الشاعر والمترجم بشار عبدالله لـ الزمان
الرواية الشعرية.. حيرة المصطلح وقلق التركيب 1
حوار حكمت الحاج
يعد الشاعر بشار عبد الله واحدا من أبناء جيل التسعينات الشعري في العراق. وهو إلى ذلك مترجم وروائي. فقد أصدر عن دار فضاءات للنشر بعمان عام 2008 الترجمة العربية الأولى لكتاب الآيجنغ الصيني الشهير بكتاب التغيرات. ونشرت له دار هاتس أف تكسن في أمريكا الترجمة الإنكليزية لرواية د. فاتح عبد السلام عندما يسخن ظهر الحوت عام 2003 وفاز كذلك بجائزة الاستحقاق في الرواية العربية لعام 2005 ضمن جوائز مؤسسة ناجي نعمان الأدبية ببيروت عن روايته الشعرية من يسكب الهواء في رئة القمر . وستصدر له قريبا مختارات من الشعر الأمريكي المعاصر عن سلسلة آفاق عالمية الصادرة عن وزارة الثقافة المصرية. كان لـ الزمان معه هذا الحوار حول مفهومه للرواية الشعرية تنظيرا وممارسة ونقده للمصطلح وتبيان ثباته في الفضاء الثقافي العربي
ترى ما الرواية الشعرية؟ كيف ترى إليها؟ وكيف نحدُّها ونموضعها في سياقها التاريخي والأجناسي في ظل ثقافتنا العربية الراهنة؟
ــ بدءاً علينا تجاوز ما يعرف في الغرب بمصطلح Verse Novel الذي يعني نوعا من الشعر السردي الذي يصار من خلاله إلى إنشاء سرد روائي طويل، بواسطة مقطعات شعرية ــ بسيطة أو مركبة ــ موزونة، وتحتضن وقائع كبرى، وأصوات متعددة، وحوارا وسردا ووصفا وإثارةً، بأسلوب روائي. الرواية الشعرية عندي هي بدعة شعرية عربية، وبذلك فالمصطلح عربي غير وافد عبر الترجمة، وبالتالي له منظومته المنفتحة فكريا وفنيا، وهي بذلك، أي الرواية الشعرية تعني قائمة مفتوحة لا مغلقة من استراتيجيات الكتابة الشعرية بالنثر إن صح التعبير بهذا الوصف.
ولكنك بهذا التوصيف تجعل من الصعب الركون إلى أعمال أدبية عربية اليوم تحمل صفة الرواية الشعرية؟
ــ على حد علمي وبالمفهوم المطروح سابقا لا يوجد عمل يستحق هذه التسمية. وعلى مستوى المصطلح بالمفهوم الموضح آنفا لا يوجد ولم ينشر أحد عملا منحه هذه التسمية أي الرواية الشعرية، في أدبنا المعاصر.
استراتيجيات الكتابة
لنتفق على سبيل الجدال إن الرواية الشعرية بمفهومك هي بدعة عربية ونوع أدبي غير وافد إلينا من الثقافة الغربية، وإن كان الأمر فيه نظر من جهتي على الأقل، لكن دعني أسألك في الحالة هذه فمن أين تستقي الرواية الشعرية مصادرها إذن؟
ــ أعتقد أن ما تحدثتُ به عن الرواية الشعرية مصطلحا وكتابة ينفي وجود مصادر، هذا إن كان سؤالك عن المصطلح واستراتيجيات الكتابة. أما مضمونيا فالمصادر متعددة أفقيا وعموديا، أي من الأدب والفكر والفلسفة والأديان، ومرورا بعلوم الغيبيات كالرمل والأبراج والتنبؤات، فضلا عن معطيات تجارب الحروب والحصار، وهي معطيات ثرة.
إذا كان هذا هو المنطلق، فالرواية الشعرية بوصفها بدعة شعرية كما تقول أنت، تجعل من الرفض المسبق للأجناس الأدبية من شعر وقصة ورواية ومقالة الخ مذهباً لها، أليس كذلك؟
ــ نعم وهذا صحيح تماما. المنطلق هو الرفض ومن ثم العبور إلى بداية التعلم، إذ أننا لكي نعرف ما نريد علينا أن نرفض ما لا نريد، ولأن الرفض أكبر من القبول والمسايرة، فالبدعة تصبح فضاءاً جديدا يرفض التجنيس، لأنه ينطلق من التشكيل بوصفه عملية لتوليد الأشكال، وليس من الشكل المكرور.
