السرّ الرهيب

قصة قصيرة

 

السرّ الرهيب

 

 

محمد السيد ياسين الهاشمي

 

 

كان الليل قد جاوز منتصفه عندما سمعنا والحي كله أسى مندثرا بالظلام.. فلم يكن فيه أثر للحياة أو النور. سمعت صوتا مرعبا في شارعنا لا أفهم معناه.. خرجت لأستجلي الأمر، حاملا مصباحي الصغير.. شاهدت (يحيى) جارنا يركض – على غير هدى – وقد مزق ثيابه وخرج عاريا، أمسكت به وألبسته ثوبا بعد تمكني من ادخاله بيتي مهدئا.. مصبرا.. قلت: –

 

–           ما بك يا (يحيى) أجاب بذعر:

 

–           قتلتها.. طعنتها بسكين..:

 

–           من هي ؟ سألته:

 

–           (مريم).. زوجتي… قالها وفي حلقه غصة..

 

هرع الناس من كل حدب وصوب بالعشرات الى مكان الحادث يتدافعون بالمناكب ليلقوا على (يحيى) نظرات ملؤها الأستغراب والدهشة.. اتصلت بالشرطة هاتفيا.. وصلت سيارة النجدة.نزل ضابط الشرطة  ومجموعة من أفراد المركز.. إتجهنا الى محل الحادث.. وجدنا  (مريم) ملقاة على صدرها تنزف دما غزيرا، وهي تنظر الى السماء بعينين غارقتين بالدموع،فليس هناك من يطلع على السرائر سوى الله..

 

نقلت الى المستشفى.. حضر والداها وأخوانها.. فتحت الفتاة الشابة التي لم تهنأ بزواجها عينيها وقالت لأبويها وأختيها :

 

–           لا تحزنوا.. فو الله ما مسني أحد قط غيره.. أوصيكم بأبنتي (اسماء) خيرا.. أهتموا بتربيتها وتنشئتها..

 

–           رحلت الفتاة الى السماء تشكو الى الله بارئها ظلم الأنسان.. بعد الأدلاء بأفادتها.. وجرى التحقيق مع الجاني، وكنت شاهدا في القضية.. قال (يحيى) مجيبا قاضي التحقيق:

 

–           كنت أرغب في الزواج من بنت خالي (موسى) وكانت شابة جميلة.. إلا أن عمي كان يطمح بزواج إبنته الدميمة لي.. فبدأ يطاردني بحقده، وكلما سنحت له فرصة يهينني.. إلا إنني قررت الزواج من أبنة خالي (مريم)  فانتصرت إرادتي.. ولد ذلك حقدا غليظا باطشا.. ظل يفتش عن المنغصات والدناءات.. فاتهم (مريم)  بعذريتها..

 

وألصق نعوتا غير شريفة بها.. واستغل ولادتها لطفلتها بعد مرور ستة أشهر بعد الزواج للتشهير بها:: ثم قطع علاقته معي..

 

–           أكمل.. قاضي التحقيق (ليحيى): –

 

–           كذب.. وكذب.. وتولى.. حتى صدقت الفرية.. مع إنني تعاملت معها كزوجة في بيت أهلها قبل الزواج بثلاثة أشهر بعد عقد القران.. إلا أن الشكوك ووسوسة الشيطان دفعاني الى فعل الجريمة، وارتكاب الخطيئة فقتلتها..قالها وانهار.. فقد أصيب بصدمة عقلية عنيفة مزلزلة لم تتحملها أعصابه الضعيفة.. فازدادت عيناه اتساعا، وقلبه اضطرابا، ويداه أرتعاشا، وعقله عجزا.. صمت وكأن آلامه قد طغت على سطح قلبه فسالت دموعه على وجهه الجاف، لم ترو دموعه تضاريس وجهه بل زادته خنوعا وشحوبا وانهيارا..

