقت  طويل  على  ذلك  أتت  فيه  الليالي المتعاقبة  , والنهارات  الكئيبة  على  الكثير  الكثير   مما  كنتُ  محتفظاً  به  في  الروح  من  تفاصيل  ,  ولعب  وهواجس  متناقضة  تلتهب  كلها  الآن  بلظى  تلك  الصورة  المنعكسة  على  صفحة  النهر  …

كل الذي  أذكره  الآن  أنني  عندما  أغمر  جسدي  في  ماء  النهر ,  وأشعر  ببرودته  معتقداً  أنها  الوسيلة  الوحيدة  المتبقية  لأطفاء  هذه  النار  الملتهبة  في  الرأس  ……

كنتُ  كلما  فعلتُ  ذلك  وجدتُ  أن  النار  تزداد  لهيباً  ….

إنه  رأس  طفل , يظل  مشتعلا  بما  لا  يألفه……

ولكني  إستطعتُ  , فعلا , الأمتناع  عن  الذهاب  الى  النهر ,  لقد  طلقته  كما  فعلت ( أميرتي )  منذ  أيام  …

مرت  فترة  طويلة  كما  أعتقد إنتشلتُ  نفسي ,  وألهيتها  بالحديث  عن  الرمل  والظل  والحي  والشاطىء  الذي  ينهزم  مني  كلما  أشتقتُ  إليه   …كنت  أجاذب  (نورستي )  أحاديث  الجنون  الذي  نعتنا  به  الحكماء  من  الكبار , وأجاذبها  أحاديث  التعود  والأنقطاع  والنهر  والرمل  حتى  إعتقدت أنني  نسيتُ  كل  شيء …  اليوم , وبعد  كل  هذه  الأيام , توجهتُ  الى  هناك  ….  لا  أدري  ما  الذي  كنتُ  أحسُ   به  ..  لابد  أن  ثمة  شيئاً  لم  يعد  كما  هو ,  في  الداخل  …   لم  أعد  أطيق  مقاومة  هذا  الأغراء  الخفي  ,  فتوجهتُ  الى  النهر  ,  تماماً  مثلما كنتُ  أفعل  ….

سرتُ  بمحاذاة  النهر  ,  على  حافة  الشاطىء  تماماً  بخطى  بطيئة  مترددة  ونفسي  لا تبرح  تزين  لي  التقرب  منه ,  والأغتسال  بمياهه , لا لكي  أطفيء  الجمرة  الحارقة  في  الرأس  ,  لأن  هذه  إنطفأت  من  قبل  ,  وإنما  هو مجرد  إنسياق لا قرار  له  وراء  الرغبة  في  تذكر  كل  شيء   ……

توقفتُ  عند  مرتفع  رملي  هش .  تذكرتُ  أنه  المكان  عينه  الذي  إلتقيتُ  (أميرتي  )   عنده ذات  يوم ,  وهو  المكان  عينه  الذي  يقع  في  صلب  الأتجاه  المحاذي  للنهر ..   في  ذلك  اليوم  حطت  (  نورستي )  على  صدري  كالرمح   ووجهها  على  ما  أذكر بأتجاه  معاكس  للنهر , والنهر  أكثر  إشراقاً  مما  هو  عليه  الآن ..

كانت  عيناها  أكثر  صفاء من  صفحة  النهر  الزرقاء  …

كانت   الأشياء  كلها  كدرة  وكامدة  آنذاك , ولكن  ذاكرتها , بالتأكيد , كانت  متوثبة  حية  الى  أقصى  حد ….

فاتنة  قطنية  لم  تتلفها  الأحداث  بعد ,  ولم  تغشها  الأوجاع  ولا  الحب  بعد  .. كل  شيء  لديها  بكر  وكانت  تحاول  في  ذلك  الغروب  الحزين ,  حسب   ظني  أن  تستجلي  بعضاً  من  أسرار  هذا  النهر , أوأسرار  وجودي  المريب  هناك  يومياً , وأنا  لا  زلت  كما  رأتني  أول  مرة  ..  ربما  لم  تر  فيّ  مساً  من  الجنون  كما  يرى  الآخرون  ,  الحكماء  المسنون ,  وربما  إستطاعت  حقاً  أن  تكتشف  سر  هذه  الرغبة  المجنونة  فآثرت  الصمت  ,  والأيحاء  بأنها  لا  تفقه  شيئاً   ….

كانت  تتابع  مجرى  النهر  التلقائي  المجيب  بخشوع  وصمت  مفزعين  ,  حتى  أني حسبتها  تؤدي  صلاة  خاصة  بالنهر  ,,  تنجذب  إليه  وتندمج مع  خرير  مياهه  وتتلاشى  في  زرقته  اللامتناهية ….

في  هذه  اللحظات  بالذات لا أحد  يستطيع  التعرف  الى (  مليكتي ) ,  وهي  تقف  خاشعة  لا  يطرف  لها  جفن , و لا تصدر  عنها أية  حركة ….  ينفر  الماء  من بين  قدميها  فتدوم  تياراته  العنيفة  خلف  ساقيها  ….

