الشاعر المغربي سعيد السوقايلي لـ الزمان
أخاف يوماً تنفد فيه كلماتي
حاوره عبدالحق بن رحمون
شاعر مغربي مهووس بالأشجار، ولأجلها يسلك الطريق المظلمة، والأجمات الشائكة، يبحث عن شجرة عالية ومتغضنة، عاريا يحضنها، وبنشوة أليمة يتضور من الأحلام، ويشبك ذراعي، أصابع، رجليه حول جذعها، هذا هو سعيد السوقايلي الذي يكتب الشعر في طقوس غير منضبطة، ولا ينتظر مجدا شعريا، لأن لهذه الأسباب أو تلك، ينتظر قطارا جديدا، ليأخذه إلى براري طفولته الشعرية، ومهما اختلفت الطرق والسبل فطريق الشعر واحد، ورايته مرفرة في كل اتجاه، هكذا هو سعيد الذي يبحث عن سعادته داخل قصيدة النثر التي يهش عليها بغطبطة مستفيضة ببراءته وإيقاعاته الداخلية، مثل طفل مشاكس ينفخ الهواء داخل بالونات يوم العيد، ويلقي بها في السماء لمعانقة حريتها.
وقال الشاعر سعيد السوقايلي لـ الزمان على بياض الورقة أجهش بكل ما تسعفني فيه تأملاتي ورؤياي، من حدس، وتدوين وتصفيف وصياغة للغتي الشعرية. ، أما الخيال فيعتبره سعيد السوقايلي هو قرين الشاعر، شيطانه الذي أساء القدامى فهمه وتوظيفه نقديا، إلا أن سعيد له تصور آخر ورؤية في الكتابة الشعرية، ولو أنه يميل بعض الشيء نحو غوايات القصة، إلا أن هذه الأخيرة تبقى كمحطات استراحة المسافر، ويقول هنا أتخلص من اليومي والتزاماته، ماأمكنني تسول ذلك المجهول الماورائي بعضا من صدقاته الشعرية. .
وفي ما يلي إليكم الحوار الذي أجريناه معها
ما حكايتك مع القصيدة… وهل لك أن تروي لنا كيف تكتبها والمراحل التي تمر منها؟
ــ هي حكاية أنطولوجية ووجودية، أحاول من خلالها أن أبلور صراخا وضجيجا روحيا ما بداخلي، ربما هو نوع من النداءات الداخلية التي لازمتني منذ الطفولة، أسئلة، أحلام، خيبات، رغبات في إعادة تشكيل الوجود من حولي، نظرتي المختلفة للأشياء والعالم، بحثي عن المجهول الجميل، الركض وراء لحظات منفلتة…طبعا ولكوني شاعر، صانع كلمات ولغة، شأني شأن أي إنسان مبدع، وحسب عدتي اللغوية والخيالية، وجدت، هكذا، القصيدة كملاذي ومختبري، لأبني وأبتكر وأصوغ عالمي بطريقتي الخاصة، بكل بساطة هي منظاري الباطني الذي أصوبه نحو العالم والوجود، وحياتي الافتراضية التي أعيش فيها كلما ناءت بي الحياة الواقعية. أما كيف أكتب قصيدتي والمراحل التي تمر بها، فليس عندي من طقوس شاذة لأتبجح بتميزي بها عن غيري، فقط يلزمني أولا صفاءذهني وروحي، أشبه ذلك بحالة الصوفي المنصرف، كي أستدعي عالمي ومخيالي للدخول في نرفانا شعرية مطلقة، وثانيا، أحتاج إلى خلوة مكانية وروحية لأدخل بالقصيدة، فكم أختلي بنفسي بالمقهى تجدني أنتبذ مكانا قصيا أتخذه عزلة لي في أي مقهى أرتادها، هكذا، وعلى بياض الورقة أجهش بكل ما تسعفني فيه تأملاتي ورؤياي، من حدس وتدوين وتصفيف وصياغة للغتي الشعرية.