 

نقل الى السجن بعد الحكم عليه عشرين سنة.. ولم تمض فترة حتى أودع مستشفى (المجانين)

 

رحت لتقديم التعازي لأسرة المرحومة المظلومة، وعرفت من (الحاج موسى) بأنه سينتقل الى مدينة أخرى.. شد الرحال الى (بغداد) يحمل حفيدته معهم.. كان ثريا.. يعمل بالتجارة العامة.. فاشترى عمارة كبيرة في أسواق (الشورجة).. فتح فيها أسواقا متعددة يديرها  معه أولاده.. وأخرى أجرها للراغبين.. رجاني أن أساعده في أدارة الأعمال.. وأنا خريج الأدارة والأقتصاد.. انتقلت الى بغداد.. مارست أعمالي معه بكل تفان ونجاح.

 

سارت السنون وقد كبرت وشبت (أسماء) بفضل رعاية جدتها وخالتها.. والحظوة الكبيرة من الجد والأخوال.. لم تعرف إلا أن أمها توفت بعد ولادتها بسنتين.. فقد أخفوا عنها (السر الرهيب).. أكملت الدراسة الأبتدائية والمتوسطة ومعهد المعلمات فأضحت معلمة في مدرسة (الأنعام) بشارع فلسطين.. كانت مصادفة من تلك المصادفات التي تلقى الناس في حياتهم على غير انتظار (ورب صدفة خير من ميعاد) فتوجه مصائرهم.. زارت أم (معاذ) مدرسة (الأنعام) لحضور اجتماع مجلس الأمهات والمعلمات، للأستفسار عن مستوى ابنتها الدراسي.. كانت في الصف الرابع الأبتدائي.. توزعت المعلمات للقاء الأمهات.. فكانت المعلمة (أسماء) مرشدة للصف الرابع.. فالتقت المعلمة بالأم.. وهنأتها بتفوق أبنتها.. وتشكر الأم المعلمة.. شاهدت (أم معاذ) أمامها زهرة ناضرة، عينين واسعتين، فيهما شيء من زرقة البحر ونقاء السماء في صبيحة صاحية، ووجها صفا أديمه وأنسجمت تقاسيمه. يريح الناظرين.. وقد نضجت فيها عناصر الأنوثة.. جرى التعارف بينهما.. فقد عرفتها، إذ كانت جارتهما عندما كانوا يسكنون جميعا في مدينة 0 الحلة).. عرفت جدها وآباها وأمها وجدتها.. سألتها: – كيف حال الأهل.. الأب…الأم.. ؟ أجابت: – ماتت أمي.. وكذلك الوالد.. وأنا أعيش في بيت جدي.. وانتهى الحوار.. فأم 0 (معاذ) تعلم التفاصيل جيدا.. وجدت أم (معاذ) ضالتها.. عرضت الأمر على زوجها وولدها فوافقا على فكرة طلب يد (أسماء) لولدها.. تقدم أبو (معاذ) الى الحاج (موسى) لخطبة حفيدته لأبنه.. كان (معاذ) شابا رشيق الجسم، ذا وجه يفيض حيوية وفحولة، ملابسه أنيقة آخذة حظها – وأكثر – من العناية.. جرى التعارف بين أفراد العائلتين.. فتوفرت الفتوة والرغبة بين الشابين.. تمت الموافقة.. وجرت مراسيم الخطوبة وعقد القران.. ووردت الهدايا.. ونقل الجهاز.. وانطلقت زغاريد العائلة، وزينت الدار بالورود.. وتم كل شيء بهدوء.. فلم يدر به إلا الأهل والأصدقاء وخاصة الجيران.. قضيا شهر العسل في (الحبانية) ينعمان بالسعادة والنشوة..

 

مرت الأيام و (أسماء) تتمتع بزواج سعيد وحياة رغيدة لم تنغصهما إلا المعلمة (سراب) من معلمات مدرستها.. ففي أحد أيام الأسبوع وفي الفرصة الرابعة، حصلت مشادة كلامية بينها وبين (أسماء).. حادثة تافهة ومع ذلك فقد نكأ جرحها وسبب لها ألما شديدا.. فجرت أمرا مجهولا، ونبشت قضية مرت عليها أعوام، فكفنها الدهر وقبرها. عيرتها بأن أباها قتل أمها بتهمة غير شريفة. إنهارت أسماء وهوت أرضا مغميا عليها..اصطحبتها أحدى المعلمات الى بيتها.. آوت في فراشها وتزملت بغطاء ثقيل.. محطمة الأعصاب.. مجهدة.. مرهقة، تصطك أسنانها كأنها عارية ليلة قر. أسرعت اليها أم (معاذ) تستجلي الأمر.. وقد روت لها المعلمة ما حدث.. قالت: – لعن الله المنافقين.. وهيأت لها شراب الليمون لأنعاشها.. حتى عاد (معاذ) من متجره الصغير في أسواق (جميلة). شاهد مشهدا غريبا.. (اسماء) في الفراش طريحة.. جلس جنبها.. ليخفف عنها بعض   قلقها ومخاوفها.. لمس يديها بحنان  ووجهها برفق ودفء.. وكان متهلل الأسارير.. قائلا:

 

–           حدثيني عما جرى لك ؟ ومن أثارك وأفزعك ؟

 

قالت زوجته: –       لقد هزني ما تفوهت به المعلمة (سراب) أمام المعلمات حول ماضي والدتي.. التي قالت عنها إنها ماتت مقتولة.. والقاتل أبي.. ولقد حفرت كلماتها صورة في ذهني لأمي.. صورة شيطان أو عفريت سيدمر سعادتي ويهدم حياتي.. وواصلت حديثها.. وشعور غريب ينتابها بقولها:

 

–           لقد ماتت أمي وأنا طفلة – كما علمت من أجدادي – و إني لا أذكر  عنها الشيء الكثير…وأردفت: –     ولكن ما كشفته المعلمة جعل دمي يتصاعد  الى وجهي، وإن رأسي من فرط الحرارة التي تعمل فيه على وشك الألتهاب. وأحسست  بغصة في حلقي، وغشاوة على بصري.. وعصفت في نوبة من البكاء لم أستطع مقاومتها.. وواصلت حديثها والألم والخجل يعصفان بها: –

 

–           عدت الى البيت وبنفسي انهيار تام، ورغبة في البكاء، وارتميت في أحضان (الحاجة) الطيبة، باكية.. علمت بما حصل.. أحسست بدموعها  تنساب على صفحة وجهي.. وكانت أمك.. نموذج الأم.. بل نموذج لما يجب أن تكون عليه كل أمرأة في رقتها وطيبتها، وحلاوة لسانها، لا تبغض أحدا، ولاتنهش عرض أحد.. تحب الناس جميعا، وتحترمهم جميعا، لا تذكر إلا حسناتهم.. أما الهنات فلا تراها.. إنها جوهرة  ثمينة – واجبة التقديس والتبجيل والتوقير..

 

–           أجابها (معاذ) مضيئا الظلمات التي تلفها: –

 

–           هل لك أن تعتبريها أما لك ؟ ثم أردف كاشفا السر الرهيب: –

 

–           إننا نعرف كل شيء عن الحادث الذي لا صحة له البته، وإنما هو فرية وكذبة.. وإن امك بريئة (براءة الذئب من دم يوسف) ولذلك أقدمت على زواجك.. لقد نفيت أمك الى السماء في حين يبقى الجبناء المتعفنون.. الحاقدون على هذه الأرض.. لأنها هي السفلى.. والسماء هي العليا..

 

وواصل (معاذ) حديثه مع زوجته:

 

–           إن المنافقين حرضوا أباك على قتل أمك (مريم) الطاهرة البريئة فصعدت روحها الى السماء مظلومة.. ونحن نعرف كل شيء.. وأخفينا السر الرهيب عنك.. فلا تقلقي.. ثم روى حديثه ظمأها، وأنعش روحها حين قال: –

 

–           – يا حبيبتي أنت وأمك طاهرتان.. عفيفتان.. أما (سراب) فاسم على مسمى – كذوبة مارقة – كأبيها. فهي أبنة عم أبيك.. دفعها لؤمها وكراهيتها الى اثارة الفتنة من جديد لا لشيء إلا لتشويه سمعة الأخيار.. ولصبغ الخيط الأبيض من فجرهم بسواد حقدها. ولتجعل وجه الصباح مظلما.. فباءت بالفشل الذريع..

 

–           فها أنت عدت الى مدرسة جديدة نقلت اليها بعيدة عن (السراب) الخادع.. وتعيشين الآن حياة جميلة باسمة مع زوج حبيب وأم حنونة.. وأب طيب حكيم..

 

مشاركة