الشاعرة العراقية بشرى البستاني تواصل مع الزمان رواية حكايتها مع الشعروالحياة

الشاعرة العراقية بشرى البستاني تواصل مع الزمان رواية حكايتها مع الشعروالحياة
تراسل الفنون يذكي روح الشعر
طلال حسن
هذا هو الجزء الثاني الذي تنشره الزمان لحكاية الشاعرة العراقية بشرى البستاني مع الشعر والحياة حيث قالت
خلقت لأحب الشعر ولأغنيه ولأعيش معه.
واضافت البستاني إن المبدع الحقيقي لا يؤمن بمقولات جاهزة تكرّسُ اليأس والتقاطع مع الحياة؛ فبدون الحلم يغادر الإنسان إنسانيته ليأكل ويتناسل وينام، إن الأمل موجود دوما، لكنه بحاجة لهمم عالية وإرادات خلاقة كي تنتزعه من ركامات اليأس والصدود، وفي الآتي اجاباتها عن اسئلة الزمان
وماذا عن المرأة العربية في الربيع العربي الراهن…؟
ظلت المرة العربية تعاني من كونها هامشا في المؤسسة الأبوية الذكورية المهيمنة، فنتائج مواسم ما سُمي بالربيع العربي حصد ثمارها تيار الإسلام السياسي المؤدلج، الذي رأى بقضية المرأة وهو يمسك بدفة الحكم بابا مهما للهيمنة على المجتمع من خلال تفسير الدين حسب رؤيته ومفاهيمه، فجملة الإسلام كرم المرأة لا تعني لديهم أنه أمر بتفعيل طاقتها ومنحها حقوقها الإنسانية كاملة في العمل والحياة وصنع القرار، بل فسر المفهوم على أنه إقصاء لها عن مشروع الحياة وفضائها، وحجرٌ لطاقتها في البيوت أداةً للإنجاب والسهر على أمجاد الأسرة التي يقودها الرجل من خلال الرجوع بما أحرزت من حقوق إلى الوراء، وسلبها ما جاهدت طويلا للحصول عليه، فالمرأة المصرية مثلا تتعرض اليوم لمحاولات ردة عنيفة، إذ يعمل ممثلون في البرلمان على سلبها حقوقا مهمة، منها السفر وحق الخلع وتحديد سن الزواج والمشاركة في كتابة الدستور والمطالبة بإلغاء المجلس القومي للمرأة مما دفع سبع عشرة منظمة نسائية معنية بحقوق المرأة الى الاتحاد في تجمع أطلق عليه تحالف المنظمات النسوية حتى لقد هبط التمثيل البرلماني للنساء إلى نسبة 4 » 2 فمن أصل 498 لا توجد إلا اثنتا عشرة سيدة في البرلمان مما يدلل على المرارة التي خرجت بها المرأة المصرية بعد التضحيات التي قدمتها في مشروع الثورة المأمولة، فقد أسهمت في صنع الثورة إسهاما حقيقيا منذ نواتها الأولى في ساحة التحرير وعذبت وسجنت واستشهدت وأعطت رجال أسرتها ضحايا، لكن ما تمتلكه نساء مصر من وعي نوعي وتراكم ثقافي وتجارب في التعامل مع حقوقهن، وخبرة في العمل ضمن المؤسسات غير الحكومية والمنظمات الحقوقية والنسوية ظل يؤهلها لصد محاولات التراجع والردة. وكذلك فعلت المرأة التونسية أمام تناقض تصريحات الغنوشي ورفضها الإجهاز على حقوقها التي نالتها بنضالها، ومثلها تناضل المرأة اليمنية من أجل حراك أكثر فاعلية لنساء اليمن.أما المرأة في الأقطار العربية الأخرى فلم تكن قادرة على النهوض بالمجابهة مما جعلها عرضة لريح الارتداد والتراجع لأسباب عدة اهمها الصراعات الدموية القائمة في بلدانها والعنف المهيمن على الشارع والحياة كما يجري في ليبيا والعراق وغزة وسوريا مما يجعلها منهمكة بالحفاظ على حق الحياة هدفا مهما لها وللمجتمع بشرائحه كافة قبل الانهماك بالبحث عن بقية الحقوق.
