نبض القلم
السعادة – طالب سعدون
السعادة غاية مشتركة لجميع البشر.. وهي من القضايا الجوهرية التي يتفق عليها الجميع ولا يختلف عليها اثنان ولكن لا يمكن ان يصلها الجميع ايضا فهناك تفاوت فيها .. كتب كثيرة صدرت عن السعادة منها ( كيف اكون سعيدا ) للصحفية والكاتبة البريطانية هارييت جريفي ضمن سلسلة ضمت كتبا عديدة منها ( كيف اكون مبدعا ) .. و ( كيف اتخلص من التوتر ) .. و ( كيف انظم حياتي ) .. و(تركيز افضل انجاز اكبر ) .. و ( اريد ان انام) .. وكأنها وصفات جاهزة تصلح لكل انسان وهذا محال ..
تكتشف من هذا الكتاب وغيره أن أشياء بسيطة يمكن أن تغيرحياة الانسان كثيرا وتخلق فرقا واضحا بين انسان وآخر ويبشر هؤلاء الكتاب السعداء بانهم أكثر صحة وإنتاجية وينشرون المرح حولهم ..
وتكتشف أن الكثير من الناس يحصل لديهم خلط بين المتعة والسعادة وكأنهما شيء واحد .. قد يحصل تداخل بينهما لكنهما مختلفتان ولكل واحدة منهما صفاتها الخاصة .. واذا ما حصل أحيانا التداخل في حالات خاصة لا يمكن أن يلغي صفات كل منهما الخاصة أو أن يستمر الخلط طويلا .. فالمتعة شيء مؤقت وتحصل نتيجة عوامل خارجية فهي بهذا الوصف على عكس السعادة التي صفتها انها تعطي وتكون نتيجة شعور من الداخل يتأثر به من حوله وهي نتيجة إنجاز على المستوى الشخصي وتكون طويلة الامد على عكس المتعة قصيرة الامد وهي عضوية بينما السعادة نفسية.. والاهم في الاثنين ان السعادة تشير الى العطاء بينما توحي المتعة الى الاخذ ولهذا فان صفة المتعة اقرب الى الانانية لان الانسان يشعر بالمتعة وحده على خلاف السعادة التي تأخذ الطابع الجماعي بين الاصدقاء والمحبين ومن حوله من الاخرين ..
وقد يقود الافراط في المتعة الى الادمان على عكس السعادة فليس فيها ادمان ..
باختصار المتعة تشير الى الفرح والبهجة ومن هنا تاخذ صفة المؤقتة .. فليس هناك فرح دائم وانما يتعلق بسبب معين ولهذا تختلف مصادرها من شخص لاخر فهناك من يجد متعته في القراءة والاخر في الرياضة وثالث في الموسيقى وهكذا بينما السعادة شعور يرتبط بالعطاء وتشير الى رضا الانسان عن حياته بمختلف جوانبها النفسية والعاطفية والاجتماعية والمهنية والاقتصادية ويكون لها انعكاس مباشر على حالته المزاجية فلا يعرف الحزن والافكار السلبية طريقها الى حياته وبالتالي يعيش حالة من الاستقرار والطمانينة والراحة والقناعة .
ان النقطة الجوهرية في الاختلاف بين السعادة والمتعة هي ان المتعة ترتبط بالدوبامين ( الناقل الكيمياوي الحيوي العصبي ) والسعادة ترتبط بالسيروتونين (الناقل الكيمياوي الحيوي للسعادة – الناقل العصبي .
ويقول روبرت لاستينج أستاذ المخ والأعصاب الأمريكي في كتابه ( اختراق العقل الأمريكي) انه ثبت علميا أن هناك شيئا واحدا يقلل السيرتونين وهو الدوبامين .. وهذا يعني انه كلما سعينا للحصول على المتعة كلما قلت السعادة التي نحصل عليها .. فلماذا يركض الناس وراء متعتهم على حساب سعادتهم ؟ وهنا يحذر من اختراق الدعاية للعقول ويرى ان هناك فرقا بين التسويق والدعاية .. الاول يعتمد حقائق عن المنتج والثانية تعتمد على معلومات خاطئة عنه .
