الديمقراطية لا تعني تقسيم المناصب والمغانم
معتصم السنوي
بعيد عن الواقع والنظرة العلمية من كان يعتقد وما زال من أنه ستفرش الورود في الطريق الذي أختاره العراق للسير نحو الديمقراطية ، وإذا كان من السهل أسقاط نظام شمولي بمدة لا تزيد عن شهر. فإنه من الصعب جداً معالجة تبعات ما ترتب وسيترتب عنه هذا السقوط، إضافة للأخطاء الكبيرة التي ارتكبها الأحتلال في إعادة تنظيم الدولة بعد إلغاء أجهزتها ومؤسساتها كافة التي حولت عراق ألف ليلة وليلة (أيام زمان ) ، إلى عراق ألف مشكلة ومشكلة في هذا الزمن الصعب لتقصم ظهر (الجمل بما حمل) ليبرك في مكانه دونما حركة . يضاف لذلك صراع القوى المحلية على مراكز السلطة وثروات الشعب بصورة لا تتفق مع المعايير المعتمدة في أبسط الأنظمة الديمقراطية وبإعتمادها المحاصصة الطائفية في تشكيل وبناء الدولة والحكومة على أرض رملية متحركة قابلة للأنهيار في أي لحظة وبأقل هزّة سياسية أو أقتصادية ما دامت السفينة تُبحر عكس الريح وقانون الطبيعة.. وقد يكون بعض هذا الريب ، بقية من رواسب الأجيال، وهواجس القرون، ولكن أكثره – فيما نعتقد- ثمرة الجهود التي تبذل – اليوم- ضد الديمقراطية، لتشويه بهائها، والتشكيك في قيمتها وحتميتها .. أصحيح هذا .. ؟ أصحيح أن الديمقراطية في بلادنا، باءت بالأخفاق، والشقوة والبوار..؟ أصحيح أن شعوب المنطقة العربية، لا تزال بحاجة إلى أوصياء يختارون لها، ورعاة يهشون عليها بالعصا..؟ وما الديمقراطية ..؟ أهي نوع من أنواع الحكم، وكفى ..؟ أم سلوك ومنهاج، ينظمان شؤون الحياة كلها، ومصالح الناس جميعاً..؟ وهل ثمت وسيلة سواها لتكريم الإنسان، وصيانة حقوقه في الحكم وفي التشريع ، وفي المجتمع، وفي الحياة- كل الحياة.. وفي هذه اللحظات الحاسمة من تاريخينا، حيث يمضي بفصل قضائه أمس.. ويأتي بتبعاته الشداد غد .. ينبعث من أعمال التجربة الإنسانية نداء رجل يصيح بنا في مثل عزم المرسلين ، فيقول : ” الآن ” أفهموا ما أقول لكم جيداً إن في طبائع الأشياء أن تجعل ورداء كل ظفرٍ يتحقق ، حاجة إلى الجهاد أشد وأعظم.. فلنتدبر هذا النذير القادم من الشاعر العظيم ” ويتمان ” . ولتكن أولى محاولات جهادنا، ضد أنفسنا حتى نؤمن بالإنسان، وبالحق، والحرية.. وللخروج من الدوائر المغلقة التي سيقت إليها الجماهير يتطلب البحث عن ديمقراطية ترتبط بشكل مباشر بمصالح الناس جميعاً وهي إحدى أفكار كثيرة ، خلقها فلاسفة السياسة منذ قديم ثم أخذوا يزيدونها مع الأيام خصوبة مضمون وثراء ومعنى ، ولقد أزدات بهذه الإضافات المتوالية ، أنتفاخاً في حجمها ، واتساعاً في رقعة تطبيقها ، حتى لتبدو آخر الأمر وكأنها كائن مختلف عما كانت عليه أول الأمر، وسواء كان فلاسفة السياسة هم الذين خلقوها من أذهانهم خلقاً ، ثم عرضوها على الناس فاعتنقها الناس وطبقوها ، أم