كانت  عيناها  الى  الأمام  حيث  يتجه  النهر , ووجهها  يكاد  يكون  وجه  تمثال  نصب  على  الشاطىء  منذ آلاف  السنين   ….  يا  للعجب  !!!!  فالأنهار  تجري  تلقلئياً  ,  وتحمل   معها  أسرارها  الى  حيذ  تنتهي ,  وليس  من  المعقول  أن

(  أميرتي )  لا  تعرف  ذلك  …  كانت  في  وقفتها  الجبروتية  تتابع  إنحداره  الصعب  ,  هبوطاً  من  أول  الينابيع  البعيدة  التي  تبدأ  في  شق  خفي  في  باطن  الأرض  حيث  الصخور  المسننة  الناتئة  ,  والأعماق  المجهولة ,  ثم  الأنحدار  الصعب  أيضاً  صعوداً  حيث  تتفرع  منه ,  بعد  مسافات  طويلة  جداول  رفيعة  تجوس  سبخ  الأرض  وملحها  الأبيض ,  وأحراشها  المكتظة  بالأشياء  .. صعوداً

أو  هبوطاً ,  حتى  تلك  النقطة  التي  نقف  عندها  أنا  و ( أميرتي ) ,  وكما  ينبغي  أن  يكون  هذا  التوجه  الحاد  الأزلي  للنهر ,  دائماً ,  كان إحساسي  بهما  قوياً   منذ  تلك  اللحظة  التي  أبصرتُ  فيها  ومضات  الخشوع  المخيفة  في  عينيها  …..

أهذا  هو  الجنون  الذي  كان  يخشى  أهل  (  الشهوان )  الكبار  منهم ,  تطوره  وإتساعه  …  ؟؟؟

إذاً  فهم  محقون  في  تلك  المخاوف  التي  أشاعوها  في  أحاديثهم  ….  إنهم  محقون  …  فلو  أن  ما  في  (  نورستي )  إنتشر  وشمل  كل  النوارس  المحلقة  فوق  فضاءات  مدينتي  والنهر ,  لخرج  حي  (  الشهوان ) ولأصطفوا  على شاطىء  النهر  ,  وتركوا  الماء  يغمر  سيقانهم  حتى  الركب  ….

أليس  هذا هو  الجنون  بعينه  ..؟؟ , أليس  هذا هو  الخروج  عن  المألوف  في  هذا  الحي  الملاصق  لجرف  النهر ,  والذي  يسبب  لهم  الخوف  مرة  في  كل  سنة  ..؟

أليست  هذه  ديانة  جديدة  كان  يمكن  ان  تنشرها ( نورستي )  لولا  حكمة  الكبار  من أهل  حي  (  الشهوان ) ….  ؟؟؟

كانت (  أميرتي )  أجمل  مني  وكنت  أتمنى  لو  أنها  حاولت أن تلقي  إليّ بسر  من  هذا  الجمال , ولكنها  آثرت  الأحتفاظ  بكل  شيء  وعلى  طول  الأيام  التي  مرت ,  وكلما  وجدتها  الى  جانبي ,  سواء  هنا  على  الشاطيء ,  على  هذا  الرمل ,  تفوح  رائحتها  الزكية  في  أرجاء  الغرفة  كلها  إبتداء   من  الوسائد  والأغطية  حتى  فتحات  النوافذ  و أكر  الأبواب  ..  كلما  فعلتُ  ذلك  وجدتها  تحتفظ  بكل  شيء ,,

فأشعر  دائماً بأني  لن  أفلت  من ذلك  الأحساس  الآسر  بالرهبة  المقدسة ,  وأنا  أنظر الى  عينيها ….

كل  شيء  يعود  إليها  ويبدأ  منها  , الحياة ,  والحب  ,  والنهر  ,  والشمس  ,  ورمل  الضفاف , والأحاديث  المتلاطمة  في  صدور  الحكماء  الكبار  …  كل  شيء  لها  ومنها   ..  لقد آثرت  الأحتفاظ  بكل  شيء  ….

كنتُ  أبصر  نفسي  عبر  هذه  الرائحة  طوال  تلك  الأيام ,  مستكيناً  مسكيناً ,  متآلفاً  مع   الشاطىء  المغمور  بالطمى  والحصى  الملون  ,  أو  متواطئاً  بلا  حدود  مع  الظلمة ,  أو  مع  الضوء  المنبعث  من  عيني  ( نورستي )  في  أثناء  وقفاتها  الراسخة  على  صدري ,  والذي  يشبه  إلتماع  أول  نزيز  يبدأ  به  النهر  كم  أتخيله  في  كل  لحظة  الى  آخر  المصبات  عند  آخر   نقطة  يشربها  الملح  أو  البردي  …

لم  أنسَ  قط  أن  وجهها  يومذاك  كان  يحمل  الهدوء  المستكين  المستلب  نفسه ,

المأخوذ كلياً  بأصرار  النهر  على  التدفق  الحاد  المستمر   ,,,

منذ  أيام , وأمام  إحدى  وقفاتها  الشامخة ’  شعرتُ  أن  ( نورستي )  هي  نهاية  حقيقية  لكل  تعبي  وأوجاعي , وأنني  لكي  أفلت  من مس  الجنون , ينبغي  أن  أربط  حياتي ,  الى  الأبد ,  وبأوثق  الصلات  بحياتها   ….  لا  خيار آخر  أمامي

غير  هذا , لكني  الآن ,  في  هذه  اللحظة , عند  هذا  المرتفع  الرملي ,  أحسب  أنها  المنبع  الوحيد  لكل  أوجاعي ..  فهل  تغير  شيء  ما ..؟؟ !!!  ربما  ….

كان  المرتفع  الرملي  الهش  قد  إنفرش ,  واحتل  مساحات  واسعة  من  الشاطىء

و كان  يبدو  للعيان  أن الشاطىء  قد  إنهزم بضعة  أمتار    وترك  وراءه  خطوطاً  داكنة  من  العليق  والبردي  والأحراش  البرية  تشابكت  مع  بعضها  فكونت  جرفاً  ذا  حافة  حادة ,  في  حين أن  الجانب  الآخر  كانت  تنهض  منه  خرائب  حي

(  الشهوان ) …  الشيء  الوحيد  الذي  لم  يتغير  هو  ذلك  الحصى  الناعم  الملون  الذي  كنا  قذفنا  منه  المئات , بعيداً ,  في  عمق  النهر …

كنا  نختار  لكل  يوم  حصاة واحدة  ذات  لون  مميز , نقذفها  الى  محاذاة  الشاطيء ,  ثم  نتسابق  نحوها  بسرعة …  نضع  رهاناً ..  من  يبلغها  أو  يلتقطها  قبل  صاحبه  له  الحق  أن  يرشه  بالماء  دون  أن  يتحرك  الآخر  أية  حركة  …..  يا  إلهي انني  أتذكر  كل  التفاصيل  وبدقة  تثير  الأعجاب  ….

