الرئيس والجامعة

الرئيس والجامعة
حسن حنفي
زار الرئيس الجديد الجامعة أول هذا الأسبوع ليقسم اليمين الدستوري مرة ثالثة. ويخاطب جمهور المثقفين والعلماء بعد أن عاب عليه الناس أنه ذكر جميع الفئات في خطاباته الماضية حتى سائقي التوك توك ونسي المثقفين والعلماء والأدباء والفنانين وهم الذين يتخوفون على حرية الإبداع. وكان الرئيس قد أقسم أولا اليمين الدستوري قبل ذلك بيوم واحد، يوم الجمعة، جمعة استعادة الثورة. وبالتالي جمع بين الشرعية الثورية والشرعية الدستورية والشرعية الأدبية. فأرضى الشعب ممثلا في الميدان والذي تخوف من القسم أمام المحكمة الدستورية العليا حتى لا يتم الاعتراف بالبيان التكميلي للدستور الذي ينص على ذلك. وأرضى شرعية الدولة ممثلة في الجمعية العمومية للمحكمة الدستورية العليا. وأرضى شرعية المثقفين والأدباء والفنانين ممثلة في الجامعة.
وكان الرئيس المنتخب الجديد قد أوصى بعدم إيقاف المرور حين مروره أو تحويل الإشارات الضوئية إلى خضراء له وحمراء للجمهور أو توقف المرور بالساعات وغلق الشوارع كما كان يفعل الرؤساء السابقون. كما أوصى بعدم وضع صوره وتعليقها فوق الحوائط في دور الحكومة والمؤسسات الرسمية، واستبدال رئيس برئيس. كما أوصى بعدم نشر التهاني له من الشركات على عدة أعمدة في الصحف اليومية أو صفحات بأكملها، والصرف عليها من أموال الشعب. واستبشر الناس خيرا. ها هي سيرة الخلفاء تعود، وعادة تأليه الرؤساء يتم القضاء عليها. الرئيس بشر مثل باقي البشر. كلكم لآدم وآدم من تراب . له كفن. ويوارى الثرى مثل كل الناس كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ . ولولا أن الرئيس نص في الدستور لما سُمي رئيسا ولما أُعطي هذا اللقب. فلا رئيس ولا مرءوس. وكلاهما يقف مسؤولا أمام ربه عن أداء الأمانة.
والجامعة هي أكثر مؤسسات الدولة حساسية للثورة. فقد أنشئت جامعة وطنية في 1925 بعد ثورة 1919 بتبرعات الوطنيين أمراء وباشوات بنفس الروح التي أنشأ فيها طلعت حرب الاقتصاد الوطني. وكانت بؤره للحركة الوطنية في الأربعينيات ضد الإنجليز والقصر. وفيها نشأت كل حركات المعارضة لنظم الاستبداد. وسقط منهم الشهداء الذين يرمز لهم النصب التذكاري على مدخل الجامعة الرئيسي. ومنها خرج الأدباء، نجيب محفوظ، والمفكرون، أحمد لطفي السيد وطه حسين، والعلماء، مشرفة، والقانونيون، السنهوري. ومازال يخرج منها عدة أجيال.
ولما قرر الرئيس الجديد المنتخب زيارة الجامعة يوم السبت الماضي أغلقت الجامعة من الصباح إلى المساء. وخشي العمداء والوكلاء استمرار الكليات في نشاطها لعل ذلك يكون ضد مقتضيات الأمن. فيوم زيارة الرئيس للجامعة يكون عيدا وطنيا أو مولدا نبويا أو عيد قوميا تعطل فيه المصالح. وتغلق فيه المدارس وتعطل فيه الدراسة في الجامعات. وألغيت مناقشة الرسائل في الصباح وفي المساء خوفا من حضور جمهور غريب على الجامعة يخل بالأمن ويهدد النظام مع أن الرئيس نفسه فتح معطفه وأظهر للناس أنه لا يرتدي قميصا واقيا من الرصاص. فمن أراد أن يغتاله فليتفضل فالله هو الحارس. والرئيس أستاذ جامعي. ليته أتى الجامعة بوصفه أستاذا جامعيا يحمل هموم العلم والوطن. هو جامعي أولا ورئيس ثانيا. ولما شعر بعض العمداء والوكلاء أنه لا تعارض بين النشاط الجامعي في الصباح والمساء وبين زيارة الرئيس التي تتم ظهرا، وربما جاءهم الأمر بذلك من رئيس الجامعة أو من الجهات الأمنية سمحوا بمناقشة الرسائل بلا جمهور. وعلى أن يدخل الأساتذة وحدهم بلا عربات من الباب الخلفي، باب كلية التجارة، وليس من الباب الأمامي المخصص للرئيس وحاشيته. وتمت المناقشات وكأنها ميتم واستحالت فرحة الطالب وأهله بالمناقشة العلنية التي تنص عليها