السلطة والمكان – هبة وسام عزيز

هبة وسام عزيز

مدخل:

السلطة هي ((التسلّط والسيطرة والتحكم)) ( ) بمعنى التسلط على شيء والسيطرة عليه تحت الهيمنة المطلقة أي ((القدرة والقوة على الشيء)) ( ) وعلى هذا الاساس فالسلطة تتجسد في الهيمنة والسيطرة والتمرد في اطار محدد بوصفها قوة ترتبط ببؤرة تُخضعُ الشخصية لإرادتها وتوجيهاتها في المكان.

وقد بات من المسلّم به ((أن ممارسة السلطة هي من أحد أشكال القوة… السلطة اذن هي نوع من انواع القوة تنظم جهود وواجبات الاخرين من خلال الأوامر التي تصدرها لهم)) ( ) وتعبّر السلطة عن الامتلاك اذ تبني لها استراتيجية الحضور بأفعال شريحة ما في مجتمع ما بعينه فتصبح هي المتحكّمة بها، إلّا أنَّ السلطة هنا تخص المكان، فالمكان له سلطة على الشخصية وقدرته في فرض ارادته، ووظيفة المكان عبر السلطة القدرة على تشكيل مساحة ينبثق عنها مكان له سطوة الحضور على الشخصية وهنا يصبح المكان هو المهيمن على حراكها، واخضاعها لكل العوامل التي توجد في المكان.
فالمكان يرتبط ((ارتباطاً لصيقاً بمفهوم الحرية، ومما لا شك فيه ان الحرية- لاكثر صورها بدائية- هي حرية الحركة. ويمكن القول إنّ العلاقة بين الانسان والمكان- من هذا المنحى- تظهر بوصفها علاقة جدلية بين المكان والحرية، وتصبح الحرية في هذا المضمار هي مجموعة الأفعال التي يستطيع الانسان ان يقوم بها دون أن يصطدم بحواجز أو عقبات، أي بقوى ناتجة عن الواقع الخارجي، لا يقدر على قهرها او تجازوها، وقد نستعين ببعض الصور المكانية لكي نوضح هذا الصراع بين الانسان الذي يصبو نحو الحرية والوسط الخارجي الذي يحد من هذه الحرية)) ( ) والعلاقة الجدلية تكشف عن مجموعة الافعال السردية من خلال الصور المكانية، والتي توضح سيرورة العلاقة ما بين الحرية (حرية الحركة) والوسط الخارجي (المكان) لبيان السلطة فيهما.

لا بُد للسلطة من أن ((تتجسد في كل الآليات التي تتحكم في العلاقات الاجتماعية بشكل عام، وتصبح بذلك مجموع علاقات القوى والآليات المتعددة في مجتمع ما، في زمان ومكان معينين، والتي ينتج عنها المفهوم الشائع للسلطة. فالسلطة من خلال ذلك موجودة في كل زمان ومكان)) ( ). فسلطة المكان تسعى للسيطرة على كل ما يحيط بالشخصية من افعال بموازاة الواقع الإجتماعي الذي يفرض قيوداً على حراكها وتفاعلها مع القوى التي تؤطّر جمالية المكان ووظيفته التي وضعت له.
كما ويسعى النص الروائي في بنائه لعناصر السرد الى أن يحدد هوية المكان و((يرتبط المكان بالإنسان ولذلك تتحدد حرية حركة الانسان بطبيعة المكان الذي يوجد فيه، من هنا تتأثر حرية الفرد بنوعية المكان أيضاً، فالإنسان يعيش في بيته ويتحرك بحرية اكثر، لكن ما ان يخرج من بيته حتى تتسع مساحات المكان، ويبدأ في الخضوع لسلطة المكان)) ( ).
وعلى وفق ما تقدم فإن سلطة المكان تمارس دورها ووظيفتها على الشخصية سواء في الداخل او الخارج، وتقوم السلطة باختزال ومصادرة الافعال وتجسيد هيمنتها وتعمل على تقارب الأمكنة بشكل منفصل او متصل عبر السلطة المكانية، فالمادة الحكائية تخضع لفضاء السلطة وتكشف عن تماثل المكان في بوتقة واحدة. ((غير أن المكان قد يظن أنّه يحوز على قدر من الكلية من خلال اتساعه الذي يتوقف عن حدود الأفق، ويساعد على ذلك ما اطلق عليه تخوم المكان التي تجعله يرتبط بعلاقة مع الأمكنة المختلفة عنه)) ( ) والتي تتفرع منه أمكنة اخرى.

