الرواية العمياء.. المغامرة الجديدة لشاكر نوري – باهرة الشيخلي
لا يمارس الروائي العراقي شاكر نوري الكتابة، وإنما يخوض مغامرة عندما يكتب رواية أو قصة، وبهذا يمكن القول إن رواية (الرواية العمياء)، التي صدرت له، مؤخراً، عن شركة المطبوعات في بيروت، كانت مغامرته الحادية عشرة. تدور أحداث (الرواية العمياء) حول شخصية مروان، الذي كان يعيش حياة هادئة إلى أن استدعاه مديره في مؤسسة رعاية العميان وكلّفه بمهمة استقصاء الفساد، لا كموظف مبعوث ولا كصحفي، بل كأعمى يدخل إلى معهد تدريب العميان بأوراق مزيفة لكي يكتب تقارير عن الفساد فيه.
يلتقي مروان، عبر تسعة شهور، بشخصيات عديدة في المعهد منهم الزيبق الأعمى الماكر و(حياة) الفاتنة العمياء، وبورهان مدير المكتبة، والموسيقى فريدون، والرسام سرغين، والصبي القارئ، وسلطانة الشيطانة، والراقصة ميلاد. وكل منهم يمثل عالمًا قائمًا بحد ذاته. وفي مدة إقامته هناك، يقع في حب الفتاة الفاتنة العمياء حياة، التي تبادله الحب، ولا تعلم أنه ليس أعمى مثلها، وعندما يتم نقله إلى الفحوصات الطبية لمدة أسبوعين، يسعى الزيبق، الأعمى الماكر الطامع بهذه الفتاة العمياء، ولم يتمكن من النيل منها، إلى تقليد مروان، حرفيًا، حتى صوته ولكنته وعطره ويصبح شبيهه لكي يخدع (حياة) أنه مروان ويتمكن من فضّ بكارتها. وعندما يعود مروان من الفحص الطبي، يُجن جنونه عندما يرى فتاة أحلامه مع رجل آخر، وأثناء معاتبته لها ومشادته مع الزيبق، تصرخ حياة: أيكما مروان؟
مواجهة قدر
وهنا يواجه مروان قدره فهو إما أن يُسمل عينيه ويبقى بين العميان أو يخطف حبيبته ويعيش خارج أسوار المعهد، فيختار الهرب مع حبيبته حياة. وفي النهاية يواجه مشكلة كيفية الاعتراف لحبيبته أنه بصير، فيسرد روايته، التي كتبها في المعهد وهي (الرواية العمياء).
اعتمد الكاتب في تأليف روايته “الرواية العمياء” على قراءات عديدة في عالم العمى، منها: قصة “الشبيه” للكاتب والأديب الراحل فهد الأسدي، وحياة أبو الحسن علي بن إسماعيل والمعروف بابن سِيدَه المُرسيّ، 398هـ/ 1007 وهو لغوي أندلسي، وصاحب كتاب «المحكم والمحيط الأعظم»? ويشبه بورخيس: كان أعمى، ودرس مع والده، الذي كان فاقد البصر أيضًا. وكذلك أرشيف معهد النور لطلبة ذوي الاعاقة البصرية/ بغداد الطوبجي. حي السلام، تأسس في 1949 ويعد أحد أعرق المعاهد، المعنية بشريحة ذوي الإعاقة البصرية في الشرق الأوسط، وحوارات مع بعض أساتذته في 2002.
تكشف الرواية عن عالمين: عالم المبصرين وعالم العميان، وتجسس أحدهما على الآخر.
وتختلف رواية “الرواية العمياء” عن الروايات الأخرى التي كُتبت عن العميان: “بلاد العميان” لهربرت جورج ويلز، ورواية “العمى” للكاتب البرتغالي جوزيه ساراماغو، ورواية “الموسيقي الأعمى” للروائي الروسي فلاديمير كورولينكو، في أنها لا تطرح فقط بصيرة العميان، بل في تجسس عالم المبصرين على عالم العميان، وتأكيد فكرة أن العميان ليسوا ملائكة، فهم بشر يمكن أن يكونوا فاسدين ومجرمين ومغتصبين وقتلة أيضًا. وما بين البصر والبصيرة، يطرح الروائي العراقي شاكر نوري في روايته (الرواية العمياء) ويثير، عبر حبكة مشوقة، ما عاشه مروان من حب مع حبيبته العمياء حياة، وكيف خانه أحد العميان الماكرين، الذين كانوا يعيشون في معهد تدريب العميان. وفي الوقت ذاته، عاش الشخصية الرئيسة والراوي مروان أكبر مغامرة في الحب والصداقة والمحبّة والفن بين أسوار هذا المعهد، ووجد العالم، الذي كان يفتقده في عالم المبصرين.
