السيّاب.. لا نهائية العطاء والإمتاع

السيّاب.. لا نهائية العطاء والإمتاع

ضم الشاعر إلى العابرين بسرعة

عــلاء لازم العـيـسى

 (1)

أستطيع القول بأنّ إنجاز الشاعر (بدر شاكر السيّاب) لا زال يمتلك حضوراً مباشراً ، وقدرة على الإمتاع ، يجبرانا على الإنصات والمتابعة ، لا لأنّ السيّاب يمتلك شخصيةً استثنائية في الشعر العربي المعاصر فقط ، ولكن لغنى تجربته ، وعلاقتها بانعطاف القصيدة العربيّة نحو شكل شعري جديد سمّي بـ (الشعر الحر) ، وهذا هو ما دفع النقّاد والشعراء على السواء لتناول السيّاب (شعراً وشاعراً) في بحوثهم ومقالاتهم وكتبهم ، وتتبعه في كلّ شئ ، أكثر من أيّ شاعر آخر .

لقد وعى السيّاب بأنّ فن الشعر يتطلّب ممن يحاوله ، أو يريد أن يتمتّع بقراءته ، أن يكون في مستوى من الثقافة والإطلاع ، فليست (الكلمة) في الشعر تقديماً ، أو عرضاً محكماً لفكرةٍ أو موضوع ما ، وإنّما رحم لخصب جديد ، لذلك فهي تشير أكثر ممّا تقول ، لكي تدفع المتلقّي إلى البحث والتنقيب والتثقيف الذاتي ، فمهمّة الشاعر الفنيّة تتجسّد في فتح أبواب (الكلمة) ونوافذها على مصراعيها ، وإدخال القارئ في أعماقها الشعريّة ، وانتقاء الألفاظ بعناية فائقة بحسب ما تمليه عليه ذائقته اللغويّة وحسّه الجمالي ، ودليل وعي السيّاب بمهمته قوله مخاطباً الشاعر يوسف الخال في رسالته المؤرخة في (1 / 5 / 1957م) : ((يجب أن نكتب أشياء فوق مستوى الجمهور)) ، وذلك من أجل خلق قرّاء ايجابيين يتفاعلون مع النص بوصفه مشروعا دلاليا متحركا يشترك في صنعه الكاتب والقارئ .

(2)

وتأسيساً على ذلك استرسل السيّاب كثيراً في استخدام الأسطورة والرمز ، كطريقة للتعبير والإبانة عن الحقيقة في لغة مجازيّة ، ولبناء منجزه الإبداعي وصياغته بغية الوصول إلى مرحلة النضج الفنّي ، فهل نجح في ذلك ؟ وما هي ملامح المشروع السيّابي ؟.

     لقد حاول السيّاب أن يكون استخدامه للأسطورة (إبداعيّاً) لا نقلاً فوتوغرافيّاً ، وذلك من خلال استخدام جوهر الأسطورة ، وتحويرها وفق ديناميكيّة تفكيره وخروجه على تقاليد القصيدة الكلاسيكيّة ، أي أنه خرج على الدلالة التقليديّة المتعارفة للرموز إلى ما يتناغم مع تجربته الحياتيّة ، ونجح في ذلك بشهادة النقّاد ، فكان ((أول من حوّر في مضامين الأساطير القديمة ، وجعلها تبدو مضامين جديدة))().

 ومن تلك الأمثلة تحويره في أصل أسطورة (عشتار) في قوله :

((مدينتنا تؤرّق ليلها نارٌ بلا لهبٍ

تحمُّ دروبها والدور ثمّ تزولُ حُـمّاها

ويصبغها الغروب بكلّ ما حملته من سُحبٍ

فتوشكُ أن تطير شرارةٌ ويهبُّ موتاها :

صحا من نومه الطيني تحت عرائش العنبِ

صحا تمّوزُ ، عاد لبابل الخضراء يرعاها

وتوشكُ أن تدقّ طبولُ بابل ، ثمّ يغشاها

أنينُ الريح في أبراجها ، وأنينُ مرضاها))()

فالسيّاب هنا حوّر في مهمة ((عشتار)) حسب الأسطورة ، فهي في أصل الأسطورة البابليّة القديمة ، تحبّ ((تمّوز)) فلمّا قتله خنزير برّي ، نزلت روحه بعد موته إلى العالم السفلي المظلم ، فماتت الطبيعة بموته ، فقررت حبيبته عشتار الهبوط إلى العالم السفلي والبحث عنه لإحيائه ، وبعد عناء شديد وجدته وقبّلته ثمّ عاد إلى الحياة ، وهي ترمز إلى دورة الموت والحياة ، والخصب والنماء ، ولكن السيّاب بدّل نهاية الأسطورة ، إنّه جعل عشتار تفشل في إعادة الحياة والخصب نتيجة تقاعس الناس عن تقديم التضحيات()، ((كانت المدينة وهو يتمثلّها من خلال رؤياه الشعريّة هي قاتلة تمّوز ، ولم يكن (تمّوز) هذا في قصائد السيّاب إلّا رمزاً ذاتيّاً للشاعر الذي كان يجد نفسه مكتظة بقوى الخير والخصب والنماء))().