وتنقسم أمكنة السلطة على اربعة أقسام:
• المكان الفارق
• المكان المنشطر
• المكان المتشظي
المكان الموازي
• المكان الفارق الوسطي

يقترب المكان الفارق من المكان الحدّي لكنه في النص الروائي له خصوصية تميزه عن المكان الحدّي، فهو المكان الذي يتشكّل في النص الروائي ويعمل على فصل تام بين مكانين في مشهد سردي واحد، وهذا ما ميّز المكان الفارق بتشكيل أحادي بسبب المساحة الجغرافية التي يحددها النص الروائي له وهذا ما دعانا الى أن نفرد له نوعاً خاصاً به، غير المكان الحدّي الذي يكون حاجزاً بين مكانين متصلين، ولدينا تسمية تقترب من دلالة المكان الفارق ( الفارق اي بمعنى الفرق بين مكانين مختلفين او متشابهين) وهي المكان الوسطي، اذ يتوسط هذا بين مكانين لا أكثر، ويؤثث تشكيلاً بصرياً ملحوظاً له تخوم وحدود خاصة به.
ومن خلال استقراء النماذج الروائية تبين لنا أن المكان الفارق فرض وجوده في الروايات قيد الدراسة جميعها، لذلك كان الاهتمام به بالغ الدقة مع باقي الأمكنة المستحدثة، ولقد أملت القراءات المتتابعة عن ولادة هذا المكان حيث انتبهنا الى تشكّله بهذه الخطاطة، اذ يفرق بين مكانين مما يظهر وظيفة الوصل بينهما بمكان له تسميته الخاصة وحدوده، فسوف ينتج عنها امتلاك المكان طبيعته وحدوده وجغرافيته التي تؤطّر محيطه.

• المكان المنشطر الى عدة امكنة:
المكان المنشطر هو المكان الواحد الذي ينشطر الى اكثر من مكان وتحدد الشخصية ذلك الانشطار عبر مكان واحد لكن مقطّع او مجزّأ اي مُجتزأ الى امكنة عدّة بحسب المساحة المراد تصويرها، ولا يتّبع طريقة تصنيفية او حدود معينة او مساحة محددة، ويكون الانشطار بحسب اصطفاف المكان باستراتيجية غير منتظمة تعمل على استقلال كل مكان عن غيره، وأصبح كل شطر جزءا يحدد فضاءه.
والمكان المنشطر هو مكان أحادي أو واحد يتفرع الى امكنة تتناوب بتشكيل منفرد بحسب بناء المكان، على الرغم من اننا اردنا ان نطلق على هذا المكان بأسم (المكان المنقسم) الذي ينقسم على أمكنة عدّة، إلّا أن الانشطار يغيّب المسافة ويلغيها في حين ان الانقسام ربما يكون بنسب محدودة، فوقع الاختيار على المكان المنشطر.
فالبيت مثلا ينشطر الى غرفة وحمام وفناء وقبو وهكذا، ويظهر الانشطار لإضفاء طابع الحركة على الشخصية بقوة حضورها ووجودها فيه.

