الساعاتي
أسعد عزيز محمد
ترجمة عن الكردية محمد صابر محمود
ساعتي اليدوية كانت متوقفة منذ عدة أيام، وقد سبب لي ذلك العطل نوعاً من ألأرتباك في معرفة المواقيت في تلك الفترة،حيث كنت أتاخر بأستمرار عن عملي، فأتعرض إلى المسالة واللوم في بعض الأحيان من قبل المسؤولين…
ولقد نبهني الكثيرون على الأستغناء عنها،وأقتناء أخرى غيرها لأن هذه الساعة لم تعد صالحة للأستعمال في ضبط المواقيت…لم تكن هذه هي المرة الأولى التي أتعرض فيها لمثل هذه الأنتقادات. ان هذه الساعة التي لم تبارح معصمي منذ ثلأث وعشرين سنة لم تصادف أن فارقتني حتى ولو يوماً واحداًً.
فاذا اختلف معي احد ألاصدقاء في مسألة ما ولم يشاطرني في توجهاتي وأرائي،وفيما أؤمن به،كان يجابهني راساً مذكراً أياي قائلاً
كل أشيائك وأفكارك، وتصرفاتك ، وأقوالك قد أصابه البلى فاضحت في عداد الأثريات المندثرة التي تخطاها الزمان وحتى ساعتك اليدوية
لكنني مع ذلك قد تعلقت بها وكنت أتمسك بها حد ألأدمان.لأنها تلك الساعة التي صادفتني طيلة سنوات عمري قد شاطرتني في كثير من الذكريات حلوة، والتي برؤيتها تعاودني تلك الذكريات فأتذكر صورها مجسمة أمامي وفي مخيلتي،فمثلاً حينما أحببت وأستبد ت بي تباريح العشق كانت تلك الساعة هي التي تنظم مواعيد أللقاء، ويشرع قلبي بالخفقان وينتابني الأرتباك لدى كل حركة من حركات عقاربها. وفي ألأوقات التي كنا فيها منشغلين بالسياسة سراً، كان أصدقائي جميعاً يعتمدون على ساعتي اليدوية ويولون عليها في تنظيم اللقاءات.حيث كانوا يؤقتون ساعاتهم عليها… ومع ذلك يطلب فيه الناس مني الآن أن أغيرها وأبدلها بواحدة جديدة، غير أنني أرد عليهم بقولي أن ساعتي هذه لها أفضال كثيرة علي، لذا فمن المستحيل أن أستطيع ألأستغناء عنها
في أحدى الأمسيات الخريفية، التي كانت النسائم فيها تزف بشرى سقوط ألأمطار للفلاحين، حملت ساعتي، فأتخذت طريقي نحو السوق متجهاً نحو إحدى المناطق التي ربما لم تطاها قدماي منذ أكثر من عام…. من مسافة بعيدة نوعاً ما بدأ لي ن ذلك السوق لم تنله أيادي التغير بأي شكل من ألأشكال…. إن ذلك السوق الذي كان يشغل معظم دكاكينه الحرفيون من مصلحي الساعات العاطلة وباعتها،جاهدين الحيلولة دون توقف الزمن، ألا أنني وفي نفس المكان شعرت بان الزمان متوقف عن الحركة،ولم يتقدم خطوة واحدة إلى ألأمام .ثم أن أبواب الدكاكين وكأنها لم تصبغ منذ أمد بعيد.وإنني كيفما تركت تلك المنطقة قبل عشرين سنة كانت باقية على وضعها كما هو.