هل من الممكن أن توضح لنا كيف تتم هذه العملية؟ هل هناك من استراتيجيات خاصة يجب أن يعتمدها كلُّ خائضٍ في بحر هذه البدعة المسماة بالرواية الشعرية على حد توصيفك؟
ــ إن استراتيجيات الكتابة الشعرية المعتمدة في الرواية الشعرية عندي واضحة ومحددة، وإن من أبرزها التهجين، وأسطرة الواقع، وتوقيع الأسطورة، وتشعير خلق الشعرية الجوهر التأملي للتجربة الإنسانية. وهذه الاستراتيجيات لا يمكنها لكي تحقق اشتراطات البدعة أن تكون منفلتة، بل لا بد لها من أن تختط مسارا بعينه، وهذا المسار هو التحليم بمعنى رفع النص إلى مستوى الحلم الذي يستند بكل رمزيته المتطرفة أحيانا، إلى بؤرة الإنسانيّ في التجربة.
ما معنى ذلك؟ هل تعني إن الكتابة في الحالة هذه ستكون بلا شكل متعارف عليه وفي الوقت نفسه تبحث لها عن شكل مميز نتيجة تلك الاستراتيجيات الآنفة الذكر؟ كيف يستوي ذلك؟
ــ بالطبع لا.. وإنما بمعنى أن لا وجود لشيء اسمه شعر موزون ولا لشيء اسمه شكل فني قار. أما لماذا؟ فلأنه كما سبق أن قلت أنني أطرحها بدعة شعرية، من معطيات المغادرة في الكتابة، وهي مغادرة لا بمعنى الحركة في المكان، بل بمعنى الموطئ في الحركة، وهي تتحول كما قلنا في وثيقة المغادرة بكتابنا ــ أنا وزميلي الكاتب سعد محمود ــ الموسوم ألقاب الجمجمة ــ 1995 إلى نقطة تفتيش تعلن للخطابات كلها لن تمروا قبل تأويلكم، فلا الغيبيات، ولا المسلّمات ولا البديهيات، ولا الموروثات تمنحكم بعد الآن تصريح انتهاكنا .
دعني أسألك عن المغامرة. فما الذي دعاك إلى خوض هذا الغمار؟ أهي الموضة والتظاهر أم الضرورة؟ أما كفاك الشعر وسيلة للتعبير؟ أم تراك أتيت الأمر من النثر وليس من الشعر؟
ــ بادئ ذي بدء أنا شاعر، ولحسن حظي إنني أنطوي على شيء قليل من صفة الرائي، ولا أقول إنني أتوافر على حظ كبير من هذه الصفة النادرة، وأما خوض هذه التجربة فيعود إلى محاولات سبقتها فيما أسميناه القصاصة و المقصوصة وكنت أنت يا صديقي حكمت في جريدة الجمهورية أول من أفرد لنا مع الشاعر عبد الزهرة زكي في منتصف العقد التسعيني صفحة ثقافية كاملة لنصوصنا التي حملت المصطلحين، وكان ذلك وما زال يمثل لنا معجزة. ففي ذلك الوقت وعيت مع زملاء لي من شعراء نينوى ومحافظات أخرى ضرورة إعادة النظر في الممارسة الأدبية كتابة ووعيا معا، خصوصا بعد أن غزا ساحتنا العراقية تحديدا عكوف كبير على كتابة قصيدة النثر، حتى اختلط الحابل منها بالنابل، لأسباب عدة منها مثلا أنه كما هناك تقليد في الأشكال الشعرية الأخرى الموزونة عمودية كانت أو تفعيلة، فقد سهل على أعداد كبيرة من الشعراء الشباب وكنتُ منهم طبعا، تقليد نماذج حتى دون وعي تام أو جزئي بهذا الشكل الوافد، الذي ترافق معه ظهور الترجمة العربية العراقية لكتاب سوزان برنار قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا . كان هذا كتابا مهما وضع حدا فاصلا بين قصيدة النثر بالمعنى الأدق للمصطلح، وبين أشكال أخرى مبتدعة دون قصد في كثير من الأحيان بدليل أن كتّابها واصلوا نشرها تحت مصطلح قصيدة النثر. هذا الأمر دعا كثيرين وأنا منهم ولم أكن في مقدمتهم إلى إعادة النظر في ما نسميه النظرية الأدبية، فكان لا بد من مناقشة ومحاكمة نصوص الثمانينات المتوفرة والتسعينات، ووجدنا ضرورةَ اجتراح مصطلح بديل لقصيدة النثر ليكون أقرب إلى تلك الكتابات، فكان مصطلح القصاصة لأسباب منها إن شعراء الثمانينات المغادرين تحديدا أهملتهم المطابع والمؤسسة لخروجهم عن النمطية المألوفة في الكتابة، فصاروا أشبه بقصاصة مهملة، ومن تمكن من هؤلاء من نيل فرصة نشر مجموعة أو كتاب بهذا الوصف، بقي نصه مهملا من النقد فكان أيضا كقصاصة مهملة. ثم أننا فكرنا في جذر الفعل قصّ بسلسلة معانيه من روى» اقتطع» قص أثرا ولم نجد لهذا الجذر بمعانيه الثلاثة تصريفا، فقلنا ببساطة نحن لا نكتب قصة ولا قصيدة نحن نكتب قصاصة هي التصريف من جذر الفعل قصّ بمعانيه الثلاثة في آن معا، وليس بالمعنى الوحيد روى ــ لذلك فهو ليس قص يقص قصة، وقلنا أن المهمل في الثمانينات صار محورا في التسعينات، واستشهدنا بقول المسيح عليه السلام أنا الحجر الذي رماه البناؤون، فأصبح حجر الزاوية. فالكتابة بهذا المنحنى للمصطلح تعني روي ــ بعد قص أثر الجوهر التأملي للتجربة الإنسانية وبعد فصله عن زبد التجربة.
