الربيع العربي والرسوم المسيئة للرسول

الربيع العربي والرسوم المسيئة للرسول
د. حسن حنفى
بعد أن ظن العالم أن الشعوب العربية قد استسلمت للنظم الديكتاتورية، وأن المنطقة العربية أصبحت أرضا مستباحة لاسرائيل وأمريكا يفعلان ما يشاءان بالعدوان على ما تبقى من فلسطين، واقامة القواعد العسكرية الأمريكية على من تشاء من أراضى عربية استعدادا لضرب ايران، قامت الثورات العربية بداية من تونس ثم مصر بأقل تكلفة ممكنة من وقت وشهداء. ثم امتدت الى اليمن وليبيا بأعلى تكلفة ممكنة. وهى مازالت مستمرة فى سوريا على نفس النمط بتدمير شعب بأكمله لانقاذ النظام الأسد أو حرق البلد . ومازال الربيع العربى يأخذ أشكالا جديدة فى البحرين، والكويت للعائلة الامارة، وللشعب الوزارة ، وفى الأردن بالتجرؤ على الذات الملكية التى كانت خارج الصراعات السياسية كما هو الحال فى المغرب والسعودية وعُمان وموريتانيا. والسودان على الطريق. والصومال بدأت تستقر وتنتهى فيها الحرب الأهلية الى نظام حر ديمقراطى.
أعجب العالم كله بهذا الشعب الذى ظل مهمشا طيلة عقود عدة من الزمان بعد أن ملأ الدنيا تحررا وطنيا فى الخمسينيات الستينيات، وجابه الاستعمار والعنصرية والصهيونية والرأسمالية. وكوّن بؤرة دول عدم الانحياز والعالم الثالث، وشعوب آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، ثلاثة أرباع سكان العالم. وبدأ العالم ينتصر له ولقضيته الأولى، فلسطين. وتكسب أصواتا فى الأمم المتحدة تجعلها عضوا غير دائم فيها، نصف اعتراف، خطوة نحو الاعتراف الكامل. وبدأت اسرائيل تقلق من هذه النظم الشعبية العربية التى قد تفرز نظما اسلامية فى انتخابات ديمقراطية حرة خاصة فى دول الطوق ومساندة ايران وتركيا من الدول الاسلامية خلفا للأنظمة السابقة التى كانت موالىة لها سرا أو علنا بمعاهدات أو بعلاقات تجارية، لا ترى حرجا فى التطبيع وعلاقات سلام حتى وان لم تنسحب اسرائيل الى حدود الرابع من يونيوــ حزيران 1967. فقد انتهى نظام الشقيقة الكبرى التى كانت كنزا لاسرائيل. وتخلصت من قائد منظمة التحرير الفلسطينية بالتسميم عن بعد بمادة البوليوم من أجل قيادة أكثر تفاهما لقبول شروط اسرائيل للسلام. وبدأت أمريكا أيضا فى قلق مماثل بعد أن انتهت النظم الديكتاتورية الموالىة لها وجاءت نظم اسلامية فى ظاهرها ليست معادية، وفى باطنها قد تضمر شيئا آخر. وقد كانت نصيحة أمريكا باستمرار للنظم الساقطة بتوسيع قواعدها والاعتماد على الاسلاميين والليبرالىين بدلا من أن يكونوا ضدها. ولكن الاستبداد هو الاستبداد، والفساد هو الفساد. لا يستمع لنصيحة أحد حتى ولو كان من الأصدقاء المقربين. وغيرت أمريكا موقفها من العرب بعد الربيع العربى. وعاملتهم على قدم المساواة. ليست علاقة متبوع بتابع بل علاقة أكفاء يتبادلون المصالح والمنافع التى تتفق أحيانا وتختلف أحيانا أخرى. وأعجب الغرب أيضا بالربيع العربى وهو المدافع عن الحرية والديموقراطية والتعددية والذى أعلن عن المواثيق الدولية لحقوق الانسان. ويزهو بمبادئ الثورة الفرنسية، الغرب شمال المتوسط والعرب جنوبه وشرقه. ويلتقى كلاهما فى الغرب فى الأندلس التى عاشت عربية ثمانية قرون، وعاش اليهود فيها عصرهم الذهبى. وهم الآن فى شرق المتوسط يعيشون أبلغ أنواع التفرقة العنصرية، الصهيونية التى تقوم بطرد شعب عربى واحلال يهود غربيين ثم شرقيين محله.