لم  يفارقني  الأحساس  العميق  بأن   أي  يوم  من  هذه  الأيام  لن  يعوض  أبداً  ,

كانت  أياماً    ممتلئة  حقاً  بكل  شيء  …

هكذا  أشعر  اليوم , وهكذا  دأبتُ  على  ترويض  نفسي  وعنادها  المتأصل  وحجب

أهوائها  المتوثبة  دوماً  وارغامها  على  الصمت ,  وعلى  الركون  الى  ضياء  الذاكرة  وزحمتها   …

ماذا  أفعل  اذا  كانت  السنين  التي  تمر  تحمل  في  طياتها  خواء  مرعباً ,  وجفافاً

  مميتاً  إبتدأ  يفتك  بالذكريات  …؟؟

لا طاقة  لي  بالعناد ,  بعد  هذا  العمر  ,  مع  نفس  شاخت  قبل  الآوان ,  نفس  رجل  تنازعه  شهوات  عمياء  متناقضة  كانت  في  يوم  ما  أصيلة  ذات  مغزى

….  فماذا  أفعل  …؟؟؟

من  سنة  الى  أخرى  كان  الوهم  يكبر ,  ويزداد  تشبثاً  بي , وسنة    بعد  أخرى  كانت  الرغبات  تتوالد  لتزدحم  بها  الروح  فتتداخل  خيوط  حياتي ,  وتتشابك

مع  بعضها  وتتعقد , بل  ها أنا  أبحث  عن  تفاصيل  أخرى  صغيرة  ربما  إختبأت  في  الذاكرة , وإندست  في  زحامها  لعلها  تقودني الى  تخوم  البدايات  الأولى ,  ولعلني  أضع  يدي  على  منابع  هذا  الأحساس  الخطر  بأنها  لم  تعد  تمسك  بكل

شيء , وهذا  في  منتهى  القسوة ,  في  منتهى  القدرة  على  إحتمال  الألم … لقد  أدركتُ , ولكن  بعد  فوات الآوان  …  إنني  مثل  من  ينسج  ثوباً  سداه  من  الضوء

البكر  الذي  لم تمسه  يد , ولحمته  من  الوهم  الخالص  الذي  يتشبث  برؤوس  المتعبين  ,  وها  أنا  أعود  الى  الشاطىء  بعد  أن  تبدد  كل  شيء , وبعد أن أصبحتُ  على  يقين  من  أنني  على  قيد  خطوات  من  الموت …  يقين  يزداد

  رسوخاً  وتعمقاً  كلما  أنعمتُ  النظر  الى  وجه  (  أميرتي  ) ,  والى  أعماق

 عينيها  المنطفئتين   ….   فماذا  أفعل ..؟؟.

هل  أقتص  من  تلك  السنين  الطويلة  أكثر  اللحظات  إضاءة  ووضوحاً لأستهدي  بها  في  هذا  الليل  الحالك  الذي  يلتف  حولي  بكثافة  وصمت  ,  صعوداً , أو

 هبوطاً   …  لقد  حاولتُ  فوجدتُ  ذلك  مستحيلا ,  فأنا  لا  أعرف  أين  تختبيء  هذه  الأضاءة  المزعومة  ,  ولا  أعرف  كيف  أهتدي  اليها  ,  فليست  السنوات  التي  مرت  كلها  يشبه  بعضها  بعضاً , إذ  أن  عدداً  منها  كانت  عجفاء  ضحلة ,  لا أستطيع ,  لأنني  تعودتُ  حتى  هذه  اللحظة ,  أن  أرى  الأمور  خلال  الخضوع

  التام ,  لسيطرة  لا  حدود  لها  …

أعترف  أن  الأيام  الطوال  التي  مرت  مترعة   بالضوء    الذي  ظل  يسطع  هذه  الفترة  كلها , ولكنه  كان  يخفت  بالتدريج  حتى  تُركتُ  وحيداً  أما  عتمة  قاتمة  تسكن  الروح  والقلب  …

أعترف  أيضاً  أننا  كنا  جسداً  بجسد   ,  لا  يفصل  بينهما  غير  توجع  متواصل

ورغبات  مترابطة  تتدافع  مع  بعضها  لنفس  شاخت  قبل  الآوان  ,  وروح

هدها  الأعياء  ,  وطول  الطواف  ….

صعوداً  وبالأتجاه  المعاكس  حيث  لا شيء  سوى  وقع  الخطى …..

قلتُ  لنفسي  :

(  متى  كان  لي  موطىء  قدم  في  هذه  الأرض  غير  هذا  الحي  والنهر

ورمله , وغير  (  مليكتي )  ورائحتها  العذبة  المشتهاة  ؟؟  )  ….

جسد  بجسد ,  لا يفصل  بينهما  غير  ذلك  العبق   الساخن  الذي  يخمد  في  آخر  الليل  ….  بينما  تكاد  تشتعل  الآن  في  ذهني   تلك  اللحظة  التي  لم  تغادر

الذاكرة  أبداً  …  إنها  الوقفة  المؤذية  مع  أربعين  عاماً  مضت  سراعاً ,  وما  إنطوت  قط  على شيء  من  الرحمة  حتى  ما  كان  منها  مشرقاً  ساطعاً  …..

لم  يكن  فيها  غير  الصمت  المنفعل  المهلك  , الصمت  المر بأنتظار  أن  أعرف  أي  من  هذه  الرغبات  ينبغي  أن  أتبع   ….

