الدين أم الوجودية ؟
في خضم الظروف القاسية التي يشهدها شعب أو جيل أو بلد بأسره من قتل ودمار وتشريد وقهر وسلب كل حقوق الإنسان ، عندها تتبدل كل الموازين والأفكار والمسميات ، تتبدل أيضا الأفكار كما هي السياسة ، والأدب منذ نشأته الأولى ما هو إلا ترجمة لأفكار يشعر بها الإنسان ، والأدب هو الشخص المتمرد في داخلنا .
البعض منا لا يستطيع ترجمة ما يشعر به، والآخر يستطيع لكنه يخاف ، والقلة القليلة هم الأدباء الذين يبيحون ليس ما هم يشعرون به بل ما يشعر به الجميع ، وهنا تكمن الإشارة إن ليس جميع الأدباء لديهم الإنسان المتمرد كما هو في شخصية دستيوفسكي ، فتنحصر القلة القليلة من الأدباء الذين يبيحون ما في نفوسنا فنشعر بالراحة من كتاباتهم رغم الكثيرين منا من يعارضهم ، وهؤلاء ربما يثيرون على الطبيعة بكاملها وينشأ الأدب الوجودي.
الوجودية ما هي إلا إرهاصات الفرد الذي يعاني وما زال يعاني من ظروف عاتية ألمت به ، وهو لا يستطيع أن يثار لها فيثأر على نفسه بأفكار يمكن هي تؤذيه فكريا ، فيظهر ذلك على أدبه ، ولهذا نجد من أروع ما يكتب في الأدب هو الوجودية . الوجوديون هم أكثر الأشخاص إيمانا وتشبثا ، نفورهم من الدين وكل معتقد بوجود الخالق وغير ذلك ، جاء بعد خذل متواصل من إيمانهم العميق ، لذلك تمردوا وأثاروا على معتقداتهم لأنها لم تجديهم نفعا ولم تقدم لهم أي شيء، فصدموا ممن يحبون ويثقون ، رغم إلحادهم الا أنهم يبقون على إيمانهم القديم لأنهم غالبا ما نجد هذه النفثات في كتاباتهم وكلما زاد المرء بإلحاده وتكذيبه بوجود الله كلما كان دليلا على إيمانه ، لأننا لا نمحو شيئا إلا إذا كان موجود ، وكلما تكلمنا أكثر واتينا ببراهين على العدم كلما كان في المقابل إيماننا الكبير به .
الإنسان بطبيعته يريد أشياء ملموسة حتى يؤمن بها ، وان إيمانه الذي ورثه عن آبائه وأجداده قد علموه أن الإيمان يجلب له الطمأنينة والسلام والأمان ، فتشبث به طوال سنين عديدة وليتفاجئ للحظة بان ما تعلمه هو وهم (هذا بالنسبة لمعتقد الوجودي).
فنجد في كتاباتهم الإنسان المتمرد الذي يرفض كل ارث ورثه عن أسلافه بل يشن الحرب عليهم كما فعل نيتشه من شن هجوم على إيمانه السابق فكان يجمع التلاميذ في المدرسة ويتلو عليهم آيات من الإنجيل ويبكيهم حتى انتهى المطاف بتسمية نفسه عدو المسيح ، فتمرد الوجودي ما هو إلا حرب على الظروف العاتية المحن والأزمات ، لذلك الأدب الوجودي هو مقرون بالحروب ، ما إن تنشب الحروب والمجاعات والاضطهاد حتى ينشط هذا الأدب .
مؤسس هذا المذهب هو جان بول سارتر (1905-1980) ، لم تكن نشأته لهذا المذهب لفكرة عارضة الم بها للحظات بل لظروفه التي عاشها وعانى منها منذ ولادته وفقده لأبيه وهو في سن الخمسة عشرة شهرا وحتى زواج أمه وهو في بداية مراهقته وكرهه الشديد لزوجها ، حتى التحاقه في الثلاثينيات في المقاومة الفرنسية السرية ضد الاحتلال النازي، هو عاش حالة اليتم والحروب ، لقد رأى ما رأى من قتل ودمار وتشريد ، حتى فقد إيمانه بدينه ، فنشأ عنده هذا الاعتقاد بالوجود والعدم فألف كتابا عن الوجود والعدم وهذا أروع ما كتب عن حالة الإنسان في هذه الظروف ، وكتب أيضا الجدار والغثيان ومسرحية الذباب وغيرها الكثير التي تعكس حالة الإنسان التي نمر بها نحن الآن .
وقد تبعته الروائية الشهيرة سيمون دي بوفوار التي عملت معه وأصبحت عشيقته ، هي أيضا تمردت على المجتمع حتى اثر ذلك على لباسها فهي أول من ارتدت البنطلون لتتشبه بالرجال ، لان البنطلون كان ممنوعاً ارتدائه في فرنسا ، لقد صدر قانونا بمنع ارتدائه ومن المفارقات الغريبة أن هذا القانون ما زال ، لم يصوت عليه البرلمان بألغاءه لكن غض النظر عنه .
وجاء البير كامو (1913-1960 ) هذا الفيلسوف العملاق الذي انتمى إلى هذه المدرسة وليكون أفضل من كتب فيها ، لقد تمرد على كل شيء وأعلن اعتقاداته بصراحة تامة ، هو أيضا عانى ما عانى من ظروف قاسية ومن حروب وويلات وأمراض ( لقد أصيب بالسل) أثرت عليه ، لنجد ذلك في الغريب والمقصلة والسقطة والطاعون وغيرها من روايات وكتب فلسفية ، لكن الكتاب الذي مثل مدرسة الوجودية هو (أسطورة سيزيف) وهو من الشخصيات في الميثولوجيا الإغريقية، سيزيف الذي سب الاله مما حكمت عليه بالعذاب الدائم والمتكرر وهو أن يرفع صخرة كبيرة إلى أعلى الجبل وما أن يصل إلى القمة حتى تسقط وتتدحرج إلى الأسفل ، اشد العقاب هو أن تعيد عملك لمرات متعددة ومن دون جدوى ، هنا تكمن عبثية الحياة فيولد مذهب آخر من الوجودية وهو مذهب العبثية .
أراد البير كامو أن يخبرنا بان الوجودية هي ليست وليدة الأربعينيات من القــرن المنصرم ووليدة الحروب العالمية ولكن هي أزلية وقديمة ، هذه الوجودية هي متلازمة مع الأزمات والحروب .
فسؤالي هو هل سيعود ويظهر المذهب الوجودي في الأدبيات ؟
وهل سيكون ظهوره في الوطن العربي هذه المرة وليس في فرنسا ؟
اعتقد أن هنالك أقلاما شجاعة ستكتب روايات عن ذلك وسيعود ظهوره مرة أخرى .
سيف شمس الدين الالوسي- بغداد