السلوك المسالم بين الوراثة والتربية والإعلام – عــلاء لازم العيـسى

السلوك المسالم بين الوراثة والتربية والإعلام – عــلاء لازم العيـسى

يُلاحَظُ أنّ كتب علم النفس وعلم الإجتماع وفلسفة الأخلاق تظلّ حافلة بنشاطٍ ملحوظ وبتراث علميّ ضخم فيما يتعلق بالنظرة إلى طبيعة الإنسان من حيث الخير والشر ، وهل أنّ الكائن الآدمي عدوانيٌّ في طبيعة تركيبته ، أم إنّه يكتسب العدوانية من بيته أو بيئته بما يكتنفهما من ثقافةٍ منحرفة ؟ فيرى بعض الفلاسفة أنّ الإنسان يولد خيّراً بطبيعته في الأصل ولكنه بسبب المحيط الفاسد ، أو بعض نقاط الضعف النفسية كالطمع مثلاً ، أصبحت طبيعته مشوهة ، ولهذا فهي تتطلب قسوة وصرامة النظام القانوني العقابي للسيطرة عليها وكبح جماحها ، وأشهر من عبّر عن هذه الفكرة في العالم الغربي القديم الفيلسوف الروماني ( سينيكا ) الذي ينتمي إلى الفلسفة الرواقية ، وهذا الرأي عينه اتخذه الفيلسوف الصيني ( منشيوس ) .

مذهب اللذة

أما الإنكليزي جرمي بنتام ( ت 1832م ) الذي أفاد من بعض آراء توماس هوبز وجون لوك وهيوم ، فقد اتخذّ من ( اللذة والمنفعة ) مقياساً للخير أو الشر ، فالسلوك الشخصي لا يُعد صواباً أو خيراً إلّا إذا اعتقد صاحبه إنّه سيجلب أكبر قدر ممكن من اللذّة أو النفع بين الناس المعنيين بالفعل ، وإنّ اللذّة هي الشئ الوحيد الذي يُرغب فيه لذاته ، فإذا خيّرنا بين جملة أعمال فاللذة هي عماد الإختيار ، كما أنه رفض سلطة سلطة التعاليم الدينية والتقاليد والأعراف كمقياسٍ للخير والشر . وهذا الرأي تطرق له أيضاً الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت مل ( ت 1873م ) في كتابه ( مقال عن الحريّة ) حيث دلل على أن الحرية تعني أن يترك للفرد مجال واسع لاختيار ما يريد أن يفعله ، أو ما يريد أن يكونه ، وليس لقوى الرأي العام الحقّ في وضع القوانين التي تتحكم في سلوكه .

نقد واعتراض

ولم يسلم هذا المذهب من النقد فقد اعترض عليه باعتراضات عدة منها أن مقياس المنفعة أو اللذة ، لا يكون دائماً مقياساً ثابتاً ومحدوداً ، وهذا يجعل الحكم بأنّ العمل يدرج في قائمة الخير أو في قائمة أعمال الشر مجالاً للخلاف الكبير ، فمدار الحكم هو اللذة والألم والمنفعة ، وهذا يختلف باختلاف الأشخاص والبيئات والوعي ، فقد يرى أحد في عمل ما لذة كبيرة ، ويرى آخر في العمل نفسه لذة أكبر أو أقلّ ، فيترتب على ذلك اختلافهم في الحكم على الشئ ممّا يتسبب الفوضى الأخلاقية والانحلال بسبب شيوع الفوضى المعيارية والمفاهيميّة ، فقد نتخيّل إنّ مجرماً يشعر بلذة كبيرة وهو ينقضّ على ضحيته فيمزقها ويقطع أطرافها، فهل إننا من أجل هذا الإحساس ننقضّ على كلّ من نقابله ونقطّع أطرافه .

  فرويد والوجدان الأخلاقي

ويرى النمساوي سيجموند فرويد ( ت 1939م ) إنه لا يوجد تصور للخير أو الشر ، لا في تاريخ البشرية ولا في تاريخ الفرد ، وهذه التصورات تتفرع عن المحيط الاجتماعي فقط ، ففرويد لا يرى ( الوجدان الأخلاقي ) أساساً فطرياً أصيلاً أصلاً ، بل إنه كما يوضع اللجام في فم الحصان الشموس للسيطرة عليه ، كذلك يفعل الوجدان الأخلاقي الذي هو حصيلة النواهي الاجتماعية في تهدئة السلوك الاجتماعي والمحافظة على النظام ، ولأجل ذلك سلب قبح الفعل من إدراك ( الوجدان الأخلاقي الفطري ) ونبّه على ندامة الفاعل من عواقب جريمته ، وعلى هذا فإنّ الفرد ـــ عند فرويد ـــ هو مقياس الخير والشر فلا يوجد شئ واحد في ذاته وبذاته ، ولا يوجد شئ يمكن أن يسمى أو يوصف ، وبهذا تبطل الحقيقة المطلقة لتحلّ محلها حقائق بتعدد الأشخاص ، وربّما بتعدد حالات الشخص الواحد ، مما يفقد الأخلاق مهمتها وقيمتها الأساسية في تحديد السلوك ، وعدم إخضاعها لنوع من النظام والمنهجية ، لتحل محلها الفوضى المتأتية من المفاهيم النسبية للأخلاق التي تختلف باختلاف الزمان والمكان والعقول والمجتمعات ، وهذا مخالف للعقل السليم والفطرة السليمة ، فالأخلاق عالمية بطبيعتها فالكذب وخيانة الأوطان وظلم اليتيم  رذائل في كلّ مكان وزمان ، والشجاعة فضيلة ومنقبة للإنسان في كلّ بلد ومن أيّ فرد.

   المفهوم الاسلامي

أمّا المفهوم الإسلامي للخير والشر في سلوك الإنسان ، فإن الإنسان لا يولد شريراً ولا خيّراً ، وإنما يولد وهو يحمل الاستعداد للخير والاستعداد للشر مع حرية الإرادة والاختيار لأحدهما ، مصداقاً لقوله تعالى : ( ونفسٍ وما سوّاها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكّاها وقد خاب من دسّاها ) ( الشمس 7 ـــ  (10   فالفلاح أو الخيبة يأتيان بعد الولادة بسبب تأثير بعض العوامل الموضوعية الخارجية كالتربية البيتية والبيئة التي ينشأ فيها الفرد ، أو الذاتية كالوراثة والتجارب الشخصية للفرد نفسه. كما إنّ في الإنسان  ـــ من وجهة نظر الإسلام ـــ انبعاثاً باطنياً فطرياً ، ونزوعاً إلى الحقّ والخير يساير جميع مراحله يميّز بين الخير والشر يمكن التعبير عنه بالحاسة الأخلاقية أو الوجدان ، وهو الذي عبّر عنه القرآن الكريم بـ ( النفس  اللوّامة) ، فعن واصبة الأسدي أن رسول الله ( ص ) قال له : جئت تسأل عن البر والإثم ، قال : نعم ، قال  فجمع الرسول ( ص ) أصابعه فضرب بها صدره ـــ أي صدر واصبة ـــ وقال : استفت نفسك ، استفت قلبك يا واصبة ( ثلاثاً ) البرّ ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب ، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك .

 هذا الوجدان نشعر به كأنه صوت ينبعث من أعماق صدورنا يأمرنا بعمل الواجب ، ويحذرنا من المخالفة ، ولو لم نرج مكافأة أو نخش عقوبة خارجية ، وهو الهاتف الباطني المصحح لكل عمل يؤدي بنا إلى الرذيلة ، وهذا الهاتف الباطني هو الذي أطلق عليه عالم الاجتماع المشهور أميل دوركايم ( ت 1917م ) تسمية       ( الضمير ) عندما قال 🙁 إنّ لدى الإنسان ـــ وليس كل إنسان ـــ ميولاً وعواطف وأهواء كثيراً ما تحول بينه وبين الخضوع لأوامر الضمير ، ولكن تصور العقل فكرة القانون الأخلاقي هو الذي يجئ فيحفزه على الانتصار على ميوله والتحكم في عواطفه ، والتغلب على أهوائه ، وهذا الواجب الأخلاقي يجعلنا ننمي الهاتف الباطني الذي نسميه الضمير ونجعله الأساس في بناء شخصيتنا السليمة القوية ) .

وسائل الاتصال الاجتماعي

ومن الحقائق المعاشة والملموسة التي أفرزها الواقع العراقي ، وأفرزتها المرحلة الحرجة التي يمر بها بلدنا العزيز ، أن للإعلام الموجه بكلّ وسائله المقروءة والمنظورة والمسموعة ، ولاستخدام وسائل الاتصال ذات التقنية العالية كالقنوات الفضائية ، ومواقع الانترنت ، والمدونات الالكترونية ، وصفحات التواصل الاجتماعي ، دور كبير في بلورة وتعزيز روح المحبة والتسامح ، وفي ترسيخ قيم السلم المجتمعي والتعايش المشترك ، أو في بث رسائل الكراهية والجريمة والعنف . إن سهولة الاستخدام التقني للشبكات المعلوماتية ووسائل الاتصال الاجتماعي في كل مكان في المنزل أو المقهى أو السيارة أو المدرسة ، وأثناء المسير أو الوقوف ، وحتى في الفراش أثناء النوم ، وبأسعار قليلة التكلفة ، وبعيداً عن الرقابة الأسرية والاجتماعية ، مع وجود الفراغ القانوني المتمثل بعدم وجود قوانين تجريمية ، وعقوبات رادعة لمن يسئ استخدام هذه الوسائل استخداماً سيئاً ، يجعل هذه الوسائل من أخطر أشكال التهديد لقيم السلم المجتمعي ، بل أخطرها على الإطلاق .