لم  يبق  إلا  السكوت … أسكت  ولم  أبح  بشيء  أبداً   …. لا  أحد  يقترب  مني

 ولا  أحد  يبتسم  لي  …  لآ أحد  يهمه  أمري  سوى  (  مليكتي )  ………

سأستلم  لها فهي  ناري  التي  أتوضأ بها  ,,  وأتلاشى  بوهجها  المحرق    ….

لمن  إذن أبوح  بوجعي  ؟؟.

من  يستطيع  الأصغاء  اليّ  وسط  هذا  الصمت  الشامل  ؟؟  ولماذا  ؟؟  ….

لا أرغم  نفسي  منذ  الآن  على  الوقوف  عند  حدود  التعب  ,  وعلى  موائد

  التعب   …….  آخ  …  وحيداً  إلا  من  الحب  ……  وحيداً  إلا  من  هاجس

لعين  يهبط  بي  أو  يصعد  ,  لا أدري  , يدفعني  عنوة  الى  معاناة  ذلك

الأحساس  مثل  من  يلعق  الصخر  بحثاً  عن  قطرة  ماء   …..

إستسلمتُ  في  نهاية  المطاف  الى  هسيس  الرمل  الناعم  تحت  قدمين

خشنتين  فقدتا  الأحساس  بالأشياء …  بالأرض  والماء  والحصى  الناعم  …..

هبوطاً  وبالأتجاه  الصحيح  مع  المجرى  التلقائي  العجيب  للنهر  العجيب  والذاكرة  العجيبة  ….  لعلني  أرى  تلك  السنين  رؤية  صافية , فليست  بعيدة  الى  هذا  الحد  أو  في  الأقل  ليس  من  العسير  التكهن  بها عن  بعد  ,  فهي  إما أن تكون  خاوية

فعلا  كما   ينبغي  أن  تكون  السنين  لرجل  هدهُ  التعب  مثلي ,  فألقى  بنفسه  في  طريق  مسدود  ,  وأما  أن  تكون  كحد  السيف  قاطعة  موجعة  تتواصل  آلامها

مثل  خيط  من  النار  نازل  من  السماء  …

لقد  عاصرتُ  حروباً  أربع  حروب  ,  خرجتُ  منها  جلداً  على  عظم ,  حاسر

الرأس , نصف  مخبول  ,  نصف  معتوه ,  نصف  آدمي  …..  ألا  يكفي  هذا

  كي  يجعلني  أشم  رائحة  الخشب  في  جسد  آدمي  ؟ ؟  ..

ألا  يكفي  كي  يجلعني  أتوق  الى  النهر  بعد  هذا   العمر  الطويل   …….

حروب  أربع  يستفيق  من  حولها  الحجر  ,  ورغبات  إذا  أرعدت  فهي  أعتى  من  غضب  البحر   …..

آه  …. آه  …  حقاً  لماذا  لا  أبدأ  من  هنا  ,  من  هذه  الحروب ,  وأبحثُ  في

طياتها  …؟؟

قد  تسعفني  الذاكرة  ,  وقد  أستطيع  تلمس  راحة  لنفسي  في  الأماكن  التي

تحتفظ  بكل  شيء  إلا  الراحة  !!! …  الحروب  .

ومض  في  السماء ,  و دوي  في    حي  (  الشهوان  )  أعقبه  دخان  كثيف  أسود ,  تنقلب  الحياة  بعده  الى  لا  شيء  ..

لقد  فقدتُ  توازني  منذ  الطفولة  .  ما  كان  أحد  يتحدث  بأ يما  شيء , والصمت  يطبق  على

الجميع  ….  الناس  …  والنهر  والدروب  المتربة ,  والأزقة  القذرة  في  الحي  ….  لكنني

أذكر  جيداً  أن  الكبار  كانوا  يتحدثون  حول  بعضهم  في  حلقات  مغلقة  ,  يتهامسون  بأشياء  مبهمة  شديدة  الغموض فقررتُ  أن  أخترق  إحدى  هذه  الحلقات مهما كان الثمن

لقد  نفد  صبري  …..  من  زمن  وأنا  طفل  ,  كنتُ  نافد  الصبر ,  قليل  التروي , قليل

  الحكمة  ,  عديم  البصيرة  …  أقتحم  كل  شيء  كالبغل  دون  تقدير  علمي  للنتائج مهووس بالمشاكسة  والأقتراب من  النار حد الأحتراق , بل مأخوذ بالنار التي تشب بالمشاكسة وتحرق ,  وتفصد  عرق  الأنسان  ….

من  زمن ,  وأنا  طفل  ,  قال  أبي ( أنت  عفريت  ,  ,  ولست  من  سلالتنا ,

وصلتكَ بسلالة  العفاريت  أقوى )  ….  من  زمان  وأنا  طفل  ,  أبكيتُ  أمي  غير  مرة

بطريقة  غير  متعمدة  ..  كانت  إذا  رأتني  أختلس   النظر الى  جارتنا ,  بكت  ,  و إذا

ضبطتني  وأنا  أتلذذ  بأمتصاص  بيضة  , بكت …

  كانت  تطلب  مني  وانا  صغير  ,  أن  أصب  بعض  اللبن   في  الحفرة  المخصصة

للكلاب  ولكني  بدلا  من  ذلك  أحمل  عصا  غليظة  وأهوي  بها  على  راس  أكبر

تلك  الكلاب  بقوة  جنونية   …..  تبكي  .

