السنّارة والغراب على سرير الرجل المريض

قراءة في دفتر للقاص محمود عبد الوهاب

السنّارة والغراب على سرير الرجل المريض

نهاية

أحسُ بأنك تترصدني

أمامي تكون

وورائي أيضاً

تحوطني بردائك القاتم

مثل جناح غراب

بريبة تقترب

وبريبة تبتعد

كأنك في حيرة

من أي جانب تقتنصني…

ومثل صياد ماهر

لاأتمناه

تحسن أختيار الطعم

ترمي سنارتك

يرتعش الماء في خيطها

يترنح الخيط

ينشق الماء

يصطخب

كأن أمواجه تتخاصم

وتدير قفاها

لترتفع زعانفي في الهواء

أنا السمكة المصطادة

  التماس

أعرفُ انك تلاحقني

وإنني أنا الذي سيجيء دوره

لكن دعني

أيهذا الذي أجهلك

أستمتع بالماء

قليلا

حتى يحين دبيبك

ياجناح الغراب

{ { {

تراتبية سردية للتنضيد الشعري..

أحس بأنك تترصدني. أمامي تكون وورائي أيضا.تحوطني بردائك القاتم. مثل جناح غراب. بريبة تقترب وبريبة تبتعد

كأنك في حيرة.من أي جانب تقتنصني…ومثل صياد ماهر

لاأتمناه تحسن اختيار الطعم ترمي سنارتك يرتعش الماء في خيطها يترنح الخيط ينشق الماء يصطخب كأن أمواجه تتخاصم وتدير قفاها. لترتفع زعانفي في الهواء، أنا السمكة

المصطادة..

{ { {

أزعم من وراء هذا التنضيد،إنني كقارىء أمام نص سردي أقرب مايكون للقصة القصيرة جدا في أوالياته منه الى القصيدة..وهذا لايقلل من شأن النص ولامن شأن منتجه

المعروف والمعرّف بنهجه في الاقتصاد الأسلوبي..في قصصه وفي متواليات روايته (رغوة السحاب) وكذلك في مخطوطة روايته التي لم تطبع حتى الآن.. (رواية بحجم الكف).. والحوار القصصي جواني مثلما هو براني..أعني يمكن ان نقرأه كمنولوغ/ حوار الذات مع ذاتها..كما يمكن اعتباره حوار الذات مع الآخر اللامرئي،لكنه الملموس في توقيعه كقفل حياة .

الاتصالية بين السردانيتين هي اتصالية الوجه والقفا في العملة النقدية ذاتها والمشترك الاتصالي:

*الصياد

*الطريدة

*الماء

نلاحظ ان النص يشتغل على ترميز العادي وأنسنة الصيد حيث يقوم المجاز اللغوي بتغيير حقل الفعل الدلالي لتحل  الدلالة بدل المعنى المعجمي وتحقق الوظيفة الجمالية للنص..وهنا يحضرني عبد القاهر الجرجاني في تقسيمه الكلام الى قسمين: (ضربٌ أنت تصل منه الى الغرض بدلالة اللفظ وحده وضرب آخر أنت لاتصل منه الى الغرض بدلالة اللفظ وحده ولكن يدل اللفظ على معناه الذي يقتضيه موضوعه في اللغة ثم نجد لذلك المعنى دلالة ثانية تصل الى الغرض ومدار هذا الأمر على الكتابة والاستعارة والتمثيل/ص258- دلائل الإعجاز)..حين يشتغل افق التلقي بمديات أوسع سيكون المألوف وهو هنا الصيد الى موقف ميتافيزيقي..والسردانيتان منشغلتان بالحياة أكثر من انشغالهما بالموت.. ومتعة الماء تذكرني بطلب كزنتزاكيس وهو يحتضر..حين يرسل احدهم ان يشحذ له من المارة عشرة دقائق حياة ؟!..وما يطرحه النص ليس مباغتا في سردانيات محمود عبد الوهاب فالسارد في(على جسدك يطوي الليل مظلته) يخاطب محبوبته.. (لاتشيخي.. أرجوك لاتشيخي..)…. في القصيدتين حسب المؤلف أو في مفصلي السردانية وفق قراءتنا (ان اليقين المروع بالموت يتداخل مع العقل../ص127)..

