السّكــران ـ عبدالعالي بركات
كان يروق لي الاستماع إليه وهو يتحدث عن تجاربه. يبوح بكل ما يخطر بباله. أحيانا كان يبدو لي أنه يهذي أو يدخل ويخرج في الكلام. مع ذلك كنت أحتمله وأصغي إليه دون أن أقاطعه.
اعترف لي بأنه لم يكن يتجرأ على عبور الطريق لوحده. لم أفهم ما يقصده بذلك، كما أنني لم أدر المناسبة التي جعلته يستحضر هذا الجانب من حياته بالضبط.
طلب قنينة أخرى، وواصل بوحه
الجدة كانت تمنعني من عبور الطريق. كانت تأمرني بعدم الابتعاد عن عتبة البيت. ولكن في غفلة منها كنت أعبر الطريق وأبتعد. العديد من الأشياء كنا نقوم بها في غفلة عن آبائنا.أشياء ليست محرمة، ولكنهم كانوا يصرون على حرماننا منها.الذهاب إلى وسط المدينة.. الكرة الأرضية.
أردت هذه المرة أن أطلب منه أن يصمت؛ لأنه بدا لي أنه لم يعد يعرف ما يقوله، أو أنه ليس لديه ما يقوله، غير أنه سرعان ما استرسل في الكلام
كانت عندي علاقة خاصة مع السطح، سطح البيت.
شرع هذه المرة يردد مقطعا غنائيا، رغم أنه لم يتمم كلامه الدار اللي هناك، الدار اللي هناك، أول حب عرفته فيها..
قاطعته وأنا أسأله عن السبب الذي جعله يذكر السطح، وماذا يقصد بقوله إنه لديه علاقة خاصة به؛ فبدا لي أنه لأول مرة يصغي إلي ويرد على سؤالي
هذا الفضاء يقصد السطح يرتبط عندي بالأحلام والخيال والإبداع. واحد الليلة، بت في السطح، بدون فراش ولا غطاء. السماء هي سقفي. جاري العجوز حذرني من ذلك. حذرني من أن النجوم يمكن أن تصيبني بمكروه، ولم أصدقه؛ فهو رجل كبير في السن، وكغيره من المسنين؛ فإن
رأسه تعشش فيه الخرافة. لن أنسى أيام المشمش.
المشمش فاجأني صراحة بذكره للمشمش. ليس هناك ما يذكر بهذه الثمرة؛ فبمجرد أن نطقها، لم أتمالك نفسي، وأخذت أقهقه، لم يجاريني في ذلك. وبدا أنه جاد في ما يقوله، وأنه يعرف كذلك ما يقوله ويبوح به
كنت أصعد إلى السطح، وأشرع في فرك نواة المشمش، إلى أن أحدث بها ثقبا. أقوم بإفراغها من حبة اللوز. هذا اللوز ذقته. هل سبق لك أن ذقت لوز المشمش؟ كنت أجده دائما ذا طعم مر. غرضي ليس باللوز، ولكنني كنت أجعل من نواة المشمش صفارة، وهذه الرغبة في الصفير، ما مصدرها؟ ربما لأنه الصيف. إنه فصل الهرج والتمرد.الشرارة الأولى للتمرد تنطلق مباشرة مع الإعلان عن نتيجة النجاح أو الرسوب.
يصمت هذه المرة. تبدو على وجهه مسحة من الحزن. يتأسف. يستغرق في الشرب. لكنه يضحك. إنه دائما يفاجئني. يسترسل في الحديث
كنا نقوم باحتفال في الشارع. كنا نمزق الدفاتر، ولما نتعب من ذلك، أو بعد أن ننفث غضبنا. نصنع من الأوراق المتناثرة صواريخ أو قوارب. بدون أن نشعر، كنا نصنع هذه الأشياء. لكن عندما تتمعن جيدا، ستجد أننا كنا نرغب في السفر. أنا أتأسف؛ لأنني لم أحافظ على أي دفتر من دفاتري المدرسية.