في  سنة  من  السنين  تلك  , أخذني  هوس  مطاردة  الكلاب ….  أووووه

ما  أن  تبزغ  الشمس حتى  أعض  على ( دشداشتي )  وأطوف  في  تلك  الأزقة , وأمامي  تجري  بأقصى  سرعتها  عشرات  الكلاب   ,  يصطدم  بعضها  بالبعض  الآخر , وكأنني  عاصفة  هوجاء  تسوق  أمامها  سحباً  محملة  بالمطر  ..  كان  منظري  يثير  الرعب  ,

 وكانت  أمي  لا  تعرف  غير  البكاء كلما  سألها  أحد  عني  …..  كانت  تسقطني

  من  حسابها  عندما  تعد  أولادها  الآخرين  العقلاء   ….  كنتُ  مثيراً  للتقزز

  والرعب   …….   مرة   إستيقظتُ  فزعاً  ,   وقبل  أن  تمتد  يدي  الى  كسرة

الخبز  وإناء  الدبس  الأسود, عضضتُ  ذيل (  الدشداشة  )  وإنطلقتُ  مرعداً    بأتجاه تجمع للكلاب  على  مقربة  من  البيت , وما  أن  لمحني  بعضها  حتى  جن

  جنونه ,  وبدلا  من  أن   تهرب  هذه  المرة  منهزمة  أمامي  توجهت  إليّ

 غاضبة  ,  مرعدة ,  ولكني  بقيتُ  مندفعاً  ,  وإلتقطتُ  قطعة  من  الحديد ,

و أمسكتها  بيدي  اليمنى  وإلتحمتُ  بهذه  المجموعة  المسعورة  كفارس  مغوار ,  أضرب  ذات  اليمين  وذات  الشمال  وحي ( الشهوان )  كله  ينظر  إليّ

بذعر ,  وتقزز ,  وإستطعتُ  خلال  دقائق  ,  أن  أمرق  من  هذا  الجمع

المسعور , وأصل  الى  زوجين  من  الكلاب  كانا  هما  هدفي  ,  في  الحقيقة

  ظلا  في  مكانهما  …  يا  إلهي !!!!

كانا  قد  تزاوجا  في  الليل  وبقيا  مرتبطين   ببعضهما  إرتباطاً  عضوياً ,

وما  أن  بلغتهما  حتى  هويتُ  بقطعة  الحديد  على  مؤخريتهما  بكل  قوتي  الشيطانية  وسقطتُ  لعنف  الضربة على  الأرض  وإنغرزت  فيها .. سال  الدم

  وصرخ  الكلب  الذكر  وعوى  عواء  مرعباً  يشق  عنان  السماء ,  وركض

على  قدميه  الأماميتين  مسافة  قصيرة  ثم  سقط  على  الأرض ,  في  حين

قفزت  الكلبة  فوق  حائط  صغير  مجاور ,  وركضت مذعورة  فوق  أسطح  المنازل   ….  كان جسدي   يتصبب  عرقاً  عندما  عدتُ  الى  البيت  ……

رفعت  أمي  إناء  الدبس ,  وأشاحت  بوجهها  عني  .. وأخفت  دموعها

بفوطتها   …..

لم  أطالب  بكسرة  الخبز ,  بل  غفوتُ  في  الظل  ,  ولم  أستفق  حتى

الغروب  …  علمتُ  بعدها أن  الكلب  قد  نفق   …….

نافذة الى رحيل الظل

  كأنكِ  القمر  ,,  يسبح

في  بحيرة  الدموع ,,  هذي يدي

أتوكأ  بها  على  قلبي ,

وأمشي  إليكِ  ,,,  فأنتِ  الممنوعة

من  العشق  ,,  تدربي  على

الخيال  ,,   وحلقي  …….

إشتد  أزيز  الرصاص  وتعالى  دوي  إنفجارات  القذائف  الساقطة  بكثافة

على  حي  ( الشهوان )  …  كان  الدواعش   يتقافزون  من  بيت  لأخر ,

تلاحقهم  المروحيات  بصواريخها  والزوارق  المحملة  بالجند  الذين  راحوا  يمطرون البيوت  والنوافذ  بزخات  كثيفة  من رصاص بنادقهم  الرشاشة ,  الخفيفة  والثقيلة  ..

 تصاعدت  ألسنة    اللهب   وتكاثفت  على  أسطح  البيوت  هالات  داكنة

 من  الدخان الأسود  الكثيف  ….  لا تلبث  أن  تتبدد  ألسنتها   في  فضاءات  الحي  ثم

تتلاشى  ببطء  نحو  الغرب  …..

بقيتُ  وحيداُ  عند  جرف  النهر  ,  أرقبُ فزع  أسراب  النوارس  والعنادل

  والزرازير  والفخاتي والدراج والقمريات  والغرانيق    والحمائم  ترف  قلقة  الى

فضاءات  لا أفق  لها  .. ….

كانت (  أميرتي )  ترقبني  ,   كأن  رفيف  جناحيها  يمسح  هالة الحزن

والفراق  التي  راحت  تخفي  باصرتي عنها  وظلها  يتلاشى  في الأفق

المديد   ……

لمن  أسرد  كآبتي  و أوجاعي ..؟؟

الكل  الى  رحيل  ……

رحيل  يسيل  نزفه  من  شفق  الأصيل  ………

أتأبط  متاعي  وأرحل  من  الفلاة  الى  فلاة  ,  ولا  أبتأس  ,,  فسقف  السماء  يظلل  آلاف

الغرباء  ,,   والمصابيح  الدنيا  تضيء  الغابات  والضفاف  ولجج   ( دجلة )  الصامتة  ,,  تأنس  وحشة  النازحين  والهاربين  من  بطش  ( الدواعش  )  وحمم  المدافع  وصواريخ  المروحيات  الغادية  والآيبة  ,  الدانية  والقاصية  …

الغابات  الشامخة  على   الجانب  الأيمن  لنهر ( دجلة )  ,,  ستحنو  عليّ  مثل  أمي

و ( نورستي )  ,,  ولسوف  تقص عليّ  يوماً  ما  فصلا  من  فصول  مدينتي  المنكوبة  ونهرها  الحزين  ومراتع  الأنعام  في  كل  واد    وجرف   وضفة   ….