تهذيب الذوق
ما موقع الخيال والصدق في تجربتك؟
ــ الخيال هو عدة الشاعر ورأسماله الرمزي، أما صدق التجربة فهي القوة الروحية التي تنهض بها التجربة الشعرية، وإذا ما اختل ميزان هذين المبدأين فسيكتب الشاعر نصا رديئا ومجترا، طبعا كما قلت، فالخيال هو قرين الشاعر، شيطانه الذي أساء القدامى فهمه وتوظيفه نقديا، والخيال عندي فطري ومكتسب، فطري من حيث هو هبة إلهية تولد مع الإنسان، ويجهل مصدر تبلورها؛ أما درجة اكتساب الخيال فتعود بنا إلى طبيعة نشأة الشاعر وظروف تكوينه التربوي والتعليمي، والذي تتعاقب عليه مجمل ما يتلقاه من لحظات سعيدة أو أليمة، أو صور مدهشة ومكتشفات جديدة على مر الزمان والمكان والأشياء…ثم يلي ذلك ما يتشبع به من قراءات أولى للمنجز الأدبي الباذخ الذي يصقل ويهذب ذوقه، بهذا سرعان ما يستثمر خيالا عن له للتو، فإن كان صادق الرؤية والرؤيا تبلورت لديه معالم كتابة نجيبة، ونال بذلك الفرح الشعري، وإن أساء فهم المتخيل حكم على تجربته بالفشل منذ الصرخة الأولى.
طقوس غير منضبطة
هل بمستطاعك أن تكتب قصيدة كل يوم؟
ــ طبعا لا يستطيع أي شاعر أن يكتب كل يوم، فالشعر ليس تحت الطلب، كما أن الشاعر ليس موظفا، فذلك نوع من المس، يأتي وفق فترات متفاوتة، ووفق طقوس غير منضبطة، كما أسلفت، هذا بالنسبة لي هو نوع من السفر والسياحة الروحيين، كأنك تتلقى هاتفا مجهولا وسريا، ومتى وجدت الخلوة المناسبة كتبت وهذيت بما تجود به مخيلتك، شيء أخر عصي، حين أتخلص من اليومي والتزاماته أمكنني تسول ذلك المجهول الماورائي بعضا من صدقاته الشعرية.
هل سبق لك وندمت على قصيدة لم تكتبها بعد، أو كتبتها في وقت مضى؟
الطفولة الشعرية
ــ الندم لا، ولكن يمكن تسمية ذلك بالحلم، لطالما حلمت بكتابة قصيدة مغايرة، مادمت أجهزت على الكثير من مسودات القصائد التي لم تقنعني بحضورها، ربما هي كتابات مرتبطة ببداية مشروع ما، لذلك فأنا دائم البحث عن قصيدة تتجاوز حدود اللحظي والعابر، تقفز على الأمكنة والأزمنة، بمعنى أخر، تلك القصيدة التي تصلح لكل الفصول وكل الذائقات… بل يمكن أن أندم إذا ما تقادمت صلاحية قصائدي مع مرور كل زمن شعري؛ كما أني لست نادما على القصائد الأولى، على اعتبار أنها كانت المحاولات الأولى للوقوف أو الطيران، أو الطفولة الشعرية التي علمتنى أبجديات اللغة الصافية، فلم أحاكمها أو أندم عليها؟ مادامت قد جاءت في مرحلة التأسيس لهويتي كشاعر.
نهاية المجد الشعري
هل فعلا كل قصيدة كتبتها توازي خصلة شعر بيضاء في رأسك؟
ــ بل كلمة كتبتها كانت المعادل الأنطولوجي لكل شعرة ابيضت في رأسي، إني أستعير وأتشرب بياض الورقة، فكلما سودته توهجت شعرة في رأسي، وها أنا ذا، بالرغم من شبابي، يشتعل شعري بياضا وئيدا، إني أخاف يوما أن ينفد سواد شعري فتنفد معه الكلمات، وأصاب لحظتها بنكسة قهقرى لمعاودة تلك الطفولة الشعرية، تلك الخربشات الأولى، كما يحدث لكثير منهم في نهاية المجد الشعري حيث النضوب وانغلاق الآفاق.