وفي القرآن وردت كلمة السعادة في موضعين في سورة هود.. الاول : ( يوم يأت لا تكلم نفس إلا باذنه ، فمنهم شقي وسعيد ) (105).. وموعده يوم القيامة ..
والثاني : في الجنة .. ( وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ) .. ( 108).. فأهل الجنة يوم القيامة سعداء بما انعم الله عليهم جزاء أعمالهم الصالحة في الحياة الأولى .. وتلك هي السعادة الحقيقية ..
وفي الدنيا إختلف الناس في رؤيتهم لها وذهبوا مذاهب شتى.. كل واحد يراها بمنظاره الخاص ورغباته.. هناك من يراها في الجاه والسلطة والمنصب ، وأخر في الشهرة والنجومية ، وغيره في المال حتى وإن جاء عن طريق حرام ..وقس على ذلك الكثير..
وإشباع تلك الرغبات قد ينقلب وبالا على المرء إن لم يكن متوازنا ، ويحسن إستخدامها ، ويجتاز الابتلاء فيها بجدارة عالية ، لذلك كانت الحياة الطيبة وعد من الله للصالحين ( فلنحيينه حياة طيبة ) …
والحياة الطيبة هي الرضا والقناعة وليس شرطا كثرة المال وانما كفايته .. وليست الحياة المترفة بل الحياة التي يتمتع بها الانسان بالإشباع المادي والأمان النفسي. (الذي أطعمهم من جوع وأمنهم من خوف )
الحياة بالنسبة للمؤمن محل اختبار ..
قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت
ويبتلي الله بعض القوم بالنعم
هكذا يرى الامام علي السعادة وقد لخصها بقوله :
النفس تبكي على الدنيا وقد علمت
إن السعادة فيها ترك ما فيها
واختصر الشافعي السعادة بالبيت الأتي :
سر السعادة حسن ظنك بالذي
خلق الحياة وقسم الأرزاقا ..
الايمان يرتقي بالانسان ويجعله سعيدا .. والقناعة ( كنز لا يفنى ) تجعله ينظر الى الحياة ببساطة ، ويركز على ما هو جميل فيها .. وتجعله ينظر الى ما يملك بقيمته ، وهي لا تكمن بما يملك ، بل في الاستمتاع بما يملك ..
السعادة تنبع من داخل الانسان ، ولذلك قد يجد الانسان سعادته في عمل يوافق حكم الله والضمير ، ويترك ما عداه ، حتى وإن كان ثمنه غاليا .. وفي هذا المعنى يقول الامام الحسين :
والله لا أرى الموت الا سعادة والحياة مع الظالمين الا برما ..
فلا سعادة بدون كرامة ..
ولا سعادة تقوم على شقاء وبؤس الاخرين ..
ولا سعادة في الدنيا إن خسرت الأخرة .. السعادة الحقيقية في القرب الى الله ، والشقاء في الابتعاد عنه ..
الخلاصة كما يوضحها الدكتور لاستينج :
المتعة هي أن تقول .. هذا الشعور جميل .. أنا أريد المزيد .. فالمتعة تولد المزيد من المتعة ..
اما السعادة فهي تقول هذا الشعور جميل .. أنا لا احتاج المزيد.. فانا راض . .
{ { { {
كلام مفيد :
نسمع كثيرا عبارة ( قد تعود المياه الى مجاريها ) .. ولكن هل في عودتها تكون صالحة للشرب والاستخدام البشري .. ؟ .. ذلك هو المهم .. وهذه حكمة تعلمنا أن لا نجرح ، أو نؤذي أحدا ، أو نرتكب خطأ بحقه ، ثم نعتذر ، اذ ربما يبقى فيها من الشوائب شيء ، أو لحقها من التلوث ما لا ينفع معه الاعتذار ..