بدعة شعرية
حسنا، هذا هو مفهومك للقصاصة الشعرية، فماذا عن المقصوصة؟ هل هذا المصطلح يختص بالسرد تحديدا؟
ــ لقد جاء مصطلح المقصوصة ليشير إلى بدعة شعرية تقتص الجوهر من التجربة الإنسانية وتُؤسطرهُ وتُشَعْرنَهُ في الوقت نفسه، وكان المصطلح يشير تحديدا إلى النص المفتوح والمغلق في آن واحد، في مخالفة للنص المغلق الذي دأب عليه كتّاب السبعينات المغادرون. وكان ذلك بعد أن كتبنا ورأينا عددا قليلا من النصوص تشتغل، بسبب انتهاجها لاستراتيجيات الأسطرة في مجال تحريف الوقائع المحكومة بمنطق سياقي وقائعي أيديولوجي ضمن التجربة الإنسانية، بمعنى إيغالها في تحريف الواقع لتصل إلى تحريف السرد.
ــ إلى أي مدى استطعت أن تضَمِّن هذه المفاهيم النقدية المجردة في أعمالك الأدبية؟
ــ عندما انتهيت من كتابة من يسكب الهواء في رئة القمر كنت أود فعلا أن أنشرها تحت مصطلح مقصوصة ولكن نشرها بعد ست سنوات من الانتهاء من كتابتها تحت هذا المصطلح في غياب انتشار المفهوم عربيا، كان خيارا فيه من المجازفة الشئ الكثير. ففكرت في مصطلح آخر يثير إشكالية، فكان مزاوجة بين الرواية والشعر وهذا يفيد أو يشير إلى استراتيجية التهجين في الكتابة، فكان الأول يفتح والثاني يكثف، وبالتالي استقر الأمر عندي على مصطلح الرواية الشعرية .
قواعد الرواية
إذن وبالاستناد إلى روايتك المنشورة هذه دعني أتساءل إن كانت الرواية الشعرية هي قصيدة نثر طويلة؟ وهل ثمة من تعالق بين جنسي الرواية والقصيدة؟ كيف استفدت من كونك شاعر قصيدة نثر في المقام الأول لكتابة هذا النوع من الأعمال الأدبية؟
ــ قبل الإجابة على سؤالك المهم هذا سأرجع بك طويلا إلى الوراء. إذ إنه في العام 1996 ولا أدري هل نسيت أنت ذلك أم ما زلت تتذكر قمت أنت بزيارة لمدينتنا الموصل. كنا نحن هناك نعد للكتاب 22 ضمن منشورات سلسلة نون والذي حمل عنوان الاجتثاث والمغادرة وقد ضم الكتاب رؤى ومشاريع تنظيرية على التوالي لكل من رعد فاضل، ثامر معيوف، احمد شوكت، حكمت الحاج، عمار احمد، سعد محمود وبشار عبدالله. وكانت مساهمتك المنشورة في ذلك الكتاب الجرئ جداً يومها لأسباب تعرفها جيدا تحت عنوان الثلج يشتعل كإرادة وفكرة .. ما ورد في مقالتك وأنا أراجعها الآن يؤكد تلك الحيرة التي كانت تنتابنا جميعا برغم سبق البعض على الآخر في الطروحات حول ما اختصرته عبارتك كل شعر هو لعب، لا بد إذن من الانصراف إلى التقنية، إلى قواعد اللعبة، ومعالجتها بجدية، أما فيما عدا ذلك ففكاهة وتجاوز وقفزة نحو العدم من عبارتك هذه أنطلق إلى أن ثمة فرق كبير بين الرواية الشعرية التي تنتج قواعدها من ذاتها، وبين قصيدة النثر قصيرة أم طويلة ذات القواعد المستنبطة والقارة. والرواية الشعرية كما قلت آنفا بدعة فيما قصيدة النثر سُنّة.
هذه ذكريات رائعة أشكرك لتنقيتها من جديد على ضوء الزمن المتعاقب خلفها. لكن لابد لنا من الإشارة في هذا الصدد إلى أن انشغالنا المبالغ فيه إزاء المصطلح والشكل والتسمية إنما كان يحمل بين طياته إضافة إلى الحيرة التي ذكرتها آنفاً، ريبةً وشكاً كبيرين وصلتا في أحيان كثيرة لدى البعض منا إلى درجة من العدمية ونسف المنجز التدويني برمته. على أن قصيدة النثر والصراع فيها ومن حولها كانت هي حجر الزاوية في تلك المساجلات ولا أظن مشروعك الكتابي كان بمنجى من ذاك الصراع.
ــ أنا في الحقيقة لم أقل يوما بقصيدة النثر لأنني كنت أعي ان المصطلح الوافد لا يتناغم تعريفا ومفهوما مع النص الشعري ذي الخطاطة الشعرية الذي أكتبه لذلك منحته مصطلح قصاصة وهو مصطلح قوبل بالإنكار والسخرية، ولكنه مع الوقت في الأقل في مدينة الموصل أصبح مقبولا ضمن منظومة المصطلحات المتداولة في النقد والكتابة وتمكنت من إيضاح المعنى منه والسبب لاجتراحه. وطبعا كان هذا الإيضاح مفتاحا لما أسميناه تنظيرا فقد تطلب كل إيضاح إلى شرح وكل شرح كان يولد عند نقطة ما سؤالا والجواب على كل من تلك الأسئلة كان يتطلب تأملا وجهدا ليتناسب كل جواب مع ما سبقه ولحقه وبالتالي صارت لنا أرضية للتنظير، والتنظير وسع المدارك، وأوقفني شخصيا عند حد فاصل أمام كل المصطلحات القارة فإما أن أنضوي تحت أحدها أو أن أغادر، وطالما أنني أعي بأن نصي مغادر، فلماذا لا أبحث له عن تسمية مغادرة تناسبه. فكانت الرواية الشعرية. وكان المصطلح.
أخيرا هلا حدثت القراء عن روايتك الشعرية من يسكب الهواء في رئة القمر، كيف ترى إليها الآن بمنظار الماضي الخاص والعام وبمنظار النقد الأدبي والكتابة؟
ــ في العام 1993 ببغداد نشرت في ملحق جريدة بابل الثقافي وفي ثلاثة أعداد متتالية نصا بعنوان هذيانات إبهام ، نشرته تحت مصطلح مقصوصة فيه كثير من مفهوم الرواية الشعرية عندي الآن. وكما قلت لك، لو كان تسنى لي نشر من يسكب الهواء في رئة القمر ككتاب في العراق وقت انتهائي من كتابة النص، لكنت نشرته تحت مصطلح مقصوصة والعكس أيضا صحيح. فلو قدر لي أن أعيد نشر هذيانات إبهام اليوم لنشرتها تحت مصطلح رواية شعرية . أما اليوم فأنا لا أكتب أدبا أصلا لأن الأدب كما قالت لي مرة الشاعرة الاسترالية آن فيربيرن في بغداد وهي تتحدث عن أدب الحرب في العراق في الثمانينات، إنها دون الحاجة إلى الاطلاع على ما نشر من كتب في أدب الحرب في العراق، يمكنها أن تصف النتاجات آنذاك بأنها تعبوية لسبب بسيط هو أنها جميعا كتبت في خلال السنوات الأولى من الحرب، في حين أن أدب الحرب يكتب بعد انتهاء الحرب وربما بسنوات. أنا أقدر عاليا هذا الفهم لتلك الشاعرة الرائعة. اليوم ونحن نمر في هذا المعترك الكوني الذي تطغى عليه وعلى متضمناته فوضى الهيولى، لا يمكنني أن التمس من ثناياه الجوهر الأساس ليكون مادتي التأملية، فما يزال العالم أمامي غارقا في الضبابية، ولو عدتَ إلى روايتي من يسكب الهواء في رئة القمر لرأيت بالرغم من أنها مكتوبة خلال الأعوام 1997 ــ 2000 فهي تحقق لي صفة الرائي الذي رأى أمورا كثيرة مما يحدث اليوم. حقا أنا انتظر أن يُخرج لي الجوهر ولو أصبعا من أصابعه لاختطفته عندها ولكتبت ولنشرت رواية شعرية بكل تأكيد.
AZP09