أتأبط  متاعي  وأرحل  ,,  فأنا  بغير  ( نورستي )  وحنو  أمي  لا شيء   ….

دموعي  تهمي  كالمطر   ,,,  فأنا  لا شيء  بغير  حزن ولا  ألم  وأشجان  ودموع  ..

أنا  لا شيء  بغير  قلب  (  نورستي ) الذي  وسع  من  لم  يسعه  شيء   ……

هكذا  أنا  ,,  ولدتُ  وحيداً  ,  وأعيش  وحيداً  , ولسوف  أموت  وحيداً  على  ظهر  كوكب  في  ملكوت  الله  الواسع   …..

وللحكاية  بقية   ,,   حتى  تنهض  مدينتي  ويصبح  الكل  في  واحد ,  فقد  منحنا  الله

القلب ,, لكننا  أضعنا  المفاتيح , وها  نحن  نعيش  أحراراً  ,, ولكن  في  سجن  كبير  ..

طيف  خفي , ملامحه  وأبعاده مشوهة , يمرق  غفلة  أمام  باصرتي ….  يدغدغني  بأوهام

 أفهم بعضاً  منها  وتتيه  بقيتها   مني  ..  أجول  في  واحة  مديدة  الحافات  ..  أهو  الغد  المجهول  في  جماجمنا  قديما ؟  ..  في  أي  الضفاف  ..؟؟  أي  ساحرة  أجازته  القوافي  ؟  ..  فأنقلب  الستار  في  يدها  وتاه  بين  ماض  وآت  …

إني  لأسمع  تأريخي  الجديبا  …  يرن  مغزله  القديم في  جعبتي  ….  أشاهد  من  بعيد  (  هيلين  )  ضائعة  تنادي  ريح  ( طروادة  )  السليبة  …

أخال  أن  جنياً  ضخماً  ,,  كان  يطير  الى  تلك  الجبال  البعيدة  ..  عند  آخر  الدنيا  ,,  يجمع  حجارتها  وصخورها  على  عجل  ,  ثم  ينقلب مسرعاً  وينخرط  في  رصفها  حجرا  على  حجر , حتى  إستوى  لديه  هذا  الصرح  الرهيب , وتأمل  نوافذه  وأبوابه  الثقيلة  الضخمة , لكأنها  السدود  في  مضايق  الأنهار,  أنظر إليه  كيف  يبدو  لعينيّ  من  بعيد  ,,  وهو  يعتم  أطراف  السحاب ,  والضباب  يلفه  بأضوائه , فكأنه  مبني  على  تلال  الشفق  …

أراه  من  مكاني  البعيد  , يطل  مزهواً  بقامته  على  بحيرة  واسعة  صنعها له  (  دجلة  الخير )  ومن  خلفه  بساتين  الكروم  والمشمش  والتين , مسيجة  بأشجار  الصنوبر  والصفصاف  والسرو  ..  أنظر  الى  حراسه  وخدمه  يروحون  ويجيئون  ممتلئين  بغبطة  المكان  ,,  ربما  كان  بعضهم  يحمل  أطباق  الطعام  والحلوى ,,  وبعضهم  يحمل  مزهواً  أوعية  النبيذ  وكؤوس  الشراب  …

تلك  الغادة  الفاتنة  ,,  وذاك  الرجل  الوسيم  ,  وتلك  وهذه  وهذا و هؤلاء …. إنهم  جميعاً  يرقصون  وهم  فرحون .. ولكن  هل  تراهم  سعيدون . .. ؟؟ ,  ربما  !!!

أخذ  متاعي  يا  ( نورستي )  وأرحل  ….  لا رفيف  لأجنحتكِ  بعد  اليوم  ,,  ولا  دغدغة    من  منقاركِ  الحبيب  …

أخذ  متاعي  يا  (  نورستي )  وأرتحل  …

أغبط  نفسي  على  وحدتكِ   ,,  فأنا  بغير  وحدتكِ  لا شيء , تكفني عيناكِ لأرى بهما العالم …  فالدفء  هو  البحث  عن  النور  في  عينيكِ  .. وكلما  رسمتكِ  باصرتي  ..  يتدفق  ( دجلة ) جديد في  رأسي  فتبتل  ورقتي … فأنتِ  الوحيدة التي تمشي  حرة  بين  سطوري .. لقد تركتُ  قصيدة  ملثمة  تحت  ريشكِ  الناعم ,, لأنكِ  وحدكِ  تجّملين  الخيال , ولأني أخشى  على  النص  أن  يذوب  في رفيف جناحيكِ ,  كأنكِ  فراشة  ما  بعد  المطر ..  و( نورسة )  تجيد  حياكة  الريح  على  ريشها …. حين  تسمعين الناي , تذكري لوعة القصب  , فثمة أمير  يغني  من  بعيد  ….

أنا  لا شيء  بغير  حزنكِ  وآلامكِ و أشجانكِ  ودموعكِ  التي  تهمي  كالمطر   …   أنا  لاشيء  بغير  قلبكِ  الذي  وسع  من  لم  يسعه  شيء , لن يراكِ أحد بعد الآن ,  لقد  أخفيتكِ  داخل  لغتي ,, و سأبقى أنتظركِ  حتى  آخر  الشمس  …  ربي أحييني  حراً , وأمتني ميتة الأحرار الأبرار .. سأرحل  من  فلاة  الى  فلاة  .. فسقف  السماء  يضلل  آلاف  الغرباء

… والمصابيح  الدنيا تضيء  البوادي , وتأنس  وحشة  المسافرين والراحلين الى الجبال الشامخات , والتلال  النافرات  كالأمواج , تحنو  عليّ مثل أمي  .. تداهمني ( نورستي ) كعادتها  … أين  يا  أنا ..  يا  أين أرتحل  ؟؟ ….