هل تشتغل السردانيتان على الموت؟ أم الموت يشغّل السردانيتين لصالحه؟ أم كلاهما يتناوبان التشغيل والمشاغلة؟

الموت يريد كتابته في الحياة من خلال المؤلف والمؤلف بدوره يريد ان يثبت حياته من خلال هذه اللحظة المتدلية

مرة من سنارة صيد وأخرى من ريشة في جناح الغراب المعرّف والمعلوم والمحتوم كذلك.. نعم حياتنا البشرية قصيرة مقارنة بسوانا من الكائنات ..في زيارتي الاولى والأخيرة للشاعر عبد الخالق محمود في بيت أخته..حيث اصطحبني استاذي محمود..ودار الحديث عن الحياة والأصرار وتناقش محمود مع عبد الخالق وهو يعرض علينا مخطوطته الشعرية..وبعد لحظة صمت ..أطلق عليها الأستاذ محمود الثريا التالية..(ألوان الظهيرة المائية)..وبكل مرحه مع عبد الخالق..بعد ان فتشت عيناه ارجاء الغرفة الصغيرة

وسأله : أين خبأت أسلحة الدمار الشامل؟ وكان السؤال عميقا جدا بدلالته الساخرة، وهو يوظف المتداول سياسيا في الاعلام الدولي حول حيازة العراق(أسلحة الدمار الشامل) وحين أخبرته إنني كتبتُ مقالة حول زيارتنا ..أو صاني ان احذف سؤاله الذي وجهه الى الشاعر عبد الخالق..فطمئنته إنني من المستحيل ان أوّرط نفسي..ولم أنشر المقال إلاّ بعيد رحيل الشاعر عبد الخالق محمود*..في طريق عودتنا من بيت أخت عبد الخالق ونحن في سيارة أجرة كان استاذ محمود صامتا في الظاهر..خلافا لما كان عليه  ونحن ذاهبان الى عبد الخالق..حيث حدثني عن أمنية السياب التي تتعلق بالعمر الطويل المكرس للقراءة والكتابة..كان يحدثني بنبرة خاصة ..هل كانت نبرة السياب..التي كان يجيد محاكاتها..حين رجوته ذات ضحى في حديقة منزلنا؟ وهل من خلال هذه النبرة القناع الآن كان الاستاذ يكرر أمنية السياب ويريدها لنفسه ليزيدنا بهجة من بهجته القابلة للقسمة علينا نحن مريده..ماالموت؟ أنه لايمتلك أفضل صفات الحياة..أعني صفة القصر ..ف(قصر الحياة الذي يثير الأسى بلا انتهاء قد يكون أفضل صفاتها)..هل سبب القصر (ان قوى الطبيعية التي تم إخضاعها..تكافح كي تسترد من الكائن الحي المادة التي إنتزعها منها؟).. أعني هل قوى الطبيعة تخشى على قواها من العقلنة البشرية؟ فهناك كائنات أعمارها أضعاف عمر الإنسان..لكنها تحيا دون معرفة الموت..أما البشري فحياته مرتهنة بالموت فمزحة الحياة ختامها لحظة تراجيدية..وهكذا رأى الحياة الشاعر عبد الخالق محمود كما رصدها محمود عبدالوهاب ،وهو يثبّت رؤيته في قصيدة (حياة كأنها مزحة) المهداة( الى أخي الشاعر عبد الخالق محمود إهداء متأخر)..وهذي القصيدة تحتفي بالحياة ولاترتعد من الموت وهو إحتفاء نسقي بأعراس الحياة اليومية من خلال نصائح المتكلم الحي الى الشاعر الراحل

وسأعمد الى إحصائها :

*لاتبدد جسدك

وأحفظه

*ولملم عظامك

ليطول نهارك

*أفتح عينيك على سعتهما

مسافة

أن يخترق العابرون المتعجلون

والحافلات الضاجّة

والصغار إذ يطوون طريقهم

مثل سلاحف

ليخترق هؤلاء جميعا

بؤبؤي عينيك

*لتتسع عيناك

مسافة

أن ترى كيف يلامس هواء ذلك الصباح

خديك

وكيف يطول الشارع بالمارة

وكيف يناديك البائعون اليوم، الهالكون غدا

*إلمس بضاعتهم

*وليحتك كتفك بطابوق دكاكينهم

*كي يخفق قلب يومك

*تملّ الوجوه

وزوايا الحجرة

وستائر الحداد المخلوعة من نافذتك

*تمل الأشياء

كما لوكنت ستغادر الآن

*قلت لك ولم تفعل

ليبتعد جفناك

مسافة

وحاذر

 حاذر

ان تطبقهما

تخسر كل شيء

تكن أنت المرئي

لاالرائي

ان محمود عبد الوهاب هنا لايخاطب الشاعر عبد الخالق فقط

بل يخبر الاحياء من أصدقائهما..ان محمودا حاول ان يخلص عبد الخالق بسنارات هذه النصائح من لجة عزلة مطبقة خانقة اختارها الشاعر عبد الخالق.. اراد من الشاعر ان يكون حيويا ومتفاعلا مع مباهج الحياة وهو يحصيها له…لكن الشاعر عبد الخالق ،أعتبر كل هذه النصائح محض مزحة من محمود عبد الوهاب

