الذاكرة الوطنية وبناء الوعي‮ ‬الإنساني – نصوص – سمير الخليل

قراءة في مرويات علي أبو عراق

الذاكرة الوطنية وبناء الوعي الإنساني – نصوص – سمير الخليل

يقول الشاعر والروائي الفرنسي أرغون ان المراة هي مستقبل الإنسان ، من هنا يمكن أن نفهم عتبة النص الأولى التي يطالعنا بها الكاتب البصري علي ابو  عراق في لوحة الغلاف لكتابه (شفاهيات،مرويات عراقية جرت على الشفاه)الصادر عن  دار تموز ،دمشق 2015   وهي تشكل اضاءة على ما يريد ايصاله الينا ، فاللوحة تشتمل على صورة تضم الجزء العلوي لثلاثة تماثيل من الحضارة السومرية تمثل الالهة المقدسة فيما تكتمل اللوحة بصورة امراة عراقية من جنوب العراق  في مشحوفها وسط الاهوار ، رامزاً بذلك الى الامتداد الطبيعي لتلك الحضارة ، وان المرأة هي الوريث الذي غُيّب في تلقي الارث الحضاري الكبير بسبب نظام اجتماعي فرض عليها البقاء في الظل ، فيدفع بذلك النظام الممثل بصورة الشيوخ وديوانهم الى لوحة الغلاف الخلفي للكتاب؛ ليؤكد ان المراة متن مهم في مروياته وهو ما سنتطرق اليه لاحقاً. ولكن قبل ذلك علينا ان نعرض لمسألة مهمة تتمثل في علاقة الشفاهي بالمدون ؟تسحب “شفاهيات مرويات عراقية جرت على الشفاه” وراءها إرثا يتمثل في الانتقال من المروي الى المدون، فعبر التحول الى تدوين المروي شفاها ثمة تساؤلات لم تعد خافية عن القارىء ، فهي محاولة لالتقاط المنسي وجرّه الى دائرة الاهتمام ؛ بغية إقامة علاقة تواصل يرى المنتقون للمادة المروية انه يصلح ليقدم معرفة للجيل القادم الذي يرى الكاتب انه بدأ ينسل عن تاريخه وتضعف علاقته بذاكرته الوطنية ؛ بسبب سطوة التكنولوجيا الرقمية.  ان تحويل المروي الشفاهي إلى مدون يمنحه صبغة الخلود وليس الحياة وثمة فارق بينهما، فعبر الرواية الشفوية تؤكد المجتمعات دورة حياتها بينما في المدون تلتقط المجتمعات صورة ازلية لوجودها التاريخي . وما يسعى اليه ابو عراق هو تأكيده على خلود هذا البلد بمروياته وارثه الحضاري وهي قضية تتجاوز مسألة الحفظ والخوف من ضياع المرويات التي تمثل هاجساً لبعض مدوني الاخبار ، فهو يقدم درسا لاسيما في ربطه المتكرر بين الحضارات التي انتهت واقعاً وبقيت خالدة في ذاكرة الوجود البشري والانسان العراقي لاسيما ابناء الجنوب . وهذا التعالق هو نزعة وطنية يحملها من أُثقل بهمَّ الحاضر في هذا الوطن . وهذه الزاوية اضاءة اخرى يقدمها الكاتب للدخول الى مروياته .