للوصية  بقية   ,,,  تأتي  من  بعدي ,  عندما  ينتشر  الجمال ,,  ويحل  على

  الأرض  السلام  وتنطفيء  الشمس  ,,  فحرائق  الأرواح  ,  تفضحها

حرائق  العيون  …..

أبقى  جالسا  على  جثتي  ,,  أفكر  بكِ  ..  لم  تبقَ  في  الألبوم  غير  أشباح

الصور  ,,  بغيابكِ   ينقص  العالم  ( نورسه )  ,,    أطفأت  القمر

  بلمسة  واحدة  من  جناحيها , فأصبح  النور  في  وجهها وليس  في  القمر  ….

كنتُ  أرى  جمالاً  قديماً  لا تخطئه  العين  بجريان  النهر  الذي  لم  يتوقف  …  هكذا  تأتي  الأصوات  ,,  وهكذا  تروح  …

هكذا  تحط  النوارس  وأسراب  الطير وترفرف  مذعورة   ….   هكذا  كبوح  (  نورسه )  إختارها  الجمال  عشاً  له  ….

لم  تكف   الحمامات  والنوارس  عند   الصباح  عن  الهديل   ….  ظلت  تسأل  ,  وأنا  أنظر  إليها  بحيرة  …  كنتُ  مغالياً   في  يقيني  جماليات  ريشها  القطني  الجميل  ..

بجروح  طفيفة  ,,  لجأتُ  لسكوت  منصت  منصف  ..

كانت (  نورستي )  رشيقة  كشجرة  خريفية  إعتراها  قطن  السماء  …  إرتقت  أغصانها  العارية  جمالاً  عن  أزهارها  ..

رأيتُ  سماءً  زرقاء  ….  لا أدري  إن  كانت  أول  مرة  أرى  فيها  السماء  زرقاء ,  أم  أن  الزرقة  كانت  مختلفة  ,,  أم  أن  السماء  نفسها  مختلفة  ,,  ولكني  أعلم  تماماً  بأن  شيئاً  كان  مختلفاً  ,,  بأنها  على  الأقل  ليست  السماء  ذاتها  التي  أمضي  شتاتي  تحت  ناظرها  وقبضتيها  الواطئتين  ,,  ولا  حتى  إحدى  إمتداداتها  …….

كشهقة  عشق  كانت  ..

تكاد  تنتهي  قبل  أن  تبدأ  ,,

تحوم  حول  الرعشة  لتصلها  أخيراً  ,,  جميلة  هي  حين  ترتل  ,,  وجليلة  حين  تصمت  ليتسرب  خوفي  من  بين  همساتها  …

لا أدري  لماذا  ألاحق  الليل  الى  عوالمه  اللاحقة  ,,  وأنا  أعلم  أن  الصبح  أسرع  إليه  مني  …  أبقى  حيث  أنا  ,,  أبحث  عن  شيء  أعشقه  في  هذا  الصباح وإن  كان  كأس  ماء  ….  أترك  لليل  ساكنيه  ,,  يرتلون  عشقهم  كما  يحلو  لهذا  العشق  أن  يسهر , وأترك  للصوت  أوتاراً  يهتدي  بها  …..

أرمي  السماء  بأوراقي  وهمسات  بهت  حفيفها  ولا  موسيقى  لأسطرها  …  أترك  البرتقال  يزهر  في  أغصانه  وأحمل  أشيائي  بعيداً  أو  أتركها  حيث  أنا   …..  أتعّلم  أن  لا  أعشق  ثاتية  …..  أتعوّد  أن  أبكي  بعيوني  وفمي  وأصابع  كفيّ  ,,  لا  بصوتي وأن  أسدل  أحبالاً  من  دموعي  أروي  بها  صمتي  الأحدب   ……

رائعة  كانت  (  نورستي )  …

جميلة  حين  يبتسم  النهر  برفيف  جفنيها  كلما  إشتهيتُ  السجود  على  جناحيها  وكلما  إنسكب  هديلها  في  شراييني  ….  كان  هديلها  يرقص  على  اللحن  إذا  غنّت  ,, وإذا  تكلمت  ,  كالخاشع  كنتُ  كزيتونة  رومية  تنحني  …

(  نورستي )  إحتار  الأوان  متى  يؤونها  ….    يبقى  الليل  ليلاً  لأجلها  ,,,  وينسى  الصبح  أن  يطلع  ….. كأن  إعراب  عينيها  ,,  فيهما  المبتدأ  والخبر  …..

أصرخ  في  صمت  كما  أشاء  ,,  لم  أشكو  لأحد  صمتي ….

أتألم  إن  تماديت  ,,  أرتل  حزناً  ,,  ولكن  ..  لوحدي  ,,  أمامي  الكثير   من  السنين  ..  أعيدُ  ترتيب  أولياتي  ,,  البعض  منها  تبعثر  ,,  والبعض  رفّ  مع  جراحات  المدينة  ,,  سأنقش  إسمها   في  السماء  و  على  القباب و المآذن وأسطح  البيوت و الكنائس  والأسواق  القديمة ,,  وألملم  الريش  الساقط  بعد  كل  زمن  ,,  أرشه على  هامتي لأنتشي  به  قليلاً  وأعلن  للسماء  زهو  ( نورستي )  وبهاء (  مدينتي )  رغم  خرابها  …..

( دجلة )  لي   ,,,,

وتلك  الأشجار  الباسقات  لي

وذاك  الحجر   والحصى  لي

الشط  لي  و الضفاف  لي

فلا  تقربوه  ,,,  إرحلوا

لن  يجف  دجلة   في  مدينتي  ,,

ولن  أكف  عن  إرتكاب   الأقسى و الأفدح  ..