 (3)

ومن إبداعات السيّاب ــ أيضاً ــ في مجال الأسطورة والرمز أنه استطاع أن يخلق من أسماء محليّة مغمورة ، قابعة في زوايا النسيان ، من أمثال : (بويب) و (أم البروم) و(جيكور) ،  رموزاً عالميةً باقية ببقاء شعره ، ((مقترباً بها من مصاف الميثولوجيات العليا بحكم ما منحها من غنىً تصوّري ، وما حمّل رؤيته لها من معانٍ ودلالات)) ، وقد أخذت قريته (جيكور) مساحة أكبر من البقيّة :

  ((جيكور مُسّي جبيني فهو ملتهبُ

مُسّيه بالسَعفِ

والسنبلِ الترفِ

مدّي عليّ الظلال السمر تنسحبُ

ليلاً فتُخفي هجيري في حناياها

ظلٌّ من النخل

أفياءٌ من الشجر

أندى من السَحرِ))()

((وتلتفّ حولي دروب المدينة

حبالاً من الطين يمضغن قلبي

ويعطين عن جمرة فيه طينة

حبالاً من النار يجلدن عرى الحقول الحزينة

ويحرقن جيكور في قاع روحي

ويزرعن فيها رماد الضغينة))()

إن تكرار ذكر جيكور  من قبل السيّاب ، لفت أنظار الباحثين والنقّاد فأشبعوها بحثاً وتأويلاً ، ومن أطرف وأروع الإضاءات التي ذُكرت في هذا الباب تلك المقارنة التي عقدها الناقد (كمال نشأت) لقريتي : (جيكور) مسقط رأس السيّاب ، و(سنتريس) مسقط رأس الدكتور زكي مبارك ، الأولى في جنوب العراق ، والثانية في دلتا مصر ، ولقد ذكرهما الاثنان كثيراً ، ثمّ يجد الناقد المذكور إنّ القاسم المشترك بين السيّاب وزكي مبارك هو الإحساس الحاد بالضياع والاغتراب والإحباط ، وبعد أن يستعرض تاريخ كل من الأديبين الكبيرين يقول عن سنتريس أنّها : ((كانت ما كانته جيكور بالنسبة للسيّاب ، كانت الأم والملاذ النفسي ، إنّها الانتماء الذي يعيد الثقة بالنفس))() .

(4)

من التساؤلات التي طرحها الأستاذ نجيب المانع في كتابه الرائع ((جسارة التعبير)) وأجاب عنها ، قوله : ((ما الذي يجمع بين الشاعر الفرنسي ارتور رامبو والشاعرين العربيين أبي تمّام والسيّاب ، والشاعر الإنكليزي جون كيتس ، والشاعرين الروسيين بوشكين وليرمونتوف ، والموسيقيين الرائعين موتسارت وشوبرت ؟ الجواب : هو أنّهم جميعاً عبروا هذه الأرض مسرعين عجيبي المرور ، وعجيبي السرعة)) .

    إن ضمّ الأستاذ المانع شاعرنا السيّاب لقائمة (العابرين بسرعة) من المبدعين والموهوبين في العالم ، هو اعتراف واضح بعالمية شاعرنا ، وتصريح جلي منه بأنّه شاعر من الدرجة الأولى ، وكيف لا يكون السيّاب من المبدعين وهو ـــ على رأي ناقد آخر ـــ ((صاحب الريادتين : ريادته في الشعر العربي الحديث ، الذي انبثق في أربعينيات القرن الماضي ، وريادته في الكتابة الشعرية الحديثة عن مكابدات الشاعر العراقي في المنفى))() المخذول من قبل الكل ، هذا إذا نظرنا إلى تجربة المنفى من خلال المعاناة الصحيّة والنفسيّة والعوز المادي ، وليس عبر الزمن التقليدي ، وقياس التجربة طولياً فقط .

(5)

أخيراً وفي قمّة دفقه الشعري ، وبعد مضي خمسة أشهر وتسعة عشر يوماً قضاها في دولة الكويت متنقلاً بين مستشفى سالم الصباح والمستشفى الأميري أملاً بالشفاء ، وبعد أن كتب فيها أرقى نصوصه الشعرية : (المومس العمياء ، والأسلحة والأطفال ، وغريب على الخليج ، وأنشودة المطر) ، توفي بدر شاكر السيّاب في المستشفى الأميري الساعة الثانية وخمسون دقيقة بعد ظهر يوم الخميس الموافق (24 / 12 / 1964م) ، ثمّ نقل من الكويت إلى البصرة ، في سيارة مرسيدس رقمها (20322 / كويت) ، يرافقه صديقه الشاعر الكويتي علي السبتي ، وقد وصل الجثمان إلى البصرة في الوقت الذي كانت فيه زوجته (إقبال) مع من يعاونها من الجيران ، تخلي بيتها التابع لمصلحة الموانئ العراقية من اثاثه ، فقد أصرّت مصلحة الموانئ على إخلائه لانقطاع بدر عن الدوام الرسمي .

مشاركة