يقع الكتاب في مسار اهتمامات النقد الثقافي لاسيما في تناوله لمرويات المهمشين من نساء وعبيد وفلاحين ، هؤلاء الذين شكلوا متناً مهما من متون الذاكرة العراقية ولكنهم انسحبوا الى شفاه الناس وفي الركن القصي من ذاكرتهم بسبب هيمنة المرويات الاخرى : مرويات الاقطاعيين والشيوخ والمحتلين والسلطات السياسية التي اجتازت اعناق البسطاء ؛ لتسجل تاريخها بدمائهم . ويمهد بدراسة عن تاريخ الحزن العراقي مستدعيا الجذور والبدايات التي تؤسس لقاعدة يحتمي بها ليمنح الحزن بعدا قدرياً يرتبط بموروث الحضارة . وقدرا تكون المراة هي الحامل لشعلة الحزن الابدي في هذه الارض . تتضمن المرويات سبع وعشرون مروية توزعت على محاور ثلاثة وهو ما يمكن ان نحددها لغرض فرز الموضوعات التي انتقاها الكاتب لتشكل متنا لمروياته وهي:(علاقة الرجل بالمرأة ، علاقة الفرد بالسلطة، وعلاقة الانسان بمجتمعه) هذه المحاور الثلاثة ابرز ما شكل الذاكرة الانتقائية للكاتب وهي قضايا تشكل اولويات في اهميتها لأي انسان فمن غير العلاقة الثنائية بين المراة والرجل لا يمكن النفوذ لمعرفة المجتمع ولا يمكن من دون التعرف على المجتمع التطرق الى مفاهيم السلطة . فالكاتب يقدم قراءة نقدية للعلاقات الثلاث ، فنجده في محور الرجل والمراة يركز دائما على اثر المراة في صناعة التاريخ اذ تشغل الثيمة الرئيسة لعدد من مرويات الكتاب وتنتزع عنوانات بعض المرويات مثل “كركي كتل زعفران يهل السوك عزلوا” و” بنت اليهودي” وتأتي بعض العنوانات لترتبط بمقولات ذهبت مجرى المثل وردت بلسان النساء” وليدي مو تنسة ام حياة ” ” اسود وعادة” “مطلة الغمان” “كتلك يايمة يصبري متسجليش” “يلتحوف الناس حافوا بيتك”. فضلا عن ايراده لعدد كبير من الشعر الشعبي والدارمي لنساء عراقيات .

ممارسة ظالمة

ان اكبر ممارسة ظالمة طالت تاريخ المرأة هي اقصاؤها من عملية كتابة التاريخ في الوقت الذي ساهمت في صناعته، ففي البدء كانت المرأة وجودا حاضرا واستمرت الى جانب الرجل تكتشف معه قوانين الحياة، لكن عندما اهتدى الانسان الى اهمية التاريخ استحوذ الرجل على مقاليد كتابته وهو ما يؤكد ان التاريخ دائما يكتبه الاقوى . يواجه ابو عراق هذا التاريخ بكتابة الضد وهو ابراز اثر المرأة المغيب وصوتها المتلاشي على امتداد حقول الارز وسنابل الحنطة؛ ليشغل مساحة زمنية ومكانية كانت المرأة فيه عالقة في ذاكرة المرويات لاسيما وهي الحامل الاول لها عبر ذاكرة الامهات والجدات وسرد ليالي الشتاء الطويلة ، فنجده يقف امام اسماء لنسوة عراقيات وقفن بصرامة وشجاعة وصبر يتصدين لمختلف السلطات كما يذكرنا الكاتب في مروية ” تطلك تريد اتجيب حبلى الليالي انتفاضة ال الزيرج 1952″ حيث يقف امام الفلاحة (ليلوة) وهي امرأة نادرة الشجاعة ولكن لا احد يتذكرها كما يقول  . لكن الكاتب لا ينساق كثيرا ليعبر عن مركزية هذه الفكرة بل انه يشيد بدور كل من الرجل والمراة في صناعة التاريخ ففي المروية السابقة يتحدث عن الفلاحة (ليلوة) التي قُتلت في انتفاضة ال الزيرج الى جانب تذكيره باسماء فلاحين اخرين مضوا الى جانبها  . وبينما تشغل مروية ” كركي كتل زعفران ياهل السويكة عزلوا ” قصة مشهورة عن امرأة عراقية قُتلت على يد المستعمرين البريطانيين نجده يسلط الضوء على رجل غيبته الحكاية وهو الحاج عبود رئيس الشرطة الذي كان له اثر واضح في اشعال غضب الناس على الجنود البريطانيين الذين قتلوا زعفران، وهو بذلك يكتب سردا معادلاً يعلي فيه من قيمة الاثنين معا في علاقة قائمة على تفاعل الرجل والمراة ومواقفهما المشتركة. اما المحور الثاني فتتمثل علاقة الفرد بسلطة يسيطر عليها دافع الخضوع والمواجهة وتختلف هذه الثنائية حسب الافراد وطبيعة القضية التي تعرضها المروية ، فلكل فرد حكاية تختلف اذ يواجه العبيد شيوخهم عندما تصبح معايير الشرف غير قابلة للتفاوض ، ويواجه المصابين بعاهة شيوخهم كما في مروية (تجليات شنين الاخرس) عندما يشعر بأهمية المواجهة ، في حين يقبل بعض الفلاحين او اغلبهم عقوبات تتجاوز المعايير الانسانية بسبب فقرهم وضعف تمثيلهم الاجتماعي كما يحصل لحسون عندما لم يستطع تسديد عشر جيلات من محصول حقله لشيخ العشيرة فعوقب بطريقة وحشية ، وكما يقتل حميد المطرب على يد الشيخ الفاسد بطريقة بشعة بسبب تقربه من احدى محظياته . والشيخ الفاسد قراءة جريئة يقف عليها الكاتب ليشير الى واقع قابل للتكرار في مجتمع عراق ما بعد التغيير اذ ضعفت السلطة المركزية لتنطلق السلطة القائمة في الظل ، والشيخ الفاسق انموذج لان الكتاب يطرح نماذج تدعو الى قراءة مراحل الوعي الانساني للبحث في الجذور. ومع قصة سفنديار الحر نتعرف على روح الغيرة في الذود عن الشرف كما اشرنا قبل قليل  . وتصل حالة المواجهة بين الفرد والسلطة الى مواجهة المحتل البريطاني والى مواجهة الممثل الرسمي للحكومات الوطنية وهو ما تتطرق اليه مرويات (يابيك ازركنة بصمونة ، وكتلك يمة يصبري متسجليش ، وابن طوكة .. الخ) فهي تؤكد باستمرار على حالة الثورة التي تجعل العلاقة بين الحكام والمحكوم مأزومة كلما شعر الاخر ، واعني الفلاح او الفرد، بانفصال تلك السلطة التي تمثله عن تلبية احتياجاته

