قصيدة العروبة سنة 2014

قصيدة العروبة سنة 2014

الشعراء يخرجون من معطف السياب وبيته تسكنه الأقنان

علي حسن الفواز

بدر شاكر السياب (شاعر العروبة) لسنة 2014، والاحتفاء به يعني استعادة صورته من الحائط والديوان والاثر الى فضاء السؤال الشعري، اذ يمثل السياب واحدا من صنّاعه المغامرين، والحالمين بالقصيدة الذات، والقصيدة القلق، مثلما يمثل مشروعه تمردا على القصيدة التاريخ، والقصيدة الجامعة..

استعادة السياب الى اليوميات العربية يحمل معه هاجسا لاستعادات كثيرا، بدءا من (استعادة الوعي) الى استعادة الذات، وليس انتهاء باستعادة السؤال والمعنى، واقتراح اشكال اخرى  للمواجهة، مواجهة اوهام التاريخ والاحساس الفادح بالهزيمة والخيبة والخوف، وبحثا عن فضاءات جديدة لترميم الوجود والحرية، واستعادة الثقة بالقصيدة والحلم الشعري..

الاحتفاء العربي بالسياب يعني احتفاء غير شخصي بالشاعر، لكنه احتفاء برمزيته التي تحول فيها الى صورة  للشاعر المصلوب، والشاعر الشكاك بكل شيء، بالقصيدة التاريخ، والايديولوجيا والاحزاب، وتلذذا باصطناع القصيدة الاشباع والتعويض واللذة، تلك القصيدة التي تمردت على المتحف، وتمردت على الذاكرة، وارهصت برؤيا مفارقة، رؤيا مسكونة بالتجاوز، ومباحة لوعي قلق وشقي، قد يكون اكثر تعبيرا عن معطى التحولات التي انغمرت فيها القصيدة العربية..

السياب والتحديق عميقا..

عندما نمارس التحديق جيدا في جلد الأرض، نكون اكثر اقترابا من التحديق بالقصيدة ذاتها، اذ تحول السياب تحت هاجس اسئلته ورعبه الداخلي الى صورة لمغامر مشغول بترميم خراباته النفسية، وانشداده الى  القصيدة الطهرانية، قصيدة مشغولة بالاسطوري والسحري واليومي والتاريخي، لكنه باحساس من تعوزه الكثير من الاسلحة..

ابصار الشاعر لما هو عالق فوق أديم المعنى والقصيدة والتاريخ، اصابه بالاختناق، والالم، اذ تبدى عبر عالمه  الضاج بالغبار والخدوش، والمحتشد بالاثر والمراثي، الابواب المكشوفة للريح، والمشرعة للعبور الأزلي، تلك التي تشبه قبورا تلبس المقدس، ومسكونة بموتى يخرجون كل ليلة الى يومياتنا ليمارسوا حاكمية الرواة الماكثين، أصحاب الوصايا والرسائل، وصور للأحياء الأبناء والمكررين الذين يخرجون دون عصيان من معاطف هؤلاء الموتى ..لذا نجد الشعراء وحدهم يتحدثون بمرارة عن هذه( القيامات)  وبـ(بنونة) متمردة ونافرة عن النص / القبر و النص/ المعطف ، وعن قداسات (جمعيات الشعراء الموتى)….بدر شاكر السياب الشاعر والمحدّق والاحتجاجي وصاحب أكثر المعاطف دفئا في حاضرنا الشعري، وربما هو أكثر شعراء زماننا الشعري انحيازا لتلك الذات القلقة، اللجوجة، المضادة، وهو الاكثر تمردا على كتابة المرآة، الذات النرجسية التي ورطتنا دائما بنصوص لا تشبهنا، لكنها تبادلنا دائما وهم انويتها ولذتها، وتمنحنا أصابعها البلاغية دونما أسئلة أو قلق،  يهبط من موته  البعيد ليرشّ على رؤوسنا ماء الورد وشتائم (الولد) المصاب بهيجان الكراهية، وربما يعلّق على قصائدنا تعاويذ الأب المبارك، وكأنه يقول ان معطفي لا يشبه معطف غوغول، خذوه الى مواسمكم واصنعوا منه علامات مرورية للقادمين من كواكب الغبار…..