يضحك مرة أخرى.لاشك أنه تذكر شيئا مضحكا. أتشوق لمعرفة هذا الذي جعله يضحك. خشيت أن يكون قد نسي ما الذي أضحكه. طلب قنينتين، دفعة واحدة، واسترسل
الشيء الوحيد الذي مازلت أحتفظ به، هو صورة جماعية، التقطت لنا ونحن في التعليم الأولي. سني أظنه، لم يكن يتجاوز الخامسة، هههها.. الذي يثيرني دائما في هذه الصورة بالذات، هو الحذاء. كان باديا تماما أنه خضع لمحنة شديدة. كنت ألعب الكرة كثيرا.ولم يكن عندي حذاء خاص بالرياضة. كنت ألعب بالحذاء ذاته الذي أذهب به إلى المدرسة وإلى جميع المناسبات. لم أحتفظ بالدفاتر المدرسية. كنت أشارك في كرنفال التمزيق في نهاية السنة الدراسية.
طلب مني أن أذكره باسم أحد الأصدقاء الأدباء. ولكي يساعدني على التذكر. استحضر عناوين بعض مؤلفاته. لا أعرف الغرض من إلحاحه على تذكر هذا الأديب. وقبل أن أذكر له اسمه، سارع إلى القول
هذا الأديب توقف عن الكتابة والنشر، منذ اليوم الذي اكتشف فيه أن كتاباته يلف فيها الحمص والزريعة. وصار يكتفي بإلقاء أفكاره شفاهيا. ولكن هناك سببا آخر جعله يعزف عن الكتابة، هو أن أصحاب هذه الحوانيت، أغلبيتهم سود. وهو على ما يبدو، عنصري ولا يرضى أن أسود، يتعسف على كتاباته، خصوصا أن هذه الكتابات، هي نتاج أدبي وفكري، سهر عليها الأيام والليالي، وليست كلاما عاديا.
ندما يسكر. يحلو له الحديث عن طفولته. يعتبر الطفولة، منبعا لا يعرف النضوب. طلب قنينة أخرى، وواصل كلامه
الممارسة التي لم أكن أفهم لماذا كنا نقوم بها، ونحن أطفال، هي أننا كنا ننبش الأرض ونضع نملة فوقها ونغطيها بقطعة من الزجاج، ونظل نتفرج عليها، ونختلق الحكايات، كل واحد منا يتخيل حكاية ويحكيها، وهي مستوحاة من نظرته إلى النملة تحت قطعة الزجاج.
من الحديث عن المشمش إلى الحديث عن النملة. لا أعرف ما هو الشيء الذي لم يتحدث عنه بعد. يبدو لي مع ذلك أنه صادق في كلامه.
لا يتردد أحيانا في قول كلام يسيء إلى ذاته، تركته يسترسل
كنا مشدودين إلى الكائنات الحيوانية، خصوصا منها الضعيفة، والتي لا حول لها ولا قوة. وكان هذا الانشداد إليها والسعي إلى الاحتكاك بها، هو فرض سيطرتنا واستبدادنا؛ لأننا نحن بدورنا كنا صغارا وضعافا. وعندما لم تكن المباني قد زحفت بعد على الطبيعة التي كانت تحيط بأحيائنا، كانت الريح تحمل إلينا مجموعة نادرة من الحشرات الجعل، الصرار، وحشرة أخرى كنا نسميها الطاكسي، هههها؛ لأنها كانت ذات لون أحمر شبيه بلون سيارات الأجرة.
نحن نجهل أسماء الكائنات الحيوانية والنباتات؛ لأن التعليم المدرسي لا يعنى بتلقين هذه الأمور. كنا نمسك الجعل ونضعه على بقعة أرضية ساخنة، رغبة منا في دفعه إلى الطيران، يا لها من طريقة سادية للحث على الطيران..
لم أعد أقوى على التركيز بشكل جيد على ما يبوح به. بدأ التعب يدب في أوصالي، وكان هو قد شرب كثيرا، وربما قد لا يقوى على الوقوف والمشي، وكان عليه أن يقود سيارته بنفسه. ألححت عليه أن يكف عن الشرب، وأن يذهب عند أولاده؛ فلا شك أنهم قلقون عليه.
AZP09