انكسارات
ـ كيف تنظرين إلى واقع الحياة الثقافية في العراق بعد 9» 4 » 2003 ؟
بدءا لا بد من الإقرار أن الثقافة العراقية بحاجة إلى معالجات جذرية لحل المعضلات التي تعاني منها، وطرح فلسفة شاملة ذات هدف موحد يرمي إلى الحفاظ على وحدة العراق أرضا وشعبا وتراثا حضاريا متواصلا مع تاريخه المعرفي العريق من خلال بناء مؤسسات ثقافية حرة ورصينة يقودها مبدعون حقيقيون يتسمون بوعي يسعى إلى خدمة العراق وثقافته ومنجز شعبه وترصين رقي مجتمعه، فلسفة تضع لها ستراتيجية نبيلة تخلصنا من الإرباك وعوامل القطيعة وتضع خطوطها المعرفية موضع التنفيذ جامعة مثقفي العراق ومبدعيه تحت راية واحدة تسعى إلى بناء مستقبل آمن وحر من أي تبعية كانت، فالحياة الثقافية مصطلح مكتنز مركب إن عددناه مصطلحا تدخل في طياته حقول كثيرة ومهمة فهو يشمل الإبداع والإعلام وأنواع المعارف والمستويات الأكاديمية ودور الثقافة واتحاد الأدباء والفنانين والإعلاميين ووسائل النشر دورا ومؤسسات ويشمل النقد والترجمة ومراكز الثقافة والفنون، كما يشمل مقارعة الجهل والأمية، فكيف ننظر الى الثقافة اليوم ومعدلات القراءة في الوطن العربي حسب تقرير التنمية الثقافية الذي أصدرته مؤسسة الفكر العربي 6 دقائق للفرد في السنة بينما يقرأ الفرد الأوربي 200 ساعة في السنة. ونحن نطمح إلى رفع مستوى ذوق الناس، ورفع كفاءة التلقي، ومعالجة معضلة ثنائية المبدع » القارئ التي بنت سدا من الإبهام بين الإبداع ومتلقيه مما يشكل خطرا على ثقافة المجتمع برمتها، كونه يعزل الإبداع عن بيئته ويسمه بالاغتراب، كما يجعل الكثير من المتعلمين وحتى المثقفين يقفون عاجزين عن الاندماج في الحراك الثقافي والإبداعي لمجتمعهم، في حين نجدنا وكل الشعوب النامية بحاجة ماسة لوعي يدفعنا إلى الإسهام في التغيير والنقد والبناء والعمل على درء عوامل السلب، وهذه المسؤولية المهمة إنما تقع على عاتق الناقد لأنها الجزء المهم من مسؤوليته، كونه الجسر الواصل الفاعل بين الطرفين، وكاشف الحجب عن الإبداع ليقدمه بأرصن السبل للقراء، وكل ذلك يحتاج لمؤسسات نقد نوعية عالية الكفاءة، راقية الوعي، واسعة الرؤيا، واضحة الهدف، منهمكة بقضية توحيد المجتمع وتنويره وتطويره، كما يحتاج لخطط منهجية تعمل بشمولية على جعل الثقافة قضية وطنية من الدرجة الأولى، وتحرص على تعميم التثقيف بوصفه حقا من حقوق الفرد وواجبا عليه.
لقد وُجه لي هذا السؤال مرات، ولعل الجواب لا ينحصر في كون الثقافة بنية فوقية تفرزها بنى تحتية فاعلة يؤسس لها الاقتصاد وصراعاته الطبقية، لأنها في الحقيقة البنية التي ترتكز عليها كل البنى المهمة في المجتمع كونها في تياراتها الصاعدة والهابطة تعمل على تشكيل البنى الأخرى برمتها من خلال تشكيلها عقليات ورؤى الفرد والجماعة، وهذه العقليات بما وعت من تنوير هي التي ستعمل على بناء المستويات الناهضة بالمجتمع،ونظرة متأنية لكل ثورة حقيقية تُرينا قادتها مفكرين وفلاسفة بمستويات نوعية ورقي ثقافي ووعي مجتمعي سواء في ذهنياتهم ام في تطبيقاتهم العملية النوعية، فمن يقود الثقافة العراقية الآن، وما هي الإمكانيات المتوفرة لهذه الثقافة وقياداتها ونحن نعلم أن الثقافة قوة لا تنهض إلا بدعم مادي متواصل.؟.