بعد فلسفي
لا تخلو الرواية من البعد الفلسفي الذي يطرحه السيد بورهان، مدير مكتبة العميان في المعهد، الذي يعقد معه مروان علاقة صداقة، فهو المتصوف في عالم الكتب، الذي جاء بالصبي القارئ ليقرأ له أمهات الكتب الذي بعث الثقافة بين صفوف العميان، وحثهم على القراءة وتذوق الفنون إلا أنه يُقتل في ظروف غامضة، ويسهم مروان في تحقيق حلم الموسيقار الأعمى فريدون بتأسيس فرقة موسيقية أوركسترالية من العميان. وكذلك يعقد مروان صداقة مع الرسام سرغين، الذي ملأ جدران معهد العميان بالرسومات. يقول الكاتب شاكر نوري عن روايته “الرواية العمياء هي سرد البصيرة عند العميان، وسرد العمى عند المبصرين…”.
هكذا يبدأ روايته: “لطالما تهيبتُ في البداية لما وجدتني فجأة أعيشُ وسط العميان، نسيتُ بصري، ولذتُ مثلهم ببصيرتي، وبعد تسعة أشهر برفقتهم كأنّها العمر كلّه، بكيت لفراقهم، وتألّمتُ وأنا أدير ظهري لسعادة ما كنت لأعرفها أبدًا؛ إذا ما كان لي أن أفتتن بالجمال الأعمى لولا المعشوقة حياة، ولا أن أدرك معنى الشبيه لولا مُقلدي الزيبق، ولا أن أطربَ لأنين الموسيقى لولا المغني فريدون، ولا أن أتعلّقُ بسحر الكلمات لولا المبدع بورهان، ولا أن أحسَّ بألوان العماء لولا الفنان سيرغين، ولا أن أعجبَ بعظمة الذاكرة لولا الصبي القارئ، ولا أن أكتشفَ المكرَ الأنثوي لولا الشيطانة سلطانة، ولا أن أنتشي بروعة الجسدِ الأعمى لولا الراقصة ميلاد”. في هذا الاستهلال يختصر المؤلف المعنى الفلسفي لما تفكر به شخصيات الرواية.في الختام، يتوزع شاكر نوري بين اشتغالات كثيرة: الرواية والقصة وأدب الرحلة والترجمة والإعلام، وهو يواصل مشروعه مع القلم بوصفه مشروعاً حياتياً، يجد نفسه فيه ولا يجدها في سواه، وصدر له في الرواية: «نافذة العنكبوت» (2000) «نزوة الموتى» (2004) «ديالاس بين يديه» (2007) «كلاب جلجامش» (2008) «المنطقة الخضراء» (2009) «شامان» (2011) «مجانين بوكا» (2012) «جحيم الراهب» (2014) و”خاتون بغداد”، التي فاز عنها بجائزة كتارا (2017).
وصدرت له مجموعة قصصية بعنوان «جنائن دجلة» إلى جانب كتب فكرية ودراسات وكتب مترجمة من اللغتين الإنجليزية والفرنسية وإليهما، مثل: «المقاومة في الأدب» «لا تطلق النار إنها قلعة أور» «منفى اللغة – حوارات مع الأدباء الفرنكوفونيين و”اللوبي الصهيوني في فرنسا»? و”بطاقة إقامة في برج بابل – يوميات باريس» الذي نال عنه جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلات 2013 و”محاكمة برودسكي» للكاتبة فريدا فيغدورفا وإيفيم ايتكند، و”موعظة عن سقوط روما لـجيروم فيراري”.