رتبت إيقاعات خطواتي على سرعة تناغم مرور الوقت … وعند زاوية من زوايا احد الأزقة أخرجت ساعتي من جيبي ومن ثم ألقيت عليها نظرة عابرة فاذا بها متوقفة .. وأنا بدوري أبطات في سيري ومن ثم توقفت…. شرعت بالبحث في خلايا مخي عن بعض الذكريات فاذا بإحداها وهي تخص الدكان الثالث قد ارتسمت في ذهني في ذلك الزقاق …وكان ذلك الدكان يعود لأسرة احد أصدقائي والذي كان والده ساعاتياً،وكنا وقتها طالبين في أعدادية كوردستان سوية، والتي وقع اسمها مثل معظم أسماء بقية ألأماكن والأشخاص تحت طائلة حملأت التعريب فيمابعد. أثناء ما كنت أخذ طريقي صوب ذلك الدكان خطر ببالي ان اسمه كان كمال وان طلاب صفنا في كثيرمن الأحيان يجلبون له ساعاتهم المعطلة، فيذهب بها ويصلحها لقاء مبالغ ذهيدة، وقفت أمام الواجهة المزججة للدكان الثاني مرة اخرى، فشرعت أسائل نفسي وأحاورها مستفسراً
إن ما أتحدث عنه قد مضى عليه عشرون سنة، وخلال هذه السنوات العشرين قد هدمت دكاكين كثيرة وبنيت مكانها دكاكين أخرى غيرها…فهل من المعقول انهم لازالوا باقين هنا … من يضمن لي ذلك؟
بعدها بدأت بنفسي منتقداً إياها قائلاً لنفسي انه لأمر صحيح ان التاريخ يظل حياً عندي ولايموت، غيرانك منذ زمن بعيد كنت توجه أصابع الاتهام لأهل مدينتك وتعاتبهم لأنهم لايقرأون التاريخ
بكل ماكان يساورني من قلق وتردد اتجهت صوب الدكان الثالث،ومن دون ان أقف أمام واجهته الزجاجية، أولجت بنفسي داخله ركزت باصرتي فوق ذلك الرجل الذي كان منحنياً على الساعة التي بين يديه…بدأ لي من خلال مشاهدتي مجرد رأس أشيب وجسد نحيل، ومع انه لم يكن يبدو كبيراً في السن إلا إن نكبات الزمان وحدثاته وكثرة الأجتهاد كانت قد فعلت فعلها فيه، وبعد بضع دقائق خاطبته بهدوء
السلام عليكم …
أجاب من دون ان يرفع رأسه
وعليكم السلام.
ولو انني قد تعرفت عليه من نبرات صوته الا انني سيطرت على نفسي …وبعد لحظات قليلة رفع رأسه.فتفرّس في ملامح وجهي ثم بادرني بلغة كردية طليقة تفضل اخي ماذا تريد؟
مددت له الساعة التي بيدي قائلاً
هذه الساعة هي لي ، أرجوا فحصها،وإذا امكن تصليحها لي خلال هذه البرهة، دققت جيداً في ملامحه،فتعرفت عليه، غير انه لم يكن يبدو عليه انه قد تعرف بدوره علي….أثناء ماكان منشغلاً بفتح غطائها الخارجي قال
أتدري ان هذه الساعة قديمة جداً
اجبت نعم ، إنها منذ ثلاثة وعشرين عاماً لم تبارح معصمي ومن خلال ابتسامة شفيفة أردف هو
حقاً ان ثلاثة وعشرين عاماً لهي عمر طويل
ثم رفع رأسه قليلاً فتأملني وقال
دعني اقل لك بصراحةان هذه الساعات كانت من أجود الأنواع ،أما ساعات هذا الزمان فهي لاتساوي شيئاً
وبعد أن أطماننتُ تماماً إلى أنه هو بعينه قلت له
الست أنت كمال بن ألأسطة رحيم الساعاتي ؟
في تلك اللحظات كان لتوه فاتحاً الغطاء الخلفي لساعتي.. ترك الساعة جانباً ثم رفع رأسه فتاملني بدقة، متفرساً في شكلي وملامح وجهي ثم قال مندهشاً
نعم أنا هو بعينه، لكنني لا أعرفك، ومن تكون أنت؟
وأنا بدوري ومن دون أستاذنه جلست على كرسي متهري والذي كان أمام منضدته… بعد لحظات قلت له ألم تكن طالباً في المرحلة الأعدادية لأعدادية كوردستان ؟
مع ماكان منشغلاً حيث بدأ كان ضاغطاً على تفكيره قال نعم
وأنا من جانبي وبمنتهى الهدوء، وبوجه مبتسم أردفت وكيف لاتعرفني ؟
ماذا تريدني أن أقول… أتدري كم من السنوات مضت على ذلك العهد؟… هاهي قد مرت أكثرمن عشرين سنةعلى انقضاء تلك المرحلة أهتبلتها فرصة للمضي في الحديث فقلت
وكيف نسيت أصدقاءك الأقربين لتلك الفترة من الزمان
هو من جانبه وكمن يريد تبرير موقفه أردف بنبرة حزينة
ثق أنني لم أنس أحداً منهم إلا ان مرارة الحياة وتصاريف الزمان اوهنت ذاكرتي
وبعد مرور لحظات من الصمت تابع حديثه
إن أصدقاء ذلك الزمان قد أنتشروا كما تنتشر ذرات الدقيق بين ألاشواك على هذه الأرض ..لايعرف أحد عن أحوالهم، ولآ عن أخبارهم، إن محمود الأسود قد التحق بالفدائيين فأستشهد قبل سبعةعشر عاماً و أسؤ ميرزا فتاح فقد أضطر إلى الهروب متوجهاً إلى أوروبا، فأنقطعت أخباره،حتى ان أخاه كان يقول لقد ارسل الينا قبل خمس سنوات رسالة، ألا أننا الآن لانعرف عن مصيره شيئاً،سوى أنه يقال قدتزوج في روسيا ويعيش الآن هناك
اما شوان بن الحاج معروف فقد اختفى في منافي باكستان من دون ان يعرف احد عنه شيئاً.
