الشعر والأنواع الإبداعية

تأملات

الشعر والأنواع الإبداعية

باسم عبد الحميد حمودي

بغداد

يعد الشعر بعامة تجسيدا دراميا في جزء منه حتى لو حاول الشاعر أنكار ذلك ساعيا وراء اثبات التجريد المطلق (!؟) في بعض من محاولة الشعر الى أختراق اللغة المألوفة باللغة ذاتها ، ذلك عبر أخضاعها الى هيمنة الابداع المجرد.

يشير البيريس في كتابه (الاتجاهات الادبية الحديثة) الى محاولة الرمزيين (توسيع) الشعر بالموسيقى، وأن بول فاليري صنع ذلك بربط الشعر في (فاوست) بنشاطات أبداعية أخرى مثل الموسيقى والهندسة المعمارية. أن في ذلك سعي لاعادة ربط الشعر بالانواع الاخرى من حيث الحسي المجرد -الموسيقى- بالتشكيل المجسد -المعمار الهندسي – وهو في محاولته هذه لا يضع الشعر وحيدا بل يطوقه بمنظومتين ابداعيتين اخريتين خارج السعي نحو الابداع المجرد.

على عكس محاولة فاليري في (فاوست) سعت الحركة الرمزية -مظهريا – نحو المطلق التجريدي فيما حاولت التكعيبية بعد ذلك كسر اتجاهات الشعر القديمة بالسعي نحو بناء عالم تجريدي جديد، لكنها في تحركها هذا توزعت وتشتت لتسلم الراية الى المحاولة الثالثة،بل التجربة الثالثة (شعريا) في سعي الشاعر  نحو بناء المطلق الشعري الذي اصطدم بعد حين بالتجربة المستقبلية. اننا نتحدث لا عن الشعر كبينية ابداعية بعامة لم تشغله تجارب التجديد الطاغية مظهريا فكثير من الشعراء لم يركبوا موجات التغيير و كما يحدث في كل عصر وأوان.

 صدر بيان المستقبلية في العشرين من شباط عام 1909 في صحيفة الفيغارو موقعا من :مارنيتي، في محاولة منه لشق عصا الطاعة على حالة الانسجام في الشعر ،وذلك بالخلط الفج للغة الشعرية بالنترونات والالكترونيات المبنية اساسا على التجريد الرقمي  في الرياضيات  في محاولة منه للوصول الى تلك المازنة بين وضع القانون العلمي وتنفيذه على الطبيعة.

لم يكن ذلك واجب الشعر بالتأكيد،رغم أن المستقبلية حاولت ذلك وحاولت قبلها الدادائية والسريالية والتكعيبية التدخل في شؤون الطبيعة الشعرية، عبر سعي الشعرية المفترضة الى كسر قيود الشعر بالتماهي مع الانواع المعرفية الاخرى  بأتجاه تحسين اللغة الشعرية وجعلها اكثر أحاطة بالعالم الاخر الذي حول الشعر !

 أن ذلك الصراع بين التجسيد والتجريد قد أقلق النظام الشعري وجعله يصطنع الموجات التغييرية المتعددة وصولا الى الغاية المثلى للشعر في أن يكون جميلا وأنسانيا معبرا عن روح الانسان المعاصر (وهذا أفتراض قد لايقبله شاعر مهووس باللغة الشعرية وحدها).

 ان التجريد عند البعض أعلى آيات الابداع في الفن، اذ تطلب انتقال اللوحةالتشكيلية  من حالة الرسم العادي الناقل للأصل الى حالة التجريد قرونا، وقد تطلب أنتقال السينما من حالة التجسيد الكامل للحدث الى الايحاء بالحركة والموسيقى وبالاشارة المقصودة تجريديا، بأستخدام الكاميرا لتصوير أوراق غاب متساقطة على الارض  في اشارة الى مضي الزمن فيما شكل اللعب بالصوت والضوء في (راشمون) و(الطيور) نوعا من التجسيد الكلاسيكي المتعب الموغل في التجسيد لاالتجريد لحيوية الحركة السينمائية على اختلاف توجهي الشريطين والمخرجين.

 قديما، خاض علماء الرياضيات العرب معركة التجريد في الرياضيات المكتوبة (أو ما اسموها آنذاك : الحساب  الغباري) ثم تطور الامرفيما بعد الى استخدام الحساب الهوائي (الشفاهي) في العمليات الحسابية السريعة،أما تلك التي تتطلب تجريدا لا احساسا عمليا واضحا فقد دخلت ضمن الاوراق (بداية) ثم ألآت الحاسبة (فيما بعد) بحيث أزدادت كتلتها الرقمية لتتحول رموز الارقام الكبيرة الى حروف (بحيث يتم التعشيق بين الرقم والحرف المجرد الذي يعني هنا كتلة رقمية حيث المليون قد يعني (ص) والمليار قد يعني (م) افتراضا وبالعكس) ليكون هذا التعويض أكثر أستجابة لحركة المسألة الرياضية للوصول للغاية العلمية أو المصرفية.

هنا كان التجريد للوصول  لا الى أرضاء العقل علميا فقط بل للافادة منه على صعيد الواقع، فهل هناك دورة حياة متكاملة : تجسيد- تجريد – تجسيد؟ هل نستطيع القول أن التجريد هو فن أزالة الزوائد وصولا الى الهدف بأصعب السبل عقليا ؟ قد يكون ذلك وقد لايكون :

 في الموسيقى  تقوم النوطة بتجسيد فعل الاوامر التي ستعطى للآلة بواسطة العازف والكوندكتر لأداء الصيغة الصوتية المطلوب سماعها، وأذا كانت الموسيقى هي الصوت التجريدي الواضح لفعل الكلام فأنها كلام بلا حروف يؤدى بصوت الآلة وقدراتها وباشراف الانسان الكاتب لكلماته وصوته بواسطة النوطة.

 أختار الانسان هنا أن يضمر صوته البشري الخاص، صوته كفعل،ويضعه في الموسيقى باعتبارها الصوت التجريدي الاصفى.

 من جهة اخرى، حاول بعض الشعراء في هذه المدرسة أو هذه الموجة التقليل من شأن الكلمة المدونة للوصول الى التجريد الاصفى، التجربد الاسمى، فاستخدموا الكولاج مع الجملة الشعرية اولا، واستعانوا بالصورة والملصق للوصول الى غاية دقة التأثير، لكن الشعر في سعيه نحو المطلق  التجريدي لايمكنه الوصول الى هدفه بالتخلي عن وسيلته التجريدية الصافية وهي الكلمة – أو أضعافها للوصول بوسائل اخرى الى كمال التأثير -، انه لن يكون شعرا، رغم أنه يسعى الى الالتقاء دوما بالموسيقى الخارجية (اليس الشعر موسيقى لغوية ؟!) وباللوحة وبالكاميرا السينمائية وبترك مساحات بيضاء، لكن كل الانواع الثقافية  لن تكون وهي تسعى الى التجريد عن طريق التخلص من زوائدها للوصول الى حالة الايحاء المطلق الا مجسدة لفكرة او هدف، لذا فهي محكومة   بالتجسيد في سعيها الدائب الى التجريد شعرا  أو سواه.

 قد يقول قائل أن ذلك لاينطبق على الموسيقا او اللوحة ولكن الواضح أن التجسيد هنا يتوهج من داخل العمل الفني فهو الذي يوصل رسالته بوسيلته،فما (عنترة) كورساكوف الاحكاية موسيقية اوبرالية وما الرابسوديات الاموسيقى تجسد حالات القلق أو الفتوة أو الانبهار أو العاطفة الجياشة، وما التجريد في اللوحة  المنسوبة الى هذه المدرسة الا حالة تكوينية تجسد غايةأرادها الفنان على هذه الشاكلة دون سواها،  والامر يستحق الحوار على كل حال.

مشاركة