في انتظار قطار جديد
دائما أنت تخاف من أن تخذلك يوما الكتابة وتجف قريحتك، لذا تبدو مثل تلميذ مواظب على الحضور، وخوفك من هذا المجهول هل يوازيه خوفك من تساقط شعرك وإصابتك بالصلع؟
ــ نضوب القريحة مرده أحيانا إلى عوامل عديدة، قد يكون عسرا في الخيال حين يتلبس الشاعرَ الواقع اليومي، ويسبح مع تياره ناسيا خلوته التي تمنحه شيئا من الإلهام ليقتنص بعض اللحظات الشعرية، أو يعود ذلك إلى نفاد تجربته الراهنة، ووصوله إلى محطته الأخيرة التي اشتغل عليها طيلة الطريق، ولذلك تجده مهموما بسفر أخر، وقد وضع حقائبه في انتظار قطار جديد نحو وجهة لم يخض مغامرتها الخيالية بعد، وهكذا يستأنف الكتابة من جديد بعد أن تتضح له معالم شعرية مغايرة… وأعتقد، والحالة هذه، أن يسجل حضوره بكتابة أخرى موازية يضمن من خلالها أنه باق على قيد الحياة الأدبية، ليبقى مثل ذلك التلميذ المواظب على الحضور كما تفضلت. طبعا فخوفي من ذلك المجهول، أي الإفلاس الشعري، هو ليس فقط سقوط شعري وإصابتي بالصلع، استعارة كما قلت، إنما هو كآبة كبرى تلزمني كلعنة مطلقة، أكبر من ذلك القلق الوجودي الذي يعتريني قبيل أية كتابة، الفارق بين الشعر بفتح الشين والشعر بكسر الشين هو تلك العلامة الإملائية المنقلبة إلى حال أخرى، والتي حاصرتني بها للتو، مجازا يمكن اعتبار هذا التناص هو نوعا من التصحر الشعري الذي من أعراضه سقوط كلاهما، القصائد، الشعرات، الخصلات التي أشعلتها كل ما مرة؛ ماذا سيتبقى بعد ذلك إذن؟ الجواب، بإمكاني وضع باروكة شعرية مزيفة أكثر سوادا.. وهل ستمتص بياض القصيدة؟ لا أدري، ربما يكون الخرف والموت الشعري.
رؤى وتصورات
هناك من يوسوس له الشعر كل لحظة بمكر، ويكتب بشراهة، أو بتقتير كأنه يتنفس الهواء من منخر واحد، قد ينشر أو لا ينشر ما كتبه، بالنسبة إليك أي طريق ستوصلك إلى نار الشعر المصفى؟
ــ أعتقد أن على الشاعر أن يكتب وكفى، أن يجلس إلى ورقته العذراء ويستجدي بياضها، أما مسألة الحصر والانحباس، أو السيولة الخيالية فذلك عنصر سري، يتكفل به الشاعر نفسه، بأن يكون دائم الإطلاع والقراءة، أي ما أسميه بالملابسة الشعرية، عساه أن يتفاعل، يقتنص رؤى وتصورات جديدة، ما دامت كل النصوص غائبة وحاضرة، تتفاعل في ما بينها، من هنا أمكنني القول أن مطاردتي المستمرة لتلك اللحظات الشعرية لا تني، وبلا هوادة، أستثمر ما يعن لي متى سنحت لي المخيلة، أشعل معها كل حواسي، متيقظا أمام كل موقف وجودي، أو تفصيل يومي لأترجمه إلى تجربة جديدة. أما النشر فذلك رهان تزدوج فيه جدة النص وحركية النشر ورواجه حسب الماركوتينغ الثقافي بالبلاد، صحيح قد تعتريك معيقات عديدة لن أفصل فيها شيئا، ولكن التاريخ الشعري والنقدي لن ينساك يوما ما، إذا ما قامت قيامة نقدية على أيدي أقلام نزيهة ومنوهة، آنذاك سيكون حضورك مائزا ووازنا على المقاس الذي يعكس حسن نواياك ومخططاتك الشعرية، وأيضا الصدق الذي يسم تجربتك.
القبائل الأخرى
هل أنت مقتنع تماما بوجود ضرورة أن يمارس عليك أحد ما وصاية على ما تكتبه، ويحاسبك على أخطائك ويتغاضى على صوابك؟
ــ طبعا لا، فأنا وصي على نفسي، النصوص العظيمة التي أقرأها هنا وهناك من أقرب نقطة إلى أبعدها هي الوصية علي أثناء الكتابة، هي التي تلهمني وتلهب مخيلتي دون محاكاتها بل أحاول ما أمكن السير بمحاذاتها، أما ما ترمي إليه، فألف لا، فوصاية أحدهم على الشاعر الشاب هي مفسدة له، تفقده صدق تجربته، إذ سيبدو مثل كركوز، ثم من يليق هذه الأيام بأن يحتضنك، أهي المؤسسة الرسمية، أم الكبار…فالكل تربع على عرشه، ناسيا أي قادم جديد، فأين نحن من شعراء الغرب الذي يعترفون وينوهون ويقدمون كل تجربة واعدة، الواقع نحتاج إلى جاهلية أخرى، وهي الأرحم، متى نبغ شاعر في قبيلة احتفت وتباهت به أمام القبائل الأخرى، كل ما في الأمر نحتاج إلى متابعة قرائية ونقدية صادقة، صريحة، وليس تلك المبنية على الصداقات الأدبية التي تعج بالمجاملة والتزلف؛ فأخلاقي الأدبية لا تسمح لي بأن أستجدي الاعتراف، القارئ من يكتشفني والمؤسسة هي المخولة بأن تنوه بي هذا إن كنت جديرا بذلك، أما إذا كنت متشاعرا فلتكن العدالة الأدبية والنقدية بالمرصاد؛ حلم صغير يتلبسني هنا، سواء وصلت أم لا، أن أكون حقيقة صغيرة خير لي من أن أكون ظلا كبيرا لغيري.