و شؤرش بن الملا اسماعيل قد أختفى هو أيضاً أثناء الحرب العراقية الأيرانية ولم يعثروا على جثته.
وأما شيرزاد بن ألاسطة أحمد النجار فأنه سجن ولم يبق له أثر،و توفيق بن رسول الصائغ فهو الآن يعيش في استراليا .
وهكذا اختفى كل واحد منهم بطريقة ما، غير ان الدكتور جمعة يعيش الآن في لندن …وأما رشيد العاشق فأنه يعيش ألان في السويد وقد أرسل لي رسالة يقول فيها حقاً ان السويد هي بلاد العشق
هنا وكأنه تذكر شيئاً كان خافياً عليه فقام من مكانه مبتسماً فقال بذهول
أأنت هو حسن العم عودل ؟ .
أجبته ببرود نعم أنا هو بالضبط .
وبعد أن تعانقنا،وتصافحنا،أستذكرنا سوية جملة من الذكريات التي غطاها غبار الزمان، وقد تحدثنا عن الظروف والأحوال عرضاً..زوالذين استعرضنا أسماءهم، اما ان يكونوا قدرحلوا عن دنيانا، أوتركوا البلادوهاجروا.. اثناء ماكان منشغلاً بفحص ساعتي أدرت بعيني في جميع أركان دكانه، مدققاً النظر في كل مايحويه من الموجودات..كانت كل المواد الموجودة خاصة بصنعته…علبة كارتونية ملأى بالسات المتكسرة كانت مركونة في زاوية من الدكان، وفوق منضدته أيضاً وضع عدداً من الساعات اليدوية، بشكل مبعثر،وهي مفتوحة وفوقها ثمة أية قرأنية كانت معلقة على الحائط، من تلك الآيات التي يلقها الناس على الحائط في غرف منازلهم أتقاء من شر العيون الحاسدة…وكانت هناك عدة ساعات جدارية أيضاً معلقة على الحائط تحت الآيات مباشرة والتي كان عددها ثلاث عشرة ساعة وهي مرصوفة في مستوى واحد على الاركان الثلاثة من الدكان،وكل ساعة منها تشير عقاربها إلى تاريخ ووقت مختلف عن الاخريات، وهي تشبه وكانها واقفة على ذلك التاريخ ولاتعمل، وأنها وضعت كديكورللتجميل والاعلان.
والامر الذي كان يثير الدهشة، هوانه قد كتب تحت كل ساعة معلقة تاريخاً معيناًوكمثال ان الساعة التي كانت عقاربها تشير إلى الرابعة كتب تحتها التاريخ الاتي 17»9»1983.
وتحت الساعة التي تشير عقاربها إلى الثالثة والربع التاريخ الاتي 27»5»1995ومما جلب انتباهي هوأنني لاحظت ان تلك التواريخ لم تكن لها علاقة ببعضها، ولو انني بمشاهدتي لتلك المناظر قدثارت في ذاكرتي جملة من الأسئلة….
الا ان انشغالنا نحن الاثنين بالحديث عن بعض الامور الاخرى فيما يخص ذكرياتنا عن الماضي قد انساني ان اساله ذلك السؤال عن تلك التواريخ. واذا تاخر الوقت علينا وداهمنا المساء قال لي
أيها الاخ حسن ان جهاز نصب ساعتك مكسور…دعها عندي هنا…عد إلي غداً لكي أعثر على جهاز شبيه له داخل المتفرقات الموجودة في البيت…وهكذا حينما ودعته وخرجت من دكانه، أخذت طريقي مشياً داخل أزقة السوق لكي أمعن في التفكير في سالف الايام، وان لا أستقل السيارة.