جراحي  تلعنني  إن  تركتُ  مساحة  لآثامكم  ترقب  باصرتي ,

إرحلوا   ……..  إرحلوا   ……  ستبقى ( الشهوان )   لي    ,,  ولن  يجف

(  دجلة  )  ,,   مدينتي   هي  العمق  فيه   ……………

 إبراهيم  سليمان نادر

الموصل / محافظة نينوى / العراق

موبايل : +9647503773000

9647701606057               +

E – mail:  alnadir505152@yahoo.com

  • عضو الأتحاد العام للأدباء والكُتّاب في العراق .
  • عضو اتحاد الكُتّاب العرب .

.          عضو   الجمعية  العراقية  للتصوير  ..

.        عضو  إتحاد  المصورين  العرب  ..

  • عضو شرف دار ( ناجي نعمان) للثقافة / بيروت / لبنان/2012
  • نال درع ( محافظ نينوى) للأبداع في القصة والرواية وفن الفوتوغراف لعام / 2012
  • نشرت قصصه ومقالاته في أغلب الصحف العراقية والعربية وفازت قصته (أصداء الوجه الآخر) بالجائزة الثالثة لأدب الحرب في مجلة حراس الوطن عام 1988.
  •   فاز بالمركز الثالث بمسابقة (نجلاء محمود محرم) الدورة السادسة / القاهرة / مصر / 2006
  • فاز بالجائزة الثانية لمسابقة (أسرة أدباء المستقبل) عمان / الأردن / 2008..
  • نال ميدالية الأبداع بالجائزة الثانية لمسابقة (صلاح هلال) للقصة القصيرة /القاهرة / مصر/2012
  • فاز بجائزة الأبداع في مسابقة (ناجي نعمان) العالمية / بيروت / لبنان / 2012
  • فاز بجائزة مركز (عماد قطري) للأبداع العربي الروائي / القاهرة / مصر / 2012
  • فاز بالجائزة الأولى في مسابقة (ناجي الساعاتي) لأدب الرحلات / الدورة الرابعة / بغداد / 2013

.   سفير  الأدب  العربي  في  العراق / 2020  .

.   فاز  بالجائزة  الثانية  في  مسابقة ( الأبداع  العربية )  للقصة  القصيرة  / 2020  .

صدرت له المؤلفات الآتية  :

  1. (في الغسق عادت عروس البحر) مجموعة مشتركة عن دار الشؤون الثقافية / بغداد / 1988.
  2. (قصص تحت لهيب النار) الجزء العاشر / مجموعة مشتركة عن دار الشؤون الثقافية العامة / بغداد  /  1990
  3. (عيسى برواري الفنان والأنسان) عن دار الثقافة والنشر / بغداد / 1993.
  4. (الكلب هذا الكائن العجيب) عن دار الثقافة للطباعة والنشر / الدوحة / قطر /1998 .
  5. (قصص من نينوى) مجموعة قصص مشتركة / الجزء الأول / 1999 – الجزء الثاني / 2000 الجزء الثالث / 2001 ـ الجزء الرابع 2002 – الجزء الخامس 2003.
  6. (أمير الطيور) عن دار الثقافة للطباعة والنشر / الدوحة / قطر / 2001.
  7. (عودة الرجل السابع) مجموعة قصصية عن دار الشؤون الثقافية العامة / / بغداد 2002
  8. (الطحالب) مجموعة قصصية عن إتحاد الكتّاب العرب / دمشق / سورية / 2004.
  9. (مرافئ ضالة) مجموعة قصصية عن دار الشؤون الثقافية / / بغداد / 2005.
  10. (مبلل بالحزن) مجموعة قصصية عن دار السوسن / دمشق / سورية / 2006 .
  11. (بسمة لكل الفصول) مجموعة قصصية عن المديرية العامة لتربية نينوى /2010.
  12. ( عطش الحمائم ) رواية عن الهيئة العامة لقصور الثقافة / القاهرة / مصر/ 2013

13 . (هذا اليّم من أنسجتي ) رواية عن دار كنوز / القاهرة / مصر /2015.

  1. (مرفأ لا يتسع للحب ) مجموعة قصصية عن دار كنوز / القاهرة / مصر / 2015
  2. (سندريلا بلون الشقائق) رواية عن دار غيداء / عمان / الأردن / 2018
  3. (نصف نافذة تكفي ) مجموعة قصصية عن دار فضاءات / عمان / الأردن / 2016
  4. ( مسحوق الكلب ) مجموعة قصصية عن دار فضاءات / عمان / الأردن / 2016
  5. ( ثمة ناي يغني ) نصوص نثرية عن دار فضاءات / عمان / الأردن / 2016
  6. ( نهر الأباطرة ) رواية عن دار فضاءات / عمان / الأردن / 2016
  7. (هند إبنة المطر ) نصوص نثرية عن دار فضاءات / عمان / الأردن / 2016
  8. ( أغلق نافذتي ) رواية عن دار فضاءات / عمان / الأردن / 2016
  9. ( أنفاس إنجي ) نصوص نثرية عن دار فضاءات / عمان / الأردن / 2016
  10. ( إليكِ يرفُ نبضي ) رواية عن دار فضاءات / عمان / الأردن / 2016

24 . ( ضباب أنثى ) رواية عن دار فضاءات / عمان / الأردن / 2016

25 . ( إطار لقلب في الظل ) مجموعة قصصية عن الدار للنشر / القاهرة / 2016

26 . (  فوق  سحابة  تمشي )  نصوص نثرية عن دار فضاءات / عمان /  2017

27 . ( لا أحد  في  الحي )  رواية  عن  دار فضاءات / عمان /  2017

28 . ( طليق أنا  مثل  وجه  الحمام )  رواية عن  دار فضاءات / عمان/   2017

29 . ( عطش  الحمائم ) رواية  عن دار  فضاءات /عمان / الأردن / 2020

مشاركة