السياب الشاعر الميت والحي في ذاكرتنا العربية، مازال يطلق عصافيره في سمائنا عند كل مواسم الحداثة، وربما يقف متلصصا على اية محاولة لتجديد ثياب الجسد الشعري، يدعونا الى اساعادة طقوس معطفه لنخرج منه السكاكر والدخان وأصابع الديناميت والبيانات السياسية والوصايا والشتائم…الحداثيون من الشعراء والعرافون في مواسمه وفصوله، لايخرجون كثيرا عن هذه الطقوس لأنها التابو  الضاغط على وجدان الكتابة، ولان أي خروج على فوبيا المعطف سيكون خروجا اخلاقيا اكثر مما هو شعري، فالسياب الاخلاقي والشعري مازال يحمل بعض سحر الأيقونة الفاضحة  التي تركها المقدس الثقافي والأخلاقي عند وسائدنا وعصابنا وعند رأس كل حكاية يتلوها الآباء الرواة  عن (روح القدس ) في شعـــريتنا المعاصرة ….

السياب  والتابو  الشخصي..

لا أظن ان أحدا يختلف على ان السياب قد مارس العصيان الشعري على (تابوات) الأمة المشغولة بحروب التحرير واليسار المؤدلج حدّ العظم وصراع الطبقات المنزوعة الاضافر،  ورغم انه قد تورط بشهوة نفسية مضطربة وشديدة الحرج في اللعبة المكشوفة حينما نشر اعترافاته في جريدة الحرية البغدادية عام 1959، والتي كشفت عن عواء السياب الداخلي ازاء  الوجع  والانهاك والعوز، وكذلك ازاء محنة الايديولوجيا المقفلة ذاتها، الاّ  انه ظل مسكونا  بقلق الشاعر ورعب اوهامه. هذا القلق عبر ذاته حينما قدّم السياب اعتذاره للذين شتمهم وقدح في سيرتهم…

شاعر كشوفات

السياب  شاعر انساني، مثلما  شاعر مغامر، شاعر  كشوفات، او حتى شاعر مفجوع بالانسان  المربك داخله، اذ  يجد  البعض  في تفجره الشعري وكأنه هروب من هذا الانسان  الى اللغة والاسطورة والمراة لكي يتطهر، ولكي يمارس لعبته المباحة في الاعتراف، وفي اماطه  اللثام  عن لا اطمئنانه  الشعري والوجودي.. هذه الصورة  للشاعر المتجاوز، جعلته من من اكثر  الشعراء هروبا الى القمم، اذ تحولت القمة الشعرية التي اصطنعها الى تاريخ والى زمن شعري، لذ لم يتجرأ احد  على ان  يغمط  حقه في الريادة (هذا المصطلح الغامض)  حين يكون الحديث عن الأصول والمرجعيات وبسالة الروح في اجتراح كيمياء المغامرة، الاّ اننا نظل مسكونين بالحاجة الى اعادة قراءة الظواهر الشعرية في سياقها التاريخي وليس في سياق ما تصنعه لنا من تلال رمل تحدّ من حركة العبور الى الضفة الاخرى.  نعم عند  عتبة السياب تبدو الحاجة الى قراءة التاريخ  الشعري  اكثر اثارة، واكثر تجاوزا، لاننا سنضع هذه الحاجة بوصفها  رغبة ماسّة  لاصطناع  هامش وجودي وزمني نلامس من خلاله جلودنا الشخصية وهي عالقة في مراياها، وطبعا يحدث هذا حسب شروطنا وشروط قراءتنا المعاصرة وليس على وفق الموجهات القهرية لشروط الفرائض التاريخية،  تلك التي تجعلنا مصابين بالهيبة ازاء  تاريخنا، وازاء  متن  مفتوح  للفحولات التي ورطتنا في زمانات عصيبة بحروبها وخياناتها ومركزياتها وأحزانها. موت السياب تحول الى لعنة، لانه ترك الباب خلفه مفتوحا، مثلما ترك الكثير من الطرق الشائهة، وبعضها  ظل مفتوحا لشعراء موتى اخرين، وهو مابات يلزم البعض بالدعوة  للشعراء الخارجين من (جمعيات الشعراء الموتى) لكي يمارسوا ايضا  احتجاجا على موتهم الغرائبي، وان لايتركونا عند اقنعتهم غير المستعملة كثيرا، لاننا سنكون  بحاجة حقيقية الى حيواتهم ولذاتهم وتجريبهم اكثر من موتهم، ولكي لا  نقول مع (سان جون بيرس ) عندما سأله احدهم، من هو أعظم شاعر في فرنسا الآن ؟ قال له بيرس، انه (فيكتور هيجو) مع الأسف!