اللوائح الجامعية. وخلت القاعات من الورود والمصورين. فقد توجه الكل إلى قاعة الاحتفالات الكبرى حيث ينتظر قدوم الرئيس. وأطلقت المدافع تحية له وهو ما يتنافى مع جلال العلم. وتم تعلية مكبرات الصوت بأصوات الخطاب وهو ما يتنافى أيضا مع الهدوء الواجب لقاعات الدرس. والخطاب مذاع على الهواء في كل القنوات والإذاعات المحلية والعالمية. وتم احتلال أروقة الجامعة من فرق الجيش والحرس الجمهوري بالخوذات والعصي وكأنهم في مواجهة مظاهرة للطلاب، لا فرق بين حماية رئيس داخل الجامعة أو خارجها. ومحرم على الجامعة أن يطأها رجال الأمن احتراما لحرية الفكر وجلال العلم. والجنود الفقراء يفترشون الأرض أمام مباني الجامعة مع قصعات الطعام للإفطار. فهذا الفقير على الأرض يحمي هذا الغني في القاعة. تحولت الجامعة إلى ثكنة عسكرية. والمظاهرات في الميدان تطالب بعودة الجيش إلى الثكنات. والحجة في ذلك كله أمن الرئيس. ولم يمنع أمن الرئيس وهو وسط جيشه يوم انتصاره من اغتياله. فالعدل هو خير أمن. والظلم لا تحميه جيوش الأرض ولا جحافل السماء. هناك فرق بين استقبال الأستاذ الرئيس في الجامعة من الجامعيين بالأرواب الجامعية كما فعل قضاة المحكمة الدستورية العليا وزفة العروس بالطبل والمزمار وعقلية الزفة لا تدوم. إذ غالبا ما يعقبها المارش الجنائزي كما هو الحال في الأفلام المصرية. أين هذا كله من تراثنا في معاملة الحكام الذي يتجاوز مماحكات الدولة الدينية والدولة المدنية. عندما كان يأتي رسول قيصر إلى الرسول فيجد جماعة تجلس تحت شجرة في لباس واحد وزي واحد لا زيادة فيه لأحد على آخر ولا نقصان فيسأل أيكم محمد؟ فيشيرون على واحد منهم. وكان الأعداء يتساءلون، ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق؟ منتظرين أن يكون ملكا من الملوك أو كسرى من الأكاسرة أو قيصرا من القياصرة. وكان الرسول يصف نفسه بأنه ليس إلا ابن امرأة كانت تأكل القديد وقوله أيضا لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم . وعندما كان عمر داخلا القدس نصحوه بأن يعتلي فرسا جديرا بأمير المؤمنين. فلما فعل اهتز الفرس تحته فصرخ. وطلب بغلته. فقد داخله الكبر والخيلاء.
الذهنية الرئاسية لم تتغير فينا. حتى ولو أتى رئيس، هذه مُثـُله. فإننا نجعل منه رئيسا، وشيئا فشيئا يصير فرعونا أو إلها كما حدث لرؤساء مصر السابقين. فنحن مستعدون لخلق الآلهة حتى ولو لم يكن هناك إله. وظيفتنا صنع الآلهة. ثقافتنا تعظم وتقدس وتؤله. ويحدث ذلك تدريجيا إلى أعلى، من الأرض إلى السماء، من ابن القرية إلى ابن الإله إلى الإله نفسه. لم تتحول ثقافتنا بعد إلى أن تتدرج أفقيا فيكون الرئيس واحدا من الجماهير. ويظل كذلك كما حدث لغاندي وهوشي منه وماو تسي تونج وجيفارا. فالسلطة في يد الشعب. وإليه تعود.
هذا مجرد تنبيه منذ البداية حتى لا يتعود الرؤساء على التعظيم والتبجيل والتفخيم ثم التقديس والتأليه إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ . وهو تذكير ثان للشعب ألا يعامل الرئيس على نحو تفضيلي وكأنه فوق البشر. الرئاسة وظيفة مثل كنس الطريق. وكان الرسول يحمل الأتربة فوق ظهره في حفر الخندق. الشعب لا يخلق رئيسا تعبيرا عن حاجته للرئاسة لأنه يثق بنفسه. والرئيس لا يخلق شعبا لأنه واحد من الناس. والشعب به مائة رئيس. إنما الشعب يصنع تاريخه بتوزيع المهام والمسؤوليات طبقا للقدرات. والرئاسة إحداها. لا تميز لها على غيرها. بل هي أكثر المسؤوليات ثقلا على النفس والله لو عثرت بغلة في العراق لسئلت عنها يا عمر لماذا لم تسو لها الطريق .
/7/2012 Issue 4255 – Date 19 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4255 التاريخ 19»7»2012
AZP07