ويظل الفلاح المغلوب على امره في النهاية يراقب اضمحلال البيوت التي ترمز الى السلطة القاهرة ليمر من امامها وهو يردد ((بيت الظلمنا صار مسطاح/ وللهوش والدابة مراح/ كل ليل لابد من صباح)) .اذ تتحول بيوت الشيوخ الموالين للسلطة الى مناصب وهي كما يعرف بها الكاتب الاثافي التي توضع عليها القدور للطبخ ، الفرد يرقب هذا التحول ليتشفى وهي وسيلة من وسائل الاحساس بالعدالة الالهية بعد ان تعجز العدالة البشرية عن التحقق.

في ما عدا ذلك فالمرويات في محورها الثالث تسلط جانبا وافرا على الحياة الاجتماعية للفلاحين والشيوخ ويضم الكتاب الفاظا حضارية تنتمي الى المجتمع الريفي منها خبز السياح والمطبك والاشارة الى بعض المواسم المتعلقة بالحصاد والتعريف بمراتب نظام المشيخة والحرس والعاملين فيه، وكان الكاتب يمرر ذاكرة المصطلحات عبر القصة تارة وعبر الاشارة في هامش الكتاب تارة اخرى وفي بعض الاحيان يلجا الى اعادة التعريف لبعض المصطلحات حرصا على تذكير القارىء بها ؛ لتعلق في ذاكرته وهو ما يؤكد انه يحمل هماً معرفيا ومسؤولية اشاد بها نصه الادبي . وتظهر بعض المرويات العادات والتقاليد الاجتماعية التي تشكل الهوية للجماعات والافراد ، ولقد اجتهد الكاتب في عرض ملامح العصر وطبيعة العلاقات الاجتماعية التي تربط الاسر والعائلات فيما بينها وهي التفاتة يدرك الكاتب اهميتها في كتابه اذ لا يمكن ان تقدم المرويات الشفاهية من دون الاشارة الى الطبيعة الاجتماعية فمثلا تظهر المرويات كيف يرفض المجتمع زواج بنات العائلات المعروفة والعبيد السود الذي يمتهنون مهام القهوجي او الخادم فتروي مروية ” اسود وعادة” الاشكاليات التي تمنع حدوث الارتباط الا بطريقة واحدة وهي النهبة اي هرب الفتاة والشاب الى قرى اخرى والعيش متخفين طوال حياتهم تجنبا للعقاب .  كذلك تسلط المرويات الضوء على اشكال التعايش الاجتماعي بين القوميات والديانات المختلفة وهو ما تعكسه مروية ” وليدي مو تنسه ام حياة” اذ تروى كيف يهتم اهالي الحي بالسيدة ام حياة وهي امرأة يهودية تعيش وسط حي للمسلمين .