أثناء ماكنت أغدُ الخطى في سيري من أمام المكتبة العامة نحو رأس الجسر، توقفت لعدة دقائق على الجسر أتامل فيها نهر خاصة والذي كان له منظر محبب إلى نفسي،رغم انه قدبقي منه جدول صغير يجري فيه..في هذه الاثناء تذكرت حادثة غرق فرمان بن عمتي والذي كان غرقه في أحد أيام الصيف، حينما ذهب ليسبح فغرق في بركة من الماء.
كنت اسير بخطى متثاقلة صوب البيت غير أن صور الساعات المعلقة على حائط الدكان بقيت عالقة بذهني لأنني لم افهم مغزى تلك التواريخ المكتوبة تحتها،وماذا كانت تعني، فقررت ان اسال كمال غداً ذلك السؤال الذي بقي دونما جواب عندي.
كانت هناك أعداد من الحمائم الأليفة تحط على سور القلعة…أعادت إلى ذاكرتي هجرةالطيور…حيث حالما يقبل موسم الشتاء تهاجرالزازير صوب مدينتنا،والطيور الاخرى كلها تهاجر حسب مواسمها مثل أبي زريق والسنونو فسرح بي التفكير من خلال ذلك في هجرتي ولو أنها لم تكن لها علاقة بهجرة الطيور ولا كانت ذات صلة بها، لأن هجرة الطيور ذات علاقة بتغيرات المناخ والطقس….أما رحيلي فكان ذا علاقة وصلة باستشراء الظلم والجور، وقوة الظالمين.
خلال موسم الشتاء الذي تهاجرفيه الطيور صوب الاصقاع الحارة خوفاً من ضراوة البرد…في نفس ذلك الموسم تركت أنا طةرميان لاخوفاً من شدة الحرارة وإنما خوفاً من الحملات الشرسة للجنود الحكومة، فاتجهت صوب الأصقاع الباردة، حيث أستقربي المقام بين ثلوج الجبال …تلك الليلة جفا النوم أجفاني وأستبد بي السهر داخل الفراشي إلى وقت متاخر من الليل….وكان تفكيري معلقاً بتلك الساعات الجدارية المعلقة على حيطان الدكان والتي كتبت تحت كل واحدة منهاتواريخ مختلفة لايشبه الواحد منه الاخر، على قطعة من الكارتون ….وكنت متلهفاً كي يصبح الصباح على وجه السرعة،لأستفسر من كمال عماتعنيه تلك التواريخ والأوقات.
في غد عندما نشرت أشعتها على المدينة، وكنت دوماً أفكر في عطاءات هذه الشمس الكثيرة،أنها تمنح أنوارها لكل الناس من دون تفريق أوتمييز…أنها تمنح الحرارة والضوء للفقراء والأغنياء على حد سواء، وكذلك تمنحها للظالمين والمظلومين أيضاً…إن الشمس لاتحمل الحقد على احد، ولاتغضب من أحد…تنظر إلى جميع الأرجاء التي تصل اليها أشعتها بعين واحدة.
كان عملي الأول الذي كنت مزمعاًعلى القيام به صباح ذلك اليوم هوأن أذهب إلى الدوام في دائرتي حيث كانت وظيفتي فيها وظيفة هامشية ولم تكن بذات أهمية تذكر،بحيث تلفت ألأنظار اليها، وتكون مثارالحسد من قبل الاخرين….كنت أعمل فيها في قسم الأرشيف، وفيما عداي كان هناك أربعة موظفين أخرين يعملون معي وكان أحدهم يشغل منصب رئيس القسم..وحين دخولي الدائرة كان نائب المدير العام في غرفة الاستعلامات على وشك جمع دفاتر الحضور بعد توقيعها من قبل المداومين،فكانت فرصة سائحة لكي أوقع أنا بدوري على الدفتر، وحين شاهدني بادرني قائلاً
اليوم أيضاً كنت على وشك ان تتأخر
أجبته بكل اطمئنان
هذا اليوم هوآخر يوم أتاخر فيه….سوف لن أتاخر بعد اليوم هو بدوره وبعد أن كتب اسمي في الدفتر ووقعت مقابله،أخذ مني الدفتر ثم وبوجه بشوش قال مبتسماً
أرجو أن لا تتأخر بعد الآن.
ومضيت،كما كنت أفعل كل يوم فجلست في غرفة ألارشيف…..كانت المجلات والصحف الواردة الينا، والمتكدسة منذ شهر موضوعة عن طريق الصدفة فوق منضدتي، قمت أشغل نفسي بقراءتها… ثمة مواضيع عدة لفت نظري مثل »دواء جديد للصلع»أقاليم الجوع والذهب» القتال في السودان»أرباح الجيران»زاوية الحظ» الحزورة……
وفي بعض الأحيان كنت أفكر في طبيعة عملي في هذا القسم حيث إن هذا القسم لم يكن بحاجة إلى خمسة موظفين أبدا حيث كنت أرى أن موظفاً واحداً فقط يكفي لإنجاز المعاملات فيه بكل سهولة من دون الحاجة إلى هذا العدد، حيث كان المطلوب انجازه هو إذا وردتنا نشريات أوكتب، أوغيرها من الكتابات، نقوم بحفظها في الملفات…فإذا طلب منا بالصدفة إحدى المنشورات القديمة، نقوم بإخراجها ومن ثم نرسلها إلى الجهة التي طلبتها….ومما هو جدير بالذكر إن هذه العملية نادراً ماتحدث بعدها يعيدون إلينا المنشور ونحن بدورنا نقوم بحفظه في الملف المخصص له ثانية.كانت الأحاديث التي تدور بيننا عبارة عن اسطوانة معادة ومكررة، لأنها كانت إعادة لما قيل سابقاً مثل أخبار زيادة الرواتب الحديث عن انقطاع التيار الكهربائي والتحدث عن انعدام الأمان والاستقرار وظاهرة اللصوصية …الخ وهكذا كان مايجري كلاماً في كلام، ولم تكن وراءه أية غاية أوهدف سوى إننا كنا نعاتب أنفسناونرويها لبعضنا. في الساعة الحادية عشرة استاذنتُ من رئيس قسمنا، وبارحت الدائرة متجهاً صوب سوق بائعي الساعات. كنت أسير بخطوات سريعة إلى أن وصلت هناك.
من بعيد لحظت إن الدكان لم يكن مقفلاً، لكنني منذ إن تركت دائرتي كنت طوال الوقت قلقاً، خوفاً من إن يكون قد أغلق دكانه قبل وصولي ومضى حيث تذهب كل جهودي أدراج الرياح.
وإذ وجدت الدكان وبعد أن حياني قال بوجه مشرق بشوش
أتعلم انك كنت محظوظاً لأنني عثرت في البيت على جهاز نصب من مثل جهاز ساعتك….والان يجوز ان تعمل ساعتك أحسن مما كان وبعد ان تسلمت ساعتي منه، حاولت كثيراً ان انقده أجرة عمله والتصليح لكنه أبى أن يأخذ شيئاً….بعدها أدرت بعيني في أنحاء دكانه كمن نسي شيئاً مهماً يبحث عنه، فتذكره
قلت
يا أخي كمال هناك سؤال الا تقول لي ماهي مسألة تلك التواريخ التي كتبتها تحت الساعات ؟ .
عاد فجلس ثانية على كرسيه ومن ثم أطلق زفرة حرى وقال
تلك تواريخ حياتي الخاصة .
استشفت من كلامه أن هذا ليس جواباً شافياً، ولذلك انتظرت أن يكمل كلامه …بعدها أردف
إن التاريخ عندنا يكتب خطأ،ولايحسب لليل والنهار حساب….. إن الوقت عندنا ليس له قيمة تذكر. في كتابة التاريخ تهمل الثواني والدقائق واساعات وتنسى .
ثم رفع يده فوق رأسه والذي علقت فيه الساعة الأولى فأشار إلى التاريخ المكتوب تحتها فقال إن هذا التاريخ الذي هو 9»6»1965 هو التاريخ الذي ولدت فيه…. تقول أمي انك ولدت في الساعة الثانية عشرة ليلاً.
ثم أشار إلى الساعة الثانية والتي كانت عقاربها تشير إلى الثامنة وقد كتب تحتها 1»9»1971 هذا هو الوقت الذي التحقت فيه بالمدرسة لأول مرة.