إن العراق اليوم سياسيا واقتصاديا ومجتمعيا يعيش انكسارات هائلة في فقدانه المتطلبات الأساسية للإنسان مقابل هدر ثرواته في مفارقة حادة فضلا عن شيوع أنواع الفساد من البطالة والرشوة والانصراف عن الاهتمام بمعالجة أسباب معاناة المواطنين ورفع مستوياتهم المعيشية والصحية والعلمية والمعرفية، مع أن مهمة الثقافة الأصيلة هي العمل على إسعاد الإنسان وحل إشكالياته وتخفيف معاناته، لأنه لا سعادة وسط إشكاليات الحياة الأساسية، فكيف ستمتلك الثقافة اشتراطاتها. وكيف تتشكل ثقافة مع ضعف في المؤسسة الثقافية وفقر في إمكانياتها المادية وفي نظرياتها المتماسكة وفي توفير قيادات قادرة على المواجهة والرفض والتصدي، إن ضعف الدعم الذي ترصده الدولة للثقافة، وعدم قدرة وسائل النشر على تلبية حاجة طبع النتاج الثقافي ونشره للمبدعين أمور تخل بالوضع الثقافي وبمستواه المأمول، وتجهز على الثروة الوطنية المعرفية، فضلا عن غياب التخصيصات للمبدعين ورعاية الموهوبين وغياب جوائز الإبداع المهمة التي تعمل على إبراز الإبداع العراقي عربيا وعالميا، كما يغيب الاهتمام بإبداع الشباب وبيوت الشعر والمراكز الثقافية ولا نجد سلاسل وكتب دورية توزع بانتظام على مدن العراق كافة وتصل القرى والأرياف، ولا دعم للورق والمطابع والمؤسسات المعرفية، فكيف سيكون حال الثقافة، ولا بد لي هنا من توجيه تحية صادقة للمبدعين العراقيين الذين أسسوا مواقع ألكترونية ثقافية مختصة ورصينة شكلت تجمعات ثقافية استقطبت أسماء عراقية وعربية ذات قيمة معرفية كموقع الناقد العراقي ومؤسسة المثقف والروائي والمتوسط أونلاين والحوار المتمدن والنور وغيرها.
ـ بعد مجموعتك الأخيرة، التي ضمت جميع دواوينك، هل تقفين على أعتاب مرحلة جديدة، أم أن الآتي هو استمرار لإبداع المسيرة؟
كان همي الأول في السنوات الماضية هو جمع دواويني في عمل يضمها جميعا، وجمع ما كتبت من قصائد نثر ونصوص طويلة في كتاب واحد صدر مؤخرا عن دار فضاءات بعنوان خماسية المحنة ضم رواية شعرية بعنوان الحب 2003 و كتاب الوجد و كتاب العذاب و غرائز الكون و أنا والأسوار ، وقد تحقق لي الأمران من خلال تفرغ علمي منحتني إياه الجامعة عام 2010 2011، وكان الفضل في إنجاز هذين العملين يعود لإلحاح طلبتي المبدعين وأخص منهم الشاعر الدكتور أحمد جار الله الذي ظل يلاحقني بضرورة هذه الخطوة كلما رأى انهماكي بطلبة الدراسات العليا وبمشاريعهم. أما الآن فأمامي قضية أخرى لا تقل أهمية عن تلك، ولذلك يُلحُّ علي بها طلبتي وزملائي وهي جمع بحوثي الأكاديمية في كتب لم أجمع منها سوى خمسة كتب والسادس في المطبعة، وسوف أباشر بهذه العملية هذا العام بإذن الله مع تقديم مجموعة قصائد نثر للطبع بعنوان إلبسي شالك الأخضر وتعالي وهي من قصائدي التي تجلت فيها كل هواجس التصوف التي عشتها، والتي يتسم تصوفها بتوجهه الخاص. أما المرحلة القادمة فهي التفات لمشروع جديد لا يمكنني الإعلان عنه إلا بعد المباشرة به.
تصورات أخرى
ـ في حياتنا الإبداعية نصوص نتمنى لو لم ننشرها، ونصوص احتفينا بنشرها، ونصوص لم ننشرها لسبب ما، هل لمبدعتنا بشرى البستاني مثل هذه النصوص؟ وهل يمكن أن تحدثينا عنها؟
نعم، قد يكون ذلك صحيحا لحد ما، لكن بالنسبة لنا نحن كتابها، أما بالنسبة للدارس، فإن كل نصوص المبدعين المنشورة لها أهميتها حين تؤشر سير تطور الكاتب ومدى اختلاف لغته من مرحلة لأخرى، ومدى اختلاف التشكيل لديه وتباين البنى والتوجهات، فكل نص يمثل مرحلته وعلى الدارس أن يسائله في ظل تلك المرحلة ومعطياتها، وليس في ظل تصورات أخرى، مع مراعاة مدى قدرة ذلك النص على الوصول للمرحلة الراهنة والعبور للمستقبل، فليس من المنطق الفني أن تكون نصوص المبدع بمستوى واحد عبر حياته كلها ؛ودراستنا لمجمل نتاج الشعراء عبر العصور تؤكد ذلك ؛ لأن التراكم المعرفي والخبرة الفنية والجمالية والحياتية والوقائع وأثر الأحداث كلها عوامل تعمل بفاعلية على إحداث التغيرات الذوقية وتباين مستويات الإبداع، لكني مع ذلك حذفت نصا أو نصين من مجموعتي الأولى ما بعد الحزن التي كُتبتْ معظم نصوصها في سن مبكر وأنا طالبة في البكالوريوس، ولا أدري الآن لماذا حذفتها، أما النصوص التي ما زلت أحتفي بنشرها فهي تلك التي لولا كتابتها لقُتلتُ قهرا ولصرعتني مرارة العذاب ؛ كونها أفرغت حزني ومواجدي ولوعاتي محولة إياها من وجع داخلي إلى تشكيلات لغوية أشعر بعدها بخفة الروح وانزياح التأزم وأحسُّ بالراحة من عبء ثقيل كان يجثم على صدري ويُعيقني عن مواصلة الحياة بسلام.
أما النصوص التي لم أنشرها فهي كثيرة أيضا، ولعل ذلك يعود لعوامل وتحسبات شخصية وأحيانا عائلية تجعل حجبها عن النشر يوفر لي ما أحتاج من أمن نفسي، مع أني كما تعلم أتمتع بشجاعة كافية وجرأة أدبية لا حياة للإبداع بدونهما، لكنك تعرف كذلك أن للظروف القاسية التي نعيشها أحكاما تفوقنا سطوة وغالبا ما تملي علينا إجراءاتها هي، ولي على ذلك أدلة واقعية للأسف لا مجال لذكرها، وأشيرُ هنا إلى أن ذلك لم يحدث معي أبدا في مجال الشعر، بل حدث أكثر من مرة في مجال البحث وموضوعات الدراسة الأدبية.
ـ الحرية، هذه الكلمة الحلوة، التي طالما تحدثنا عنها، كيف تنظرين إليها في ربيع ـ شتاء العراق والوطن العربي؟
لن اقف عند مصطلح الحرية، لأنه مصطلح يختصر الوجود الإنساني برمته، به تتحقق إنسانية الإنسان وتصان كرامة روحه، به ندرك مديات الحب والحلم والجمال، وبعيدا عنه ينضوي الإنسان ويتشيء ليذوي ويموت في الحياة، أما مصطلح الربيع العربي فهو مصطلح ما زال غائما يسوده الكثير من الضبابية لدى الكثير من المفكرين المهتمين بالقضية السياسية والمجتمعية اليوم، ذلك أن المختصين بنظريات الثورة وكما درسنا منذ صبانا المبكر يؤكدون أن أي ثورة حقيقية لا يمكن لها أن تستوفي شروطها إلا من خلال تخطيط وستراتيجيات متفهمة للأسس والأسباب التي تدفع للتغيير من خلال فلسفة تعي الأبعاد الجوهرية للتغيير وتضع نصب أعينها أهمية تشكيل رؤية واضحة عن البدائل السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وعن ترسيم وتأثيث مستقبل البلاد من خلال دراسة معمقة للأهداف المرسومة بحيث لا يؤدي التغيير إلى إحداث فراغ وفجوات تملؤها الفوضى وتعيث بها الاضطرابات والإرباك والانفلات مما يعمل على تفعيل عوامل الفساد والتخريب والعبث بمقدرات البلاد والبشر كما جرى في أكثر من بلد عربي. لكن بالرغم من ذلك لا يمكننا نكران الهزة الضرورية التي فاجأت الدكتاتوريات العربية التي عاثت بالأرض والبشر والحرث والنسل فسادا وسلبا ونهبا وامتلكت السلطة امتلاكا وراثيا مشينا، بحيث تتغير الدساتير من أجل التوريث، وكأن البلدان سجلت بأسماء الحكام سندا أبديا، وكأن النساء عقمت عقما عضالا عن إنجاب من يخلف الراحل العتيد غير محروس من صلبه. إن هبة الشوارع العربية كسرت حواجز الخوف من تنكيل الأنظمة الغاشمة وبطشها، وأعادت للإنسان العربي اعتباره وثقته بنفسه ذاتا فاعلة بعد أن ظلَّ مشيئاً عقودا طويلة، فقد استرد الفرد العربي كرامته الإنسانية حينما قال لا، وأصر على الرفض، وسواء كان الآخر الغربي صاحب مصلحة في ذلك أم لا، فإنه هو الآخر سيحسب لهذه الهبة الشاملة ألف حساب.
إن الشعب العربي الذي عاش مقهورا خلال أكثر من نصف قرن عادت له اليوم ثقته بقدرته، إذ نهض ذلك الممكن المستحيل الذي غدا بتنكيل الحكام ميئوسا منه، فصار متاحا على حين غرة.
إن أنظمة الحكم الفاسدة التي أهدرت أوطاننا وسرقت وأحرقت ثرواتنا وخربت تاريخنا كان أبشع ما اقترفته عبر مسيرتها أنها عاثت بأرواحنا، وجعلتنا نعيش مكابدات فسادها بدل الانهماك ببناء أوطاننا وتحديثها، وانصرافنا لحوار الحب والحرية والفرح والجمال، وكانت المفارقة المُرة أننا خلال كل مجريات تلك الأيام السود كنا نتحدث عن الحداثة وما بعد الحداثة منذ نصف قرن.
مكان فاعل
ـ للوطن ـ العراق حضوره الكبير في إبداعك، والوطن ـ العراق ينحدر في هذه الظروف إلى المجهول، ما دور القصيدة الآن، ترثي، تمجد، تستنهض، أم.. ليس ثمة أمل لكلكامش؟
لا شك أن الدارس لشعري سينتبه لهذا الحضور الكبير للوطن وأهله، وللناس الطيبين الذين لحق بهم جور كبير، وللشهداء من كل الأعمار رجالا ونساء وأطفالا، أولئك الذين حرموا حياة كان من حقهم أن يعيشوها وأن يحققوا ذواتهم وأمانيهم فيها، لكنهم راحوا ضحايا حروب وعدوانات هي الجريمة بعينها، وما لحق من ظلم بالإنسان العراقي لحق بالأرض وبالطبيعة والمياه والأمكنة العراقية كلها، ونعرف جميعا أن المكان كائن له سيرته وفاعليته وتاريخه، وأن الأدب منذ طفولته اهتم بالمكان تماهيا ووصفا وترميزا وتمجيدا، وكانت الأطلال هي اللحظة الفلسفية التاريخية الحضارية التي ظلت متألقة في الشعر العربي حتى اليوم، لأن المكان فعل تاريخي مخضَّب بالحدث، فعل لا يتشكل كيانا إلا بفاعلية الإنسان به وفيه وعليه، ولذلك فإن كل أذى لحق بأرض العراق كان وما يزال يعذبني، لأنه وطن خالد يضم في عروقه عبير وعرق العراقي المثابر عبر أكثر من ستة آلاف عام، ولذلك فهو مكان فاعل ومنفعل بجهد الإنسان الذي شكل شخصيته وكثف وجوده، لقد كنت أتمزق بضراوة مع كل صاروخ سقط على دجلة، لقد كان الأمريكان يتدربون عسكريا منذ عام 1991 حتى عام 2003 على شواطئ دجلة يرمون فيه وعلى ضفافه برشقات من صواريخهم كل يوم ليل نهار، وأتعذب بوجع كلما سمعت أو قرأت عن نضوب دجلة والفرات في مدن الجنوب، وعما جرى لنخيل البصرة أجمل النخيل في العالم، ولشط العرب الذي كان أكثف الأنهار وأجملها وأثراها، أتعذب بوجع كلما قرأت عن الآثار العراقية التاريخية التي سرقت وتُسرق من متاحف العراق، حتى لكأنها تنتزع من خلايا جسدي. ولعل من المناظر الحربية البشعة التي لازمت ذاكرتي صورة المكتبة الوطنية ببغداد ورفوفها العامرة بأكداس الكتب متفحمة على الشاشة، يومها أغمضت عيني وجفت الدموع. كل هذه الأوزار يتحمل جرائمها من نعرف ومن لا نعرف، وأنا على يقين أن هناك الكثير الكثير فضلا عن العراقيين من العرب والأجانب الشرفاء من يتعذب لهذه الكوارث مثلنا، ولكلٍّ منا طريقته في التعبير، وقد كان الشعر لي وسيلة وغاية معا لتشكيل رؤية فنية تعبر عن رفضي الأليم لكل أنواع العدوان على الإنسان وعلى وطنه وما يحب ويحترم من خصوصيات وأشياء وتراث وقيم وفنون. أما عن حال العراق اليوم، فمن البديهي أن حزني لذلك جارح لكني بطبعي لا أميل إلى التشاؤم، نعم أنفعل بشدة وأحزن وأمرض بانفعالي لكني أومن دوما أن الزمن الذي يُجري تحولاته كل لحظة على الكون فيطلع الفجر من أعماق الظلمة ويرمي بالشمس للمغيب والقمر للتحول، ويجري تغيراته على الإنسان والأشياء والبحار والمحيطات، لا بد أن يخفي في طياته ما قد يفاجئنا به من تحول ممكن يطلع من أعماق المستحيل، هذا المستحيل الذي دفع الشباب العربي لأسباب معروفة مجهولة لانتفاضات غيرت واقعا سياسيا عربيا لا أحد كان يتصور تغييره بهذه السرعة وبشكل جماعي. إن فلسفة الكوانتم » التحولات التي درستُها بإعجاب هي التي تمنحني الأمل وتجدده كل يوم، ويغريني بها ما أكده فيلسوفها ماكس بلانك من أنه لا حتمية ولا مستحيل في الحياة، بل كل شيء عرضة لاحتمال التغير والانبثاقات المفاجئة على حين غرة، فضلا عن أملي الكبير بقدرة الإنسان العراقي على التجاوز، وامتلاكه جينات حضارية حية ومتواصلة تجري في دمه منذ العصور الحجرية الموغلة في القدم.
إن المهمة الأساسية لقصيدة اليوم باعتقادي هي كل ما ذكرتَ وأكثر من ذلك تماما لتستطيع استنهاض مؤازرةٍ حقيقية للإنسان، مهمتها التحريض على دحر الشر واسترداد الحب والجمال والتسامح ودحر القبح والضغينة، واستنهاض الهمم وتمجيد فعل القيم لنصرة البراءة المهددة بشتى أنواع الظلم والقسر والنهب والفقدان، وهذه المؤازرة هي التي تحدد مضامينها كما تحدد تقانات التعبير عن تلك المضامين، ففي الشعر العراقي اليوم تجد رثاءً للإنسان والواقع كما تجد سخرية من الواقع، تجد تمجيدا للقيم كما تجد تهكما بمن يدعيها ثم يطعنها سلوكا، تجد شعرا رومانسيا كما تجد شعرا واقعيا وثوريا وحتى تجريديا وسورياليا وتجد شعرا إشكاليا كذلك، فتناقضات واقعنا تتسع لكل الألوان والمذاهب والاتجاهات والتوجهات.
لقد شبع العالم المعاصر وإنسانه قسوة ورعبا، وهو اليوم بحاجة لكثير من الحب والحنو، وأعتقد أن الرجال الذين حكموه بتوجهات ذكورية تتسم بالعنف هم سبب الكوارث التي نزلت به تحدوهم المصالح والسلطة والكراسي والذرائع، ولو أتيح لأنثى حانية حكيمة وصانعة قرار أن تحكم العالم لضمته إلى صدرها، واحتضنت بشرَهُ وشجره وأنهاره، ولنزعت عن سواعد شبابه الأبرياء سلاح الحروب لتعلمهم المحبة والتسامح وزراعة الحدائق، ولقد قلت ذلك في قصيدة نثر افتتحت موقعي الالكتروني عنوانها هذا العالم لا يتسع لحبي .
أما عن مقولة ليس ثمة أمل لكلكامش، وأنا الآن لا أكتب كلاما إنشائيا، بل أعتمد في توجهي على مسيرة الإنسان عبر التاريخ وعلى قدرة المتغيرات على النهوض بالممكنات العصية العنيدة من ركام وتراكم المستحيل. إن الإنسان غير محكوم بدوافع جاهزة، وطاقاته غير مقيدة بأنظمة تتسم بالثبات والاستقرار، لأنه حالة بالغة التعقيد من المدركات والاستجابات التي كثيرا ما تشتغل خارج أطر الحتمية والحسم، وغالبا ما تفاجئنا بنهوض ذلك الذي خلناه مستحيلا أو غير ممكن في أقل تقدير، وما دام الإنسان خلق ليحيا فإنه سيظل يقاوم عوامل الجدب والموت والفناء، وهو في دفاعه عن الحياة أشد ما يكون ضراوة وإخلاصا، وما مهمتنا اليوم فنانين ومبدعين ونخبا ومعرفيين إلا العمل بكل الصدق والمثابرة على مقاومة فناء شعبنا ووطننا بكل عوامل الإيجاب المتاحة.
السايكولوجي والشعر
ـ الأنظمة العربية الشائخة المتهرئة، يعصف بها الآن الربيع العربي، هل نأمل أن يعصف ربيع بالشعر العربي الراهن، وما هي في رأيك الاتجاهات الممكنة لهذا الربيع؟
من يتأمل الشعر العربي عموما، والعراقي بشكل خاص، فإنه سيجد ألوانا من النصوص تتشكل بتقانات شتى، وبأساليب متباينة في التعبير، وسواء صفت هذه الأساليب دلالة أم لفها الغموض وخاتلها المعنى فإنها تبقى في النماذج الجيدة منها تستحق القراءة والتحليل ولكل نص مشغله النقدي الخاص. إن تنوع الحياة اليوم وانفجار إيقاعاتها لا يمكن أن يوجه الفن باتجاه مرسوم ولا يسير به سيرا أحاديا ما دام الشعر الحقيقي يستلم معظم إشاراته من الواقع المحرك لمخيلة المبدع، والفاعل في ضميره السايكولوجي والشعري، وما دام الواقع زاخرا مشتعلا بالمتغيرات، وما دامت الأنا تتشكل وتنهض من صميم الجماعة، فإن الشعر باعتقادي في ضوء تراسل الفنون وتداخلها والتضايف معها سيظل يتطور، والقارئ الواعي ذو الحساسية الفنية العالية سيظل يتقبل تطوره وتنوعه وتبايناته، ودليلنا على ذلك ما عانته قصيدة النثر من رفض الرافضين والمعاندين، لكنها ظلت لدى المؤمنين بحضورها نموذجهم الذي دافعوا عنه واستمروا على الكتابة به وتطويره والإخلاص له. إن المهم في النص الأدبي هو قيمته، وبراعة اللغة الأدبية التي تؤديه، وأسلوب الشعرية التي تقدمه والقيم الجمالية الثاوية فيه، وحينها ستكون الأشكال هي النسج الحميم الذي يبث تلك القيم مندمجة ببعضها، لا انفصام لها، وما دامت اللغة العربية تتسم بالمرونة وبالقدرة على توليد المجاز باستمرار وتشكيل الصور التي تتسم بالحيوية والحركة، فإن الشعر سيواصل مع التغييرات الجذرية فاعليته، لكن الإبداع كما سبق أن أشرت بحاجة إلى دعم مادي ومعنوي ومؤسساتي يهتم به ويطرحه للدرس ويقدمه للقراء ويطرح الجيد منه للترجمة درءا للقطيعة القائمة بيننا وبين العالم لنواصل المسيرة باتجاهات سليمة.
AZP09