
السياسة بين الواقع الصعب والخيال الجميل – ضرغام الدباغ
حلم ليلة منتصف الصيف (A Midsummer Night’s Dream) هذا عنوان لمسرحية شهيرة للكاتب البريطاني وليم شكسبير من أشهر مسرحيات شكسبير الكوميدية والتي اتسمت في الخيال كانت بدايتها عن قانون ظالم وجائر. يقول إن الأب يستطيع أن يأمر الملك بإعدام ابنته، وتحكي أنهم كانوا في اليونان ومن أكثر الاجزاء روعة هو الجزء الذي يفكر فيه الوزير في جعل زوجة ملك الجنيات تحب فلاحاً فقيراً، ثم يحول الفلاح إلى حمار فترجو الزوجة أن يصبح الرجل ذو رأس حمار من رعاياها وسوف تنجب الأطفال لملك الجنيات.
عالم خيالي وهمي
الموضوع الرئيسي في مسرحية «حلم ليلة منتصف صيف» كما يخبرنا القليل من، الحلم، ليكون أكثر دقة، فيتألف من أحلام عدة: حلم الأعماق، حلم العشاق، وحلم هيرميا ضمن حلم آخر. إذ تثير هذه الأحلام الخيال، إن وجود مسرحية ضمن مسرحية أخرى لفنان محترف هي أداة أخرى لتحدي خيال الجمهور المشاهد.
وفي مسرحية كهذه «لم تكن مشاكل الخيال والتمثيل سوى قضايا»
في الخيال، وكذلك في الرواية أو الوهم، يمكن أن يدعو الكيان أو النظام الاجتماعي إلى قضية. في حين في مسرحية “الثانية عشر ليلاً “ يكون التحول في كيان الجنس الموضوع المركزي، أما مسرحية “ حلم ليلة منتصف صيف” فتركز على فكرة عالم الخيال الذي يوازي عالم الواقع في أثينا : حيث الغابة الليلية (حيث لا قانون)كونها مكاناً للانسلاخ بدون رقابة أو سلطة. هنا يتحول بوتوم إلى حمار ويقع في الحب مع ملكة الجنيات تيتانيا (فيما يعرف بحلم بوتوم). وقد قال لويس ادريان منتوروس بأن هذا مثال على اختلال النظام الاجتماعي وهو حلم اليزابيثي مهم يعبر عن الرغبة في امتلاك سلطة على الملكة إذ كانت هذه رغبة عامة في العصور الأليزابيثية.
معطيات مادية
لا أريد أن أخفي هدفاً أسعى إليه، أريد إثباته، هو أن العملية / الممارسة السياسية، عملية عقلية بشكل مطلق، أو شبه مطلق.
وبتقديري أن على السياسي أن لا يتقبل في تفكيرة سوى المعطيات المادية والحسابات الناجمة (قدر الإمكان) عن حسابات عقلية (حرفياً Calculation) .
وقد نوهنا في بحوث عديدة أن الحلقات العليا المحترفة للعمل السياسي تستخدم الرياضيات العالية “ تعتبر الرياضيات ضرورية في العديد من المجالات، لما لها من قدرة على وضع نماذج رياضية تمكنها من صياغة سلوك ما أو التنبؤ بسلوك محتمل. ومن أشهر المجالات التي تستعمل النماذج الرياضية الطبيعية والهندسة والطب والاقتصاد والعلوم الاجتماعية “ .
عالم السياسة واقعي لدرجة قد لا يتقبلها ممن تكون عندهم الأفكار المثالية سبيلاً لحل مشكلاتها الواقعية، بل هي واقعية بدرجة تبدو غير مقبوله حيال القيم الروحية والأخلاقية ولهذا، بسبب التشابك الشديد والمعقد غالباً، بين المصالح الاقتصادية / الاجتماعية، تنهار حيالها قيم أعتادت عليها المجتمعات الشرقية، يبدو في واقع الحال تناقضاً يقود حتما إلى صراع بين الواقع المادي والمثاليات الخيالية، التي لا توجد في الواقع المادي، بل هي فيض من أفكار هلامية تفتقر للأبعاد القابلة للتقدير الدقيق.
تقول كلمات أغنية عراقية :
تعالني بحلم أحسبها لك جية .. وأكولن جيت .. يا ثلج اللي ما وجيت ..
فالشاعر هنا هبطت مطالبه لدرجة صار يقبل حتى بالحلم … أو ربما يمني النفس بما هو ممكن، لحين أن يأتي يوم يحصل فيه على المزيد .. وإذا كان الناس يسمعون ويطربون للأغنية، إلا أنها في الواقع المادي تبدو فضيعة أن يقبل الإنسان أن تصبح حاجاته الموضوعبة أحلاماً.
وإذا كانت كلمات الأغنية السابقة تبدو فضيعة، أما الجواهري الكبير، فهو يدعو الناس للنوم جياعاً ….وأن تملإ بطونها في الاحلام
نامي جياع الشعب نامي …. حرستك آلهة الطعام
نامي فإن لم تشبعي في بقظة، فمن المنام
السياسي شخص أتخذ لنفسه واجب تمثيل الموقف الاجتماعي إلى صياغة سياسية، سيراعب فيها أن تكون مقبولة، نعم … عليه أن لا يبالغ في طلباته فيبدو خيالياً فالحكيم يقول هنا ( موجب معطيات الاستطاعة المادية) “ إذا أردت أن تطاع .. فأمر بما هو مستطاع”.
علاجات واقعية
فالسياسة واقع مادي ملموس، وغير ذلك يعتبر رؤى خيالية لا مكان لها بين من يعالجون واقعا ماديا بين أيديهم كحالة مرضية بحاجة إلى علاجات واقعية، لا أبيات شعرية (لا نناقش هنا قيمتها الخيالية / الفنتازية).
إلا أن شكسبير نفسه يدعو في عمل مسرحي آخر (مسرحية هنري الثامن) يدعو إلى القياسات الواقعية، ويحذر من الغرق من اللعب في المياه العميقة.
لقد غامرت …
وكأنني واحد من الصبية اللاهين على قمم الموج
مثلهم أحاول تطويح كيس منتفخ بالهواء
صيفاً بعد صيف
في بحر المجد
لكن البحر كان عميقاً … عميقاً جداً
أعمق مما أستطيع اللهو فيه
شكسبير هنا يطرح رأياً حكيماً، يحذر فيه من اللهو والمزاح في المياه العميقة وأظنه يعني : الأزمات السياسية، ولكننا عموماً لا يمكننا أن نتخذ من أعمال الادباء على جمالها اللفظي، كمصادر سياسية. وللسياسي أن يكون له ذوقه ومزاجه الفني، وأن يشكل صوراً في مخيلته حين يستمع لقصيدة جميلة، أو يشاهد مسرحية ذات عمق فكري .. ولا على أن لا يبحر بعيداً عن الساحل …! لا تبتعد عن خارطة الطريق، ولا تغيب عناصر المسألة الرئيسية عن ذهنك ولا لثانية واحدة …!
سأل صحفي المسرحي الكبير صموئيل بيكت:” صموئيل ماذا تفعل أن شبت النيران في بيتك الريفي، وأنت تشاهد النيران تلتهم مكتبتك والأعمال الفنية التي أهداها لك فنانون كبار …؟
بيكيت أجاب فوراً وهو هنا معني بتقديم صورة فنية لا سياسية “ إذن احتضن هذا اللهب الرائع ….!
فهنا بيكيت كان فناناً، ولكن لو طرح الأمر على سياسي لأجاب “ أتصل بأقرب دائرة إطفاء ..!

