وسط هذا المهرجان الاحتفالي بالربيع العربى وارتفاع أسهم العرب خارجيا ونقاء صورتهم يظهر موضوع الرسوم المسيئة للرسول أو الفيلم المسيء للمسلمين بصرف النظر عمن قام به، فرد أو جماعة، هاو أو صحيفة، أمريكا أو فرنسا. فيغضب المسلمون فى ليبيا لدرجة قتل السفير الأمريكى مع ثلاثة من رفاقه الدبلوماسيين فى القنصلية الأمريكية ببنغازى، والمظاهرات المشتعلة حول السفارة الأمريكية فى مصر وتونس، وحرق عربات الشرطة واستشهاد بعض عناصرها على مدى عدة أيام. ثم انتقلت المظاهرات المعادية الى كشمير وباكستان التى قامت على الاسلام بعد انفصالها عن الهند. ومازال الحريق يسرى وينتقل من الاسلام العربى الى الاسلام الأوروبى أو الاسلام الأسيوى. وخرجت الجماهير التى يسهل اثارتها لو مس أحد مقدساتها الدينية مثل الله والرسول والوحي والنبوة والقرآن والصحابة, وخرج المكنون الذاتي يدفع الجماهير الى الغضب بلا حدود ضد ثقافة تعودت على حرية التعبير وتناول المقدسات بالتحليل والنقد. ولا يمنع دستورها ولا قوانينها من حرية التعبير التى هى حق طبيعي للفرد ولا شأن للدول أو النظم السياسية بها. فبعد أن كان الغرب معجبا بالعرب وبالربيع العربي متفهما قضاياهم ظهر العداء التقليدي للغرب حتى تظل اسرائيل الصديق الوحيد. وظهر العداء لأمريكا بعد أن بدأت تتفهم تطلع الشعوب العربية الى الحرية والكرامة، وتتخلى عن أنظمة الاستبداد التى تحالفت معها من قبل. وتتقرب الى الأنظمة التى أتت بها الثورات العربية حتى ولو كانت اسلامية. الاتجاه بل وبدأت تغير من رأيها عن اقتران الاسلام بالعنف والارهاب. وبدأت تقرنه بالحرية والكرامة.
لم تكن الغاية الهجوم على الرسول. وكان الفيلم أو الرسوم المسيئة للرسول مجرد ذريعة لاظهار الواقع المتخلف للشعب العربي الذي يرفض حرية التعبير، ويتصور أن الدولة قادرة على التدخل فى حرية الأفراد. كانت الغاية أن يخسر الشعب العربى بثورته ضد الفيلم المسىء للرسول ما كسبه بدم الشهداء فى ثورات الربيع العربى. ولا فرق فى ذلك بين أمريكا وفرنسا فى تشويه صورة الرسول مما يكشف عن العنصرية الحضارية الدفينة فى أعماق الغرب تجاه العرب والاسلام، مصدر علمه فى بدايات عصر النهضة. فهو تمرد على أستاذه الأول لنهضته الحديثة بعد أن رفض أساتذته فى عصره الوسيط، آباء الكنيسة والفلاسفة المدرسيين. وبدلا من أن يظهر العرب محبين للسلام، وأن اسرائيل هى المعتدية على أرضهم بالحرب والاستيطان. ظهر الاسلام العربي عنيفا، رافضا حرية التعبير. تلاه الاسلام الاسيوى وليس النهضة الاسيوية فى اندونيسيا ومالىزيا وتركيا وايران. وربما هناك يد خبيثة تدفع فى هذا الاتجاه باسم الدفاع عن الرسول والحقيقة أن القصد هو نسيان احتلال اسرائيل لفلسطين، وتهديدها لايران