لا شك ايضا ان السياب هو أكثر أصحاب المغامرات في شعريتنا المعاصرة توهجا وأكثرهم تخريبا لانساق التقليد، وأعمقهم توغلا في أعصاب الشعر وصناعة حساسيته التي تفترض استحضار ما تحت الطين الحري للغة. لكنه ينبغي ان يكون ايضا الأكثر تحريضا لنا  على إثارة الأسئلة أمام الأجيال الجديدة التي تركض كالخيول المرعوبة في صحراء لاحدود لها ولا أفق لايرسم لهم أوان الخطوات.ربما هو صورة لحاملي العقل الثقافي العصابي العربي الذي ينتج قداساته دائما مثلما ينتج سلالاته، يمنح أوسمة خلوده للفرسان النبلاء الذين يرمون الحجر على حائط العائلة. السياب في هذا الإطار كان مغامرا قلقا ومتمردا وباحثا لجوجا عن مقابلات لازماته الوجودية والحسية، واكثر تحفيزا للتوليد الشعري، ليس على المستوى  العروضي الوزني وهو  المجيد فيها، بل  المغامرة في تحرير  الوحدات العرضية من مهيمنات الوزن  الواحد، وبما يبيح  للقصيدة  السيابية ان تكون عنوانا  للمغامرة، وتدفقا لسوانح  شعرية  تتجاوز  المهيمن  والقفل الشعري الوزني والاسلوبي…

السياب والتحديق بالازلي..

السياب وتحت نوبات قلقه العارمة- الشعرية والانسانية-  كان يمارس لعبة تحرير استثنائية لقصائده ولغته، حدّق في كونه الأرضي المباح للأحزان والفقر والحرمانات والمرايا التي تصنع وجوها متشابهه.  لم يتلمس الطريق اليه وكأنه يعبر ساقية في (جيكور) ولم يقرأ نصه تحت لذة الحشد الذي يقترح دائما شعراء صواتين، هم اشبه بالمنادين في أسواق الجمعة.  أراد السياب ان يتخلص من ورطة الشاعر الخطيب والقصيدة الهتاف واللغة المتراكمة كأعمدة البيوت،  انحاز الى أوهامه الخالصة، وأيقن ان تفكيك اللغة /العمود والقصيدة/الهتاف لايتم الاّ عبر التورط المعرفي في البحث، والإنصات الى أصوات الجنيات، والوقوف عند لزوجة لغوية أخرى.  لذا ترك دراسة العربية في دار المعلمين الى دراسة الانكليزية وتنازل عن سنوات دراسية لهذا النداء الغريب. وبحث في أساطير المكان الانساني والبصري والاسطوري، مثلما تلمّس عبر مرآته الشاحبة ما يمكنه ان يرى سيولة وجهه وهو ينزّ نداء وبوحا وملامح اخرى اكثر تجاوزا  لصورته  التي  لايطمئن اليها.. كان دخوله فضاء الثقافة الانكليزية دخول الباحث عن الذهول، ذهول العالم الذي يركض حوله دون أدنى التفاتة الى ما تصنعه العربات والحوذيون….

لم يعد يألف الشارع كثيرا، ولم يعد يملك حيازة للاطمئنان في زواياه، كل ما فيه أصبح شاردا، الجسد، اللغة، القراءة، الأصدقاء، الأيديولوجيا، المكان…

ولعل هذا الشرود تلبسه بتهويمات مرعبة ،،أخذت بتلابيبه على طريقة الجنيات، انصرف الى قراءة الفضاء الأسطوري العراقي، أسطورة الخلق والانبعاث، أسطورة الحزن والموت. اكتشف ان الكثير من مرجعياته الشخصية تعود الى أسطورة المكان العراقي، فتلبسه القلق التموزي، قلق الموت والانبعاث الذي هو قلق الإنسان الذي يشبه والباحث عن الحرية واللذة والقوة واللجة العميقة، اذ ظلت هذه الأفكار اللجوجة تلاحقه بشراهة، فهو العليل المحروم الكليل القميء الضاج بنداء الروح والجسد..فرادة التكوين الشعري للسياب كانت فرادة المتمرد على نسقه، فهو لم يمارس ترف الإشباع الحسي في المكان، إذ ظلت أمكنته الأثيرة هي القرية الشاحبة والمدينة الصغيرة الملتبسة بأوهام الفتى الباحث عن أحلامه ورحيله الى المدينة الكبيرة التي تصحو على قلق الشارع السياسي وعقائده وأناشيده الطبقية، ثم السجن والغربة والمنفى وأخيرا المرض الذي يعدّ أكثر المحابس التي هتكت جسده الأرضي …كما انه لم يمارس ترف الإشباع الثقافي الذي كانت تنتجه المدن الأخرى التي تبلبلت باللغات والفتوحات.