يثير الكتاب البصري الى جانب ما ذكرناه مسألة مهمة توضحها مروية  ” تبادل سلمي للسلطة ” التي تقدم نقدا سياسيا ساخرا عبر الحكاية الرمزية بين الاسد والحمار والكلب فيقول على لسان الاسد الذي يقرر ترك الغابة وتسليمها للحمار (( ان غابة يقيدني فيها كلب ويحررني فيها حمار سوف لن امكث فيها يوما او ساعة واحدة …))  وهي تثير جماليات الحكايات الرمزية التي عودتنا عليها الكتب التراثية في ايصال رسائلها النقدية. ولذلك فأبو عراق عبر انتقاء هذه المروية يكشف عن الكيفية التي يتموضع فيها عنوان الكتاب وسط القراءة المعاصرة لوعي الفرد العراقي الذي تحاصره الازمات المتتالية؛ مما تجعله يعيش واقعاً يخيم عليه بؤس الانتظار . وهو ما يدفع كاتبنا لاجتراح حلِّ يتمثل بإعادتنا الى الماضي ليحاول معالجة حاضر باتت مروياته المشاعة لا تصلح لبناء ذاكرة وطنية ، من هنا أصبح التوسل بالزمن الماضي وبتعالقات المقومات الخاصة لأبناء العراق عمادا لفتح كوة ننفذ منها على الحاضر ، لنضع امام الجيل القادم ابوابا مشروعة لقراءة تاريخه بوعي ، على اننا نرى ان اهم اشتراطات اعادة القراءة تتمثل في انتزاع حالة الوهم المقدس الذي تضفيه الذاكرة على ملامح الاشياء ، فالماضي ليس سوى تاريخ لا يجب ان نتمسك الا بقراءته بعيدا عن التأثير العاطفي المرتبط بزمن الطفولة. وقد كان الكاتب حريصا على ان يتلقف ما يساعد على بناء منظومة وعي على قدر ضخ التجربة التي يقدم عليها، فالمرويات يمكن ان تقرأ ضمن مشروع التقاط المنسي وتحويله الى منتج معرفي يمكن ان يقرأ الحاضر بعيدا عن فخاخ الانسياق العاطفي لاسيما وكاتبنا شاعر يتفنن في اقتراح الاسئلة للغياب ، واعلامي يلتصق بواقع وطنه المأساوي فيجترح بعض الحلول ليواجه بها خراب الذاكرة .

 ان عملية تحويل المروي الشفاهي الى المدون يستدعي تغييرا للخصائص الاسلوبية للمروية وهو ما قام به الكاتب عندما زاوج بين اللغة الفصحى والعامية منتقلا بينهما كلما استدعى ذلك بناء المروية موفقاً  تارة وبخلاف ذلك في مواضع اخرى نجد فيها ان اللغة الفصحى انسحبت على الموقف الذي كنا ننتظر ان نستمع فيه للغة الشخصية . واجمالاً تميزت المرويات ببناء متماسك حفل بلمسات المؤلف ومنها نفوذه الى دواخل شخصيات مروياته وملء الفجوات التي اهملت في اطار السياق التداولي للمروية ، وهي بذلك تؤكد  حقيقة ان التاريخ لا يعرض نفسه على شكل متماسك ما لم يعالج على وفق بناء سردي يضفي عليه وهم التماسك ، فبين التاريخ والقصة ثمة فارق مهم علينا ان نعيه وهو ان التاريخ لا يعرض احداثه على شكل قصة في حين تقوم السرديات باضفاء وهم التماسك على التاريخ وهو ما شغل الكاتب فراح يؤثث لمروياته فأصاب حينا وسقط في فخ الاستطراد حينا اخر، فكانت مروياته في خاتمة الامر مزيجا من قصص ادبية ذات نزعة تاريخية لا تخلو من قراءة نقدية متفحصة للواقع والانظمة السياسة المتعاقبة ، وهو ما تنزع نحوه الكتابة الحالية التي لا تحفل كثيرا بالأجناسية الواضحة ، لذا فقد تحرك كاتبنا بحرية بين اذرع التاريخ والادب معاً فكان مؤرخا بلباس اديب لا يخفي شاعريته لاسيما عندما ينتقل ليصف لنا عالم الريف والحقول واشكال الحياة اليومية . وهو ما دفعنا للتفاعل مع المرويات المدونة التي اجاد الكاتب اثارة تعاطفنا معها كما في مروية العاشق الذي يذوي حبا بسبب حبه لفتاة يهودية لا يسمح لهما بالزواج اذ يصبح تعاطفنا نقدا الى تلك المحظورات الاجتماعية والدينية التي تقف في طريق العاطفة النبيلة . وكذلك نتعاطف مع حب امرأة من عائلة معروفة لعبد اسود ، او نتعاطف مع عراقي قطع الاحتلال البريطاني ذنب كلبه فيثأر بقتله لأربع جنود منهم ، ان خلاصة ما يمكن قوله ان المرويات يمكن ان تعيش طويلا بسبب طابعها القصصي وهو ما سعى اليه كاتبنا عندما شرع في مشروعه المستمر لتدوين المروي . وهو مشروع نتمنى له النجاح لاسيما وان (علي ابو عراق) لم يكتفِ بجهد نقل المروية وتدوينها بل اضفى عليها رؤيته الخاصة بدءا من فعل الانتقاء وحتى جهده في سد الثغرات الناتجة عن عملية النقل لتتناسب مع قارئ المدون بخلاف بعض القضايا التي تهمل عند رواية الحكاية شفاها لقارئ حاضر ،  مستثمرا مواهبه كافة في انتاج مروياته في اطارها الادبي .