• المكان المتشظّي الى امكنة مغايرة
ونقصد بالمكان المتشظّي: المكان الذي تتفرع منه امكنة عدة مختلفة لا رابط بينها ولا يجمعها مكان واحد، فهو المكان الذي لا يتجزأ (كالمنشطر) بل ينفصل راسماً حدوده وتضاريسه وخصوصيته، فالشخصية حين تكون في البيت، ثم تخرج الى الشارع، وتمر بزقاق، ثم الى مبنى _مثلاً_ تسير على وفق خطاطة مكانية متشظّية يطلق عليها التشذّر السردي، وهي ((تقنية أدبية ورؤية للعالم تبدو هذه التقنية حديثة، اذ انها تمثل – منذ بدايات القرن في المجتمعات الغربية- تمزق وحدة الرواية التي انجزت في العقود الذهبية للرواية الواقعية والطبيعية، لكنها – مع ذلك- موجودة منذ القدم، فقبل ازدهار مفهوم الوحدة للحبكة الروائية نرى القص لا يترتب على النمو حول خط واحد ومستقيم، في القص العربي مثلا، يقوم فن القصّ على فقرات من السرد يجمعها، او لا يجمعها الاطار الواحد) ( ). التشظي الموجود هنا هو التشذّر السردي والتقانة المستحدثة التي تعمل على تمزيق وحدة الشيء، فلا تراتب على نمو الاحداث بخطّها المستقيم المعروف، بل تقطيع يجمعه اطار مكاني واحد او متعدد، والتشذّر ميزة من مميزات القصّ الحداثوي والتغاير مع تقطيع المشاهد السردية سواء اجتمعت او اختلفت.
اذن تشظي المكان إلى أمكنة يتساوق مع تشظي الرواية الحديثة إلّا أنَّ المكان المتشظّي منفصل فيه كل مكان عن قرينه. وعلى هذا الاساس فإن ((النص فضاء مكثف بالدلالات المتنوعة والمتشظية، بها يشتت النص قارئه في اتجاهات مختلفة. والنظر الى المكان بحسب هذا المفهوم التفكيكي يخرجه من دلالاته الاحادية الى دلالات سياقية متكاثرة ومتشظّية، فالمكان يتشكل من خلال التفاعل مع الكتل البشرية التي تودعه رغباتها واحاسيسها ومصالحها. ولهذا تنشأ المعاني والدلالات المتنوعة والمختلفة للمكان، وفي الواقع فكل اتصال بالمكان من قبل القوى الفاعلة هو محاولة لتشكيل معنى من خلاله وبه)) ( ). اذ يخرج المكان من دلالته الاحادية التي ظلت في نسقها العام لتعيد بناء ادلجة المكان التقليدي الى دلالات سياقية تتكاثر وتتشظّى معلنة عن سلطة متجددة.
إذن صيغة التشظّي المكاني ((تجعل افاق الاستثمار والحفر النصي مثمراً، وينتقل النص وفق ذلك الى فضاء التشتّت والاختلاف، ويكتسب المكان دلالات عرضية، فهو بقدر ما يبوح بدلالاته يتستّر على بعضها الآخر. إنّ المكان… يتضمن فجوات وانقطاعات، مناطق لا مفكر فيها، وتأتي المكانية الى هذه الارض الملغّمة بالدلالات، وتحفر فيها، لتكشف- وهذا هو هدفها- الآليات التي يستنتج بها المكان من قبل القوى الفاعلة. ومن هنا على المكانية الّا تكتفي بالتوصيف، وإنّما تتجاوز ذلك الى تقويض المكان وتفكيك البديهيات والمسلمات التي أرسي عليها على اسسها، كذلك تعويم شعرية المكان في النص الروائي)) ( ). فالتفكيك أرسى الدلالات والأسس التي سوف تنبثق من التشظّي، فتتمظهر على السطح (سطح النص) المكانية التي تزيل المكان وتأخذ دوره من حيث التفكيك والكشف عن الآليات من قبل القوى الفاعلة لإنتاج قيمة المكان المغايرة. ويفترق المكان المتشظّي عن المنشطر، فالمنشطر هو مكان واحد يتفرع الى أمكنة، اما المتشظّي فهي أمكنة مختلفة متّسقة مع بعضها.

• المكان الموازي لمكان في مشهد سردي واحد:
التوازي في اللغة هو ((مظهر من مظاهر الاتساق،… وهو التطابق التام في البناء)) ( ). وهذا الامر يشير الى عملية تنظيم وتوزيع بشكل تراتبي، ونحن نقترب من هذا الكلام فيما يخص المكان الموازي الذي سوف يتسق اتساقاً تاماً يتطابق فيه مع مكان ما له وظيفة التوازي في المشهد السردي، إنّه المكان الذي يرد في النص الروائي موازياً لمكان آخر بصرف النظر عن التطابق في او التماثل بالشكل، ولو اردنا تمثيل المكان الموازي:

فالمكان الموازي هو تحوّل في حركة الشخصية ثم انتقالها الى مكان موازٍ له أو هو مكانان مختلفان في كل مكان تتطابق أفعال الشخصية او تختلف، ويرد بصورة هامشية وبشكل قلق يتطابق لفظياً وليس بنائياً مع المكان المذكور في المشهد المكاني. وهو مكان قلق، ويأتي ضمنا في الحدث الروائي، وتعد وظيفته جمالية، لكنه يمارس سلطته في النص. وهنا تتمظهر قدرة الروائي في فاعلية هذه السلطة التي تبدو للوهلة الاولى هامشية.

 

مشاركة