سئمنا من هؤلاء السدنة
شهد العالم العربي تغييرا في أنظمته، هل تنتظر مثل هذا التغيير والثورات في الثقافة والإبداع، وهل سيطول موعد تحقيق ذلك؟
ــ نعم سيطول ذلك كثيرا، فالمشكل بنيوي، يتداخل فيه السياسي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي أيضا، أعتقد، وأنا متفائل، في حال إذا استقرت فيه الأحوال السياسية العربية، ومر الربيع العربي بسلام ومغنم، مادام هذا القرن هو الموعد التاريخي للثورة والنهضة العربيتين، أمكن آنذاك الحديث عن تبلور ثقافي عربي عام سيتحسن وضعه الصحي وينتعش، أما إذا كانت النوايا سيئة فلا أجزم بشيء، ما دام السياسي يرخي بظلاله على الثقافي، هذا الوضع الجدلي سيبقى قائما ما لم يعد الأول إلى صوابه؛ للأسف هناك الكثير من الأوصياء على الثقافة وأدعيائها، ممن يملكون زمام التسلط، فهم مصابون أيضا بعقد السياسي حيث تنتابهم أيضا سلطة الكرسي، لقد سئمنا من هؤلاء السدنة الذين يسيئون لمستقبل الثقافة بكل روافدها.
أحفر اسمي وئيدا
هل من الضروري أن تكون منتميا إلى مؤسسة ثقافية للأدباء… هذا من جهة، ومن جهة أخرى هناك من يرى أن الشاعر قد يضيع عمره كله ولا ينال الاعتراف، بالنسبة لك هل نلت هذا الاعتراف إلى هذه الساعة وماذا أضاف لك؟
ــ ليس ضروريا لحد الساعة، إذ لم أفكر بالأمر، ولم يستدعني أحد، فكما قلت سابقا عليك أن تلهث وراء ذلك، ما يهمني الآن هو انشغالي بمنجزي الشعري ووسم نصي واسمي على خارطة الشعر العربية، أعتقد أن هذا هو نذري الأول، وأحمد الله أن هناك منابر خارج بلدي تفتح لي هذا الباب بكل صدق، وإلا بقيت حبيس حسابات حزبية وانتمائية تتلكأ معها إلى أن تتبخر، الانتماء المؤسساتي بالمغرب يحتاج معه أن تتنازل عن مبادئك الأدبية، وأن تتوسل العتبات، وهذا أمر لا أتقنه بالفطرة، إننا نعيش وضعا ثقافيا كارثيا وفضائح بالجملة، وقمعا ثقافيا هائلا لا يوازيه حتى السياسي، فكم من التجارب الغضة رحلت ووئدت دفعة واحدة بعد ولادتها، لذا تجدني كاتبا في الظل والهامش، أحفر اسمي وئيدا خارج بلدي، لا يهمني إن اعترف بي أو لا، لي إيمان قوي أن هناك أياد رحيمة ستمتد لمصافحتي يوما ما، أن تكون كاتبا في المغرب لهو أمر صعب حتى على السحرة، على حد شعر محمد الصاحي أحد أبرز الشعراء المغاربة، ما يهمني حاليا هو سبك تجربتي الشعرية بإتقان، تاركا الساحة للمتهافتين، رسالتي الصغيرة إلى أوصياء الثقافة العربية أن ينصتوا قليلا إلى الأصوات القادمة بكل الوفاء الأدبي والنقدي، وليس التعامل المحصور مع أسماء كبيرة نكن لها كل المحبة والامتنان، فلكل زمن شعري أصواته، أما إغلاق الأبواب الخلفية فتلك سمعة سيئة تضر بمستقبل الشعرية العربية، وهذه هي مشكلتنا الكبيرة في الساحة العربية.
AZP09