ان ما نعرفه عن الماضي – كما تقول ليندا هيتشون – مشتق من خطابات ذلك الماضي ، وعليه فما هو شكل الماضي الذي قدمه لنا ابو عراق في كتابه عن تاريخ شعب ووطن ؟ وما ملامح السلطة المعرفية التي أشار اليها الكتاب ؟ باختصار تكمن الاجابة في ان الماضي هو مرآة لحياة شعب قاوم المحتل وقاوم انظمته السياسية التي جارت عليه، وكثيرا ما خضع ايضا بدوافع اجتماعية واقتصادية حتى بلغ السيل الزبى، واهم مصادر السلطة المعرفية في المرويات كانت تتمثل في صياغة التقاليد والاعراف كمصدر للمعرفة الى جانب المعرفة الدينية ، وفي بعض المرويات اشّر الكاتب جانباً اخر تمثل في معرفة وافدة استجاب لها ابناء الريف لاسيما فيما يتعلق بمفاهيم فلسفية كالاشتراكية وما يترتب عليها من اشاعة الملكية العامة وضرورة رفض النظام الاقطاعي .

هاجس مركزي

ختاماً يجدر القول ان كاتبنا البصري يرى ان الشباب سوف لن يخصصوا وقتا للبحث في ماضيهم ، وهو ما يشكل هاجساً مركزياً يحيط بمدوني الاخبار والمرويات وهو هاجس لا يبرره ما يساق من اعذار؛ لان لكل جيل قراءة خاصة تناسب ظرفها ، اما التدوين فهي محاولة قديمة ابتدعها الانسان لتحويل الماضي الى معرفة ، والدعوى التي تسم الاجيال الجديدة تكاد تكون متشابهة في قصورها بتقصي المعرفة ، وهو ما يذكرنا بما اورده ابن قتيبة عندما برر سبب تأليف كتابه ادب الكاتب للكتاب الناشئين الذين قصروا عن التعلم والقراءة ، ونجد صداه يتردد في حوار اجري مع الاديب طه حسين عاب فيه على الجيل الناشئ عزوفه عن القراءة . ويبدو ان استدعاء قول الاديب والروائي نجيب محفوظ هو الاقرب الى الموضوعية حينما سُئل في حوار اجري معه عن استماعه للاغاني الجديدة فأجاب بانه لا يستمع لها ، وسأل بدوره محاوره عن ان كان هنالك من يستمع لها، فأجابه بالايجاب فقال محفوظ بان ذلك امر جيد. ان تغير الامزجة والاهتمامات للأجيال علامة من علامة الحياة ولكن في خضم ذلك لابأس من عرض محاولات ربط الشباب بجوانب من تاريخهم بغية المساهمة بنمو الوعي الانساني والمعرفي ، على ان يحاول الجيل السابق الاقتراب من عرض الماضي كمنتج معرفي يناسب الزمن الحاضر وهو ما قام به علي ابو عراق في كتابه هذا.اتمنى لكاتبه الأستمرار في مشروعه الثقافي ولاسيما وان حقل الدراسات الثقافية والنقد الثقافي قاما على المستهلك الثقافي والمهمش والخطابات غير الممجدة للجماليات وسلطا الضوء على الجندر والأبداع النسوي وخطابات المهمشين والسود والتعددية الثقافية وهو ما تناوله الكاتب ابو عراق برشاقة ووضوح وقدرات خاصة به.