بعدها أشار بيده إلى الساعة ذات الرقم الثالث والتي كانت عقاربها تشير إلى التاسعة والثلث والتي كتب تحتها هذا التاريخ 7»2» 1982 وقال
وهذا هو الوقت الذي وصل فيه خبر مقتل أخي خالد في جبهات القتال
أما الساعة ذات الرقم 4 والتي كانت عقاربها تشير إلى الرابعة هو الوقت الذي احتفلت فيه بزواجي.
والساعة الخامسة التي أشار إليها كانت تشير إلى الثانية وسجل تحتها 1»11»1984 قال عنها هذا هو الوقت الذي ولد فيه ابني آلان وأما الساعة السادسة والتي كانت عقاربها تشير إلى السابعة والنصف والمكتوب تحتها الآتي 1»3»1985 قال عنها هذا هو الوقت الذي توفي فيه والدي….
والساعة ذات الرقم السابع والتي كانت تشير إلى الحادية عشرة وخمس دقائق وكان تأريخها 20»8»1986 قال عنها هذا هو اليوم الذي ولدت فيه ابنتي ناسك .
والساعة ذات الرقم 8 والتي كانت تشير إلى العاشرة والربع والتاريخ المكتوب تحتها 25»3»1991 قال عنها هذا هو اليوم الذي تركت فيه المدينة وتشردتُ
والساعة ذات الرقم 9 والتي كانت عقاربها تشير إلى الثالثة وعشر دقائق والمكتوب تحتها 27»5»1995 قال عنها من خلال زفرة، وقد بدت علامات الحزن على محياه وهذا هو أشقى اللحظات في تاريخ حياتي وهو اليوم الذي قتل فيه ابني آلان بطلقة طائيشة في غمار الاقتال الداخلي .
وبعد أن نطق بهذه الكلمات، لاحظت الدموع تترقرق في عينيه ، ثم أشار إلى الساعة ذات الرقم العاشر والتي كانت عقاربها تشير إلى الواحدة وكتب تحتها التاريخ 30»7»1996 قائلاً لقد توفيت زوجتي أيضاً في هذا التاريخ أما بصدد الساعة الحادية عشرة التي كان مكتوباً تحتها التاريخ التالي 22»12»2002 فقد قال عنها من خلال ابتسامة لاحت على شفتيه هذا التاريخ يؤشر إلى زواج ابنتي ناسك .
وإذ أشار إلى الساعة ذات الرقم 12 والمكتوب تحتها 7»9»2003 قال في هذا التاريخ عدت إلى مدينتي بعد وفاة ابني وزوجتي بعد أن تركتها مع أسرتي، حيث عدت وحيداً منهاً بذلك حياة الغربة والتشرد .
وإذ دققت النظر ملياً في الساعة ذات الرقم 13 لاحظت أن عقاربها قد انتزعت منها، ولم يكتب تحتها…. ومن ذلك فهمت أن تعليق هذه الساعة مع الساعات الاخرى لايخلو من دلالة، غير اني لم افهم مغزاها ولذلك وجهت إليه السوأل التالي
وماذا تعني هذه الساعة ؟
أجاب وقد بدت عليه علامات الاكتئاب
إن هذه الساعة تؤقت لحظة موتي والتي لست ادري في أية ساعة وأية دقيقة تحين ساعة موتي ومتى يكون تاريخها…لكنني اعلم انه سوف ياتي ذلك اليوم الذي أموت فيه
لست ادري لماذا بعد كلامه هذا انتابني أحساس بأنني لن استطيع أن أستمع إلى مزيد من كل الآلام والأوجاع التي عاناها هذا الرجل ، وامكث في ذلك المكان.
بسرعة فائقة ودعته وأردت أن اخرج من باب الدكان لأنه حسب قناعتي الخاصة إن ذلك الكان كان جرحاً بليغاً اسمه جرح أوجاع التاريخ وأنا بدوري ومن أن انبس بكلمة اتخذت طريقي من خلال تلك الازقة والدرابين لتلك الاسواق التي تعرف قيمة الوقت في مدينة لايقرا أهلها التاريخ
الهامش
عن مجموعة القاص أسعد عزيز محمد
الموسومة بـ رجل على الهامش
الصادرة عام 2007 عن وزارة الثقافة والاعلام في الأقليم الكردستان» العراق
AZP09