كان هؤلاء الناس هم الذين أداروها في صدروهم آمالاً غامضة . فجاء الفلاسفة ليخرجوها لهم مصوغة في عبارات تحددها . فلا اختلاف بين الطرفين في النتائج، وإحدى هذه النتائج التي ليس عليها اختلاف، هي أن فكرة الديمقراطية وغيرها من ” الأفكار السياسية ” لا تفهم إلا مقرونة بزمن استعمالها ، وهي اليوم تعني ( ما تعني) ، بل ربما كان لها في هذا العصر الواحد- كعصرنا الحاضر – معنى عند قوم يختلف عن معناها عند قوم آخرين … وهكذا قل في سائر الأفكار الرئيسة في مجال السياسة، كالحرية، والمساواة ، والأشتراكية وغيرها ، وبغير هذا التحديد يحدث الخلط في أفهام الناس خلطاً نراه بأعيننا ونسمعه بآذاننا حين نرقب الناس وهم يتجادلون في هذه المعاني، فندرك كيف يتجادلون على غير أرض مشتركة ، إذا يكون لكل منهم معنى في ذهنه غير المعنى الذي يجادل به الآخر … وللوقوف على هذه الحقيقة فليسجل كل منا معنى للديمقراطية وارداً في الصحف ، فإذا بالحصيلة (كشكول عجيب) ، يدل أوضح الدلالة على مقدار التباعد بين الناس في تصورهم للديمقراطية ماذا تكون ، برغم كونها محوراً رئيساً في الحياة السياسية كلها وبرغم أننا نعيش معاً في عصر واحد وفي بلد واحد : فالديمقراطية عند كاتب هي حرية المناقشة وتعدد الآراء ، وهي عند كاتب آخر أرتفاع الحد الأدني للأجور مع أنخفاض الحد الأعلى، وعند كاتب ثالث هي التوزيع العادل لاعباء الضرائب، وهي عند كاتب رابع استقلال السلطات بعضها عن بعض وهكذا ، .. قرأت في كتاب ” صلة العلم بالمجتمع ” – تأليف كراوزر- أن ظهور الحرير الصناعي في اليابان ، كان له أثر واضح في أزالة الفوارق الطبقية في تلك البلاد ، فلقد تميزت طبقات الناس قديماً- في اليابان وغيرها بأنواع ثيابها، فكان الحرير في اليابان مقصوراً على الطبقة العليا، التي كان منها رجال الحكم ، فما أن استطاعت الصناعة الجديدة أن تخلق نوعاً من الحرير لا يختلف مظهره عن حرير دود القز، بات المظــــــهر متشابهاً بين حاكم ومحكوم ، مما أوحى إلى الناس بفكرة ظلت تكبر وتنمو، وهي ” ألا يكون الحكم مقصوراً على أسرة حاكمة ، وحتى أن بقيت أسرة بعينها ” ، فلا ينبغي أن يجاوز ذلك حدوده الشكلية التي لا تؤثــــــــر في سير الأحداث. وعلى ذكر اليابان وحريرها الصناعي وما أحدثه من تذويب حقيـــــقي بين الطبقات .. ألا ما أكثر المعاني التي تمر على الإنسان مع مر الأيام، فلا يفهمها حق الفهم في حينها ، حتى إذا ما أسعفته خبرة الحياة بعد ذلك بما يعين ، تبين له من خفايا المعنى ما لم يكن قد تبين ، وللأديب الفرنسي ” أميل زولا ” قوله : إن ظهور المتاجر الكبرى ذات الأقسام المتعددة قد أنزل أدوات الترف منازل الديمقراطية، ولعل ما أراده ” زولا ” بعبارته السابقة عن المتاجر الكبرى . هو أن البضائع فيها معروضة أمام الأعين، لا فرق بين النفيس منