الشعر بين البنية الدرامية والخروج عليها
باسم عبد الحميد حمودي
بغداد
عندما كسر فكتور هوغو الوزن الاسكندراني الذي كان ينظم بموجبه الكلاسيكيون وهو (الدرج الخفي) في مسرحية
(هرناني) التي قدمت على مسارح باريس في 25 شباط 1830، كان يحاول البحث عن شكل شعري جديد ليعبر عن أفكاره دون أن يبحث عن التغريب.
وأذا كان رامبو قد مارس الهلوسة الشعرية كما يعترف في (سيمياء الكلمة) عن طريق التشويش المنهجي للأشياء في سبيل البحث غن نقاء شعري، فأن التضاد داخل البناء الشعري عند آرتور رامبو يخلق عاما دراميا أشكاليا، كما أن منافحة فاليري ضد الفكر الحيوي وتحويله الى تجريد لم تكن الا دفعا لشعره الى احضان نوع ابداعي ىخر تقترن فيه الموسيقى بالهندسة المعمارية.
كان هؤلاء ومعهم ابولينير وماكس جاكوب وبيكاسو مجموعة من الدراميين الجدد، هم دراميون بلغة جديدة فهاهو أبولينير يغلف واقعيته الدرامية بأردية رمزية أذ يقول في (اغنية اللا محبوب):
ما أبطأ الحياة
وما أعنف الرجاء
قلبي ورأسي بفرغان
السماء كلها تنساب من خلالهما
يا قلبا لا يفعمه شيء
ما العمل لأكون سعيدا
كطفل صغير طيب
…… هكذا تستطيع – بمساعدة ترجمة جورج طرابيشي المتقنة – أن تتغلغل الى أعماق هذا النص القصير لتجد الصراع داخله لتصل الى القول بعده: أن كل محاولة للخروج على التضاد داخل عالم الواقع والانتقال الى التجريد في سبيل كسرحركة الواقع شعريا كانت ايغالا في صورة الواقع المتضاد الذي عكس صخب جنونه ولا معقوليته عبر السريالية والتكعيبية والرمزية والمستقبلية (المجنونة بواقع آخر) وسائر المدارس التي تحاول التضاد مع الشعر المألوف، الشعر الدرامي.
لقد استخدم اراغون في (نشيد الى ألسا) لحن الفالس ووزنه ليبني به قصيدته لحبيبته السا، وكان واقعيا تماما في هذا العرض الشعري الراقص الحافل بروح الدراما، وقام بمثل ذلك في قصيدته (السا أحبك) والتي قال فيها مكررا المقطع الاول كلازمة بعد كل مقطع:
في ثنايا القبل
تمر الاعوام سراعا
تجنبي تجنبي تجنبي
الذكريات المحطمة
آه من فصل بأكمله طاب العيش فيه
مجنون حبن أعتقدت أن بوسعي
أن جعلك سعيدة
السماء لاتتغير نسبة لعازف البانو الشاحب
الذي يغني بضع كلمات هي نفسها دوما
والبرد كان قد عاد في المساء
والقلب تأخر
وأذن لا نجاح للشعر في أن يكون شعرا الا بالدراما الداخلية، الدراما المنطلقة، المصممة من أبيات القصيدة لتصافح الواقع أو ترفضه، لكنها-في كل الاحوال – ترقص على أنغامه، ولا حياة للشاعر الا بالاتكاء على نمو الواقع اتكاء رافضا او موافقا حيث يتصنع داخل القصيدة ذلك التضاد الحيوي بين رؤى الواقع ورؤى الشاعر.
لقد حاول بعض الشعراء تثليج الشعر،تجريده من واقعه ووضعه في مجمدة أو في غرفة مفلترة السطح والجوانب، معزولة بالفلين عن صوت الواقع الى زمن يعاد به فتح الغرفة أو اخراج الشعر المجمد من مكان التجميد لتعاد له الحياة، حينئذ يكون العالم – ربما – بلا مقهى وبلا مشاة في الشوارع وبعواطف وحشية وربما بعواطف اكثر شجنا تدفقاً، لكن العالم ليس هو العالم المألوف، العالم المبتغى، لكن الدراما ستفرض ذاتها ولن يستطيع الشعر الانسحاب من منبر الحشد الى نار المدئة لينزوي عندها كائنا بلا روح.
واذا كان البعض اليوم يرفض الواقع بالخروج عليه (أو التظاهر بذلك) فأنه يغوص في أعماق واقعه، فالواقع مترع بألاحاسيس المتضادة والرؤى المتشابكة المختلفة المعايير والمنطلقات.
فليحتج الشاعر المعاصر على العالم لكنه لن يكون الا وسطه أو في خضمه ولن يعمل الامن أجله ما دام أسيرا لممكنات اللغة وممكنات التجربة الحياتية وحدودها.