قراءة روح

 قراءة تعالق الخطاب الحداثوي في شعرية السياب هو ضرورة منهجية وموضوعية في قراءة روح المغامرة الشعرية العراقية والعربية، والانكشاف على العديد من حمولاته الرمزية والاسطورية، والتعرّف على مستوياتها  الفنية والصورية، واحسب ان هذا الموضوع لايحتاج الى مزايدة أو الى إعادة حسابات (الحقل والبيدر) إذ يعمد البعض من شعرائنا العرب أو موظفي النقد العربي الى البحث عن أراض مجهوله ومرجعيات غائمة في صناعة (الثورة الشعرية) التي أطلقها السياب كآليات اشتغال في التعاطي مع الشعرية العربية مفهوما ونصا في ضوء متغيرات ثقافية ومعرفية عاشتها الحاضنة العربية، وكأن السياب العراقي قد سرق النار المقدسة من المعبد القصي.

 هذه الأصوات التي باتت تؤسس طروحاتها في ظل انزياحات سسيو ثقافية حادة انعكست عبر تعمية الكثير الوقائع ومحاولة تغليب الخطاب الدوغماتي في قراءة تشكلات الظاهر الثقافية خلال النصف الثاني من القرن العشرين ..

ورغم عدم أهمية وجدية هذه الطروحات التي تسعى الى تأليه الخطاب التاريخي بعيدا عن شروط تحقيقه الفاعلة، فإنها تضعنا ايضا أمام حقيقية ومسؤلية احترام رموزنا الثقافية الذين ينبغي ان لانضعهم في سايكولوجيا النص/ المتحف وإنما نضعهم في سياق ثقافتنا العربية المتحرك والباحث عن اشباعات لا متناهية لايروسية النص، ومن يقرأ بعض طروحات الشاعر المصري احمد عبد المعطي حجازي يجد لبوس الشك وحتى الغيرة، اذ انها تقوم على دوافع  نفسية وليست تاريخية، فضلا عن انها تقوم اساسا على التشكيك بمؤثرات الشعرية العراقية في الخطاب الثقافي الشعري العربي،  وهنا نتلمس حجم الحساسية التي يعانيها البعض من تاريخ مازالت بعض شواهده تمشي بيننا على قدمين، فضلا عن قصورها في التعاطي مع الشعر كحياة وفضاء ومعرفة، والتي ينبغي ان تجعل من الشعرية جسدا قابلا للحراك والوجود والانزياح والتناسل..

استعادة السياب…

عند استعادة السياب الشعري، والاستعداد للاحتفال العربي  بسنة 2014 بوصفها سنة للسياب، نجد من المسؤولية بمكان ان نستعيده  قرائيا، وان نضعه  في سياق التطورات المؤسسة للشعرية العربية، بعيدا عن اوهام الشك، وحتى خلط الاوراق التي تحاول  ان تقرأ السياب الخمسيني  بعيون  مشوشة، او مستعارة، وبالتالي تضعنا عند رعب اخلاقي ومتاهة تاريخية، وربما تفقدنا القدرة على وعي التاريخ بوصفه سلسلة من التحولات والتغايرات..

 الاحتفاء  بالسياب لايعني تماما الاحتفاء بحياته القصيرة والمثيرة، بل الاحتفاء باسئلته التي مازالت تواصل قلقها ورعشاتها في جلودنا وأصابعنا، وتحرضنا نحن الأبناء على ان نمارس حقوقنا الانطولوجية في التسلل جيدا الى كوننا الأرضي لنشيّد عمرانا في اللغة والوعي والمعرفة ،مثلما نواصل صناعة أحلامنا للقادمين لكي لا يشتموننا ويقولون عنا ماقاله احد الشعراء في تونس (ان أبا القاسم الشابي قد وضع حجرا في طريق الشعراء).

كما اننا نسعى الى ان نضع ثقافتنا الشعرية العراقية و العربية في سياقاتها الصحيحة دونما حساسيات أو أوهام تلك تسعى الى صناعتها العديد من المركزيات والموجهات والوصايا، تلك  التي أخذت بطفولتنا وكتبنا المدرسية وأحيانا ذاكرتنا الى إسطبل العائلة المقدسة. دعونا نحتفي بالسياب ونرفع قبعاتنا لسؤاله الشعري الذي علّمنا ان الاشتباك مع  الاشياء العظيمة يبدأ بمغامرة عظيمة، وان لانقف بخجل ومرارة العاقّين أمام أسئلة أبنائنا القادمين وهم يقول، ماذا فعلتم بمعطف الأب السياب الجميل.