ودفع أمريكا الى التكاتف مع اسرائيل فى ضرب ايران بالرغم من تردد الادارة الحالىة وعدم اعترافها بالقدس عاصمة لاسرائيل، وفى عام الانتخابات الأمريكية، وتربص المرشح الجمهورى المنافس، ولعبه بورقة تأييد اسرائيل بلا حدود حتى ولو كان ذلك ضد مصالح وطنه. فهو يهودي أولا، أمريكى ثانيا. فى حين أن الرئيس الحالي أمريكي أولا، يهودي ثانيا. ويسر الغرب واسرائيل وأمريكا أن هذه المظاهرات المعادية لأمريكا وفرنسا وللغرب بوجه عام من أجل الرسول، وليس من أجل القدس والحفائر تحتها حتى أصبح المسجد الأقصى على وشك الانهيار، وأن هذه المظاهرات ليست من أجل ايران والدفاع عنها ضد التهديد بضربها، وتدمير مفاعلاتها النووية خشية أن تمتلك السلاح الذرى. واسرائيل لديها مئات من القنابل الذرية للاستعمال الفورى. وعلى هذا النحو نكون قد خسرنا بأيدينا ما كسبناه بأيدينا. ويكون دم شهداء الثورات العربية قد راح هدرا لأن أحدا لم يحافظ على مكتسباتها. ويكون الغرب قد نسى الربيع العربى الذى أعجب به فى البداية لصالح العنف العربي ضد السفارات الأجنبية أو المؤسسات التعليمية الأمريكية والفرنسية.
ونسينا نحن ألا نكتفى بأن نقوم برد الفعل السلبى على هجوم الاعلام الغربي علينا لتشويه صورتنا بعد أن قمنا بالثورات العربية، وأن نقوم برد فعل ايجابى. فالغرب نفسه لديه معيار مزدوج بالنسبة للحرية كحق فردى للتعبير من حقوق الانسان. فلا يستطيع أحد أن يسيء اعلاميا للمسيح أو لاسرائيل أو ينكر المحرقة النازية أو حتى يتشكك فى أعدادها كما فعل جارودى والا قُدِّم الى المحاكمة، واتهم بمعاداة السامية، وانكار الحقائق التاريخية التى يصعب فيها التمييز بين الواقع والخيال اذا قامت على أساس وجداني. هذا المعيار المزدوج الذى يظهر فى تهديد المفاعلات النووية الايرانية لأنها فى طريقها الى درجة عالية من تخصيب اليورانيوم، واسرائيل تمتلك فعليا المئات من القنابل النووية. وهو الذى يظهر فى قتل اسرائيلى فى الأرض المحتلة أو أسره فى مقابل مئات الفلسطينيين الذين لا يدافع عنهم أحد منهم من استشهد، ومنهم من قضى فى السجن ثلاثين أو أربعين عاما.
ونكون نحن العرب قد قمنا بخطوة الى الأمام، وخطوة الى الخلف. ويكون الربيع العربى مجرد بريق سرعان ما ينطفئ، مجرد انتفاضة وقتية وليس ثورة دائمة. فالتخلف هو القاعدة، والثورة استثناء. واذا كانت الثورة قد تحققت فى النظم السياسية كما يدل على ذلك شعارها الأول الشعب يريد اسقاط النظام فانها لم تتم فى العقول والأذهان لأن جماهيرها مازالت تنكر حق الأفراد فى الابداع، وعدم تدخل الدول للنيل من هذا الحق. وعلى هذا النحو تكون الثورة حكرا على الغرب. ويكون التقدم تراكما تاريخىا فى الغرب. وعلى جميع الشعوب أن تتعلم منه.
AZP07

مشاركة