و(لكنك احتسبت نصيحتي مزحة) تتكرر ثلاث مرات

وفي المرة الرابعة تأخذ الصيغة التالية

(لو كان

لو لم تحتسب نصيحتي

مزحة،

لما مضى مثل مامضى

ولما فات مثل ما فات

ولكن مافات مضى

ومامضى قد فات)..

حين أعود الى نصائح محمود الى عبد الخالق أراها نصائح عين، فمحمود يطالب عبدالخالق بملامسة اليومي المتحرك

بعينيه لينتقل الحيوي من الموضوع  الى الذات الشاعرة في عبد الخالق: (أفتح عينيك) (ليخترق هؤلاء جميعا بؤبؤي عينيك) (لتتسع عيناك)..(تملّ الوجوه وزوايا الحجرة)

(ليبتعد جفناك مسافة وحاذر حاذر ان تطبقهما/ تخسر كل شيء/ تكن أنت المرئي/ لاالرائي)..وأهمية الرؤية سنجدها

في هذا النص الباذخ عمقا..

(إصغاء

إصغِ بعينيك :

للنهر

والطير

والريح

لالهدير اللغط الذي من حولك

تأمل ماتسمع

وصدّق عينيك

انهما ، أنت َ

وأذناك غيرك)…

وسيكون للعين مسراتها الموجعة في نص (كلّ في قفصه)

(وأنت تغتسل بماء الصباح

 في زاوية من شقتك

تلمح من شبابيكها الزجاجية المقفلة

لون السماء

وحركة الهواء المتدافع

وشبابيك الشقق حولك

والجيران المتعبين

هم ، وأنت

مثل طيور الحبّ

تتقافزون على مسانيد أقفاصكم

تضربون بمناقيركم

حديدها

ثم ترفعون ببلاهةٍ

رؤوسكم الى السماء)

ان الرؤية هنا ليست مباشرة، بل هي مبأرة  بطوق يحدد الرؤية ويوجهها ،وعامل التبيئر هنا : الشبابيك ، وللقاص علاقة عريقة مع الشبابيك منذ،قصته (القطار الصاعد الى بغداد/ 1953)..(أطللت برأسي من النافذة أودع الوجهين اللذين سأتركهما، فألفيت أمي قد عقلت عينها على نافذة عربتي بينما كان عودة يبتسم بمرارة/ ص75/ رائحة الشتاء)

وإذا كانت هذه نافذة القطار، ذات وظيفة ثانوية، فستكون ثمة نافذة بمنزلة الشخصية المحورية في قصة (الشباك والساحة/  أيلول/1969)..والشباك هنا هو ماتبقى من الحرية عبر النظر للصبي المشلول ،في نص (كلٌّ في قفصه) الكثرة تعاني من شلل خاص (والجيران المتعبين / هم ،وأنت / مثل طيور الحبّ/ تتقافزون على مسانيد أقفاصكم /تضربون بمناقيركم / حديدها / ثم ترفعون ببلاهة ٍ/ رؤوسكم الى السماء)..إنها اتصالية تضاد بين الذات الواعية والعالم… بين الحلم  واليومي بأوراقه الرسمية….

(  فالكتابة حلم

 والعالم يغتال الأحلام

والكاتب المصلح

لم يصلح شيئاً

كتب َ مرات ٍ ومرات

لكن العالم يجري كما كان

والكاتب الصالح في روحه

أفسده العالم الذي يقاوم الإصلاح)… العالم يغتال الاحلام ويفسد الكاتب الصالح، وأولئك حفدة علماء الكلام والمعتزلة

مضغهم الوقت وصيرهم من اشلائه ف( الوقت غول / يلقف مايفعلون /ص93/ البقاء للأشياء/ دفتر….المريض)..

*كاظم اللايذ/ دفتر على سرير الرجل المريض / محمود عبد الوهاب ..شاعرا/ من منشورات مجلة الشرارة / ط1/ 2013

مشاركة