
الزيارة البابوية إلى لبنان جاءت لتخاطب من: المعتدي ام المعتدى عليه ؟ – أورنيلا سكر
في لحظة إقليمية تتلاطم فيها أمواج الصراع من فلسطين إلى جنوب لبنان، وفي وقت تقف فيه الدولة اللبنانية نفسها على حافة الانهيار السياسي والاقتصادي والأمني، اختار البابا القيام بزيارة تحمل الكثير من الدلالات، ولكن أيضًا الكثير من الأسئلة.
فهل جاءت الزيارة في توقيت مناسب؟ وهل تستطيع الكنيسة الكاثوليكية أن تمارس دورًا فاعلًا في بيئة تحكمها ثلاث قوى: السلاح، العدوان، والاستعمار؟ وما الذي ينتظره اللبنانيون ولا سيما المسلمون من خطاب البابا اليوم؟
زيارة البابا ليست حدثًا دينيًا تقليديل فقط، بل واقعة سياسية–أخلاقية، مهما حاول البعض حصرها في إطار روحي أو رعوي. انها فرصة استثنائية لفتح نافذة الحوار حول قراءة جديدة للدور الذي لا يزال العالم ينتظره من لبنان: أن يبقى مساحة سلام، ومنبر تلاقي، وجسراً بين هويةٍ مهددة وواقع يبحث عن خلاص.
فما الذي يعنيه هذا الحضور الروحي على أرضٍ تتقاطع فوقها السياسة والسلاح؟
وكيف يقرأ اللبنانيون بكل تنوعهم هذه الزيارة؟
وهل يستطيع الصوت الأخلاقي للعالم أن يترك أثراً في لحظة تتشابك فيها الحسابات الكبرى؟
- البابا في لبنان: توقيت يفرض الأسئلة لا الاحتفالات
لبنان اليوم ليس دولة مستقرة تستقبل زائرًا رفيعًا، بل مساحة تتقاطع فيها مشاريع دولية وإقليمية:
عدوان إسرائيلي متواصل على القرى والبلدات الجنوبية.دور عسكري وسياسي لحزب الله يفرض معادلة «السلاح فوق الدولة».انقسام لبناني حول معنى السيادة ومن يملك تعريف الحرب والسلم.أزمة وطنية ممتدة جعلت اللبنانيين متعبين من لغة الطمأنة الرمزية.
في هذا السياق، جاءت الزيارة وكأنها محاولة ضخ «طمأنينة دينية» فوق أرض مليئة بالدمار والقلق.
لكن اللبنانيين، وخصوصًا المسلمين منهم، لم يعودوا يتلقون الخطابات الروحية بالترحاب نفسه، فهم يطالبون بأخلاقيات سياسية واضحة من الكنيسة، وليس فقط أدعية للسلام.
- المسلمون: احترام لشخص البابا… وتحفّظ على دلالات الزيارة
تحفضات جوهرية
رغم الاحترام الكبير الذي يحظى به البابا بين المسلمين في لبنان والمنطقة، إلا أن استقبالهم للزيارة اتّسم ببعض التحفظات الجوهرية:
أولًا: شعور بأن الزيارة “غير متوازنة”
بالنسبة لكثير من المسلمين، لا يبدو منطقيًا أن يزور البابا لبنان في وقت:
يُقتل المدنيون في غزة يوميًا
تُدَمَّر قرى جنوب لبنان
تُمارس إسرائيل أوسع عمليات تهجير منذ 1948لكن من دون أن يتوجّه البابا إلى مكان الجريمة أو مرتكبها.
كان المسلمون ينتظرون رسالة سياسية أكثر قوة تجاه إسرائيل، لا زيارة تُقرأ بأنها تضامن مع “الروح المسيحية اللبنانية” فقط.
ثانيًا: مخاوف من “شرعنة الاصطفافات”
هناك خشية حقيقية من أن تُستَخدم الزيارة في الخطاب السياسي الداخلي لتأكيد أنّ لبنان “رسالة مسيحية” أو “ملاذ مسيحي”، وكأن الوجود الإسلامي فيه ملحق لا شريك.
ثالثًا: سؤال الظلم
يتساءل كثير من المسلمين:
كيف يمكن لزيارة سلام أن تتجاوز ذكر العدوان على غزة وسوريا والعراق ولبنان والسودان؟
وكأن السلام هنا يصبح خطابًا معلّقًا في الهواء، لا يتصل بجسد الواقع.
- الفاتيكان: بين أخلاقيات الإنجيل وحسابات الجغرافيا السياسية
المفارقة أن الفاتيكان لطالما قدّم نفسه كسلطة أخلاقية كونية.
لكن عندما يتعلق الأمر بالشرق الأوسط، كثيرًا ما تحضر حسابات التاريخ وعقدة الذنب الأوروبية والهواجس اللاهوتية قبل أن تحضر العدالة الإنسانية.
لذلك، جاء خطاب البابا حمّالًا للغة روحية جميلة، لكنه افتقر إلى:
* تسمية المعتدي باسمه
* إدانة واضحة للاحتلال
* تحميل إسرائيل مسؤولية انهيار منظومة السلام
* الاعتراف بأن الشرق يعيش صراعًا غير متكافئ القوة
وهنا تظهر المشكلة:
لا يمكن لخطاب ديني أن يطالب بالسلام من دون تحديد من يهدد هذا السلام.
- المطلوب من البابا اليوم… ليس الصلاة وحدها
إذا أراد البابا أن يتحول إلى فاعل سلام حقيقي في منطقة مضطربة، فإن المطلوب منه اليوم يتجاوز البركة والصلاة والرمزية.
وأبرز ما يُنتظر منه:
- تسمية الاحتلال باسمه
فلا معنى لأي خطاب ديني إذا تجاهل الحقيقة السياسية.
- الدعوة الصريحة لإيقاف العدوان على المدنيين. ليس بصيغة التمني، بل بصيغة الإدانة الواضحة.
- رفض توظيف المسيحية في خطاب “تفوق حضاري” أو “خصوصية لبنانية”. فالشرق متعدّد، والدين لا يجوز أن يصبح سلاحًا ثقافيًا.
- إعادة رسم صورة المسيحي الشرقي كشريك في الوطن لا كجزيرة روحية. وهذا يعيد الاعتبار لدور المسيحيين في حماية وحدة الدولة لا اصطفاف الهويات.
- مخاطبة إسرائيل مباشرة
باعتبارها قوة احتلال، لا باعتبارها طرفًا “ضمنيًّا” في معادلة السلام.
- الاعتراف بآلام الشعوب العربية كما تُعترف بآلام المسيحيين .فالدم واحد.
- لبنان ليس منصة للخطاب الديني… بل مختبر للعدالة
من السهل على أي قائد ديني أن يطلق دعوات السلام من فوق أنقاض بلد مثخن بالأزمات.
لكن الصعوبة الحقيقية تكمن في تحويل هذا الخطاب إلى موقف سياسي وأخلاقي يقف إلى جانب الإنسان، لا إلى جانب التوازنات الدولية.
لبنان بحاجة إلى:
-دولة
-عدالة
-موقف أخلاقي وتاريخي لتقوية الذاكرة من السرديات الكبرى المشوهة والمكذوبة.
-وضوح في تسمية مصادر العنف [ الفقر ..الاحتلال، تشويه المفاهيم والاضطهاد وعدم الاعتراف بالاخر].
شجاعة في مخاطبة من يعتدي عليه
وليس مجرد زيارات رمزية تُعَلَّق على جدران التاريخ والاكتفاء بتصوير الصراع بأنه يجسد الحماية الاقلية من عنف وتكفير إسلامي، بل ينبغي التأكيد ايضا على اشكالية الاستعمار والتوظيف الديني في الصراعات الدولية في خدمة الاستعمار الذي ينظر إلى الآخر وفقا لخطاب استشراقي لم ينقطع نظيره بل لايزال مسحوب بمنهجيات وتصورات وسياسات أكثر عنفا واستعبادا وتدمير للكرامة الإنسانية والقيمة الاخلاقية . فالسلام لا يفرض مع المعتدى عليه إنما مع المعتدي وهذا خطاب لا يمكن تفكيكه الا بموقف يعبر عن ضمير إنساني كوني ووقفة مصالحة تاريخية للذاكرة المسيحية تجاه الشرق الإسلامي بعيدا عن تصورات عقائدية قاصرة وواستعلاء حضاري ينظر إلى الآخر انه تابع للسردية الغربية الاستشراقية لا شريك معه في صنع الحضارة والتكافؤ والتكامل والمشترك الإنساني والحضارة والروحي والإيماني.
ختاما، زيارة البابا إلى لبنان تحمل قيمة رمزية للتأكيد على لبنان الرسالة والتعايش لا شك فيها، لكنها تكشف أيضًا عن فجوة كبيرة بين الخطاب الروحي ووقائع السياسة.
فجوة كبيرة
وإذا أراد الفاتيكان أن يبقى مرجعًا أخلاقيًا عالميًا، فعليه أن ينظر إلى المأساة العربية والمسألة الاسلامية بعيون الإنسان لا بعيون الجغرافيا السياسية والمسيحية السياسية الذي لا ينفصل عن الخطاب الاستشراقي .
فالسلام ليس نصًا يُتلى وعظياً، بل عدالة تُطالب بها، وجرأة في مواجهة من يصنع الحرب. وما لم تتحقق هذه المعادلة، ستبقى الزيارة خطوة جميلة… لكنها غير مكتملة، لا تلبي شروط القيمة الإنسانية والضمير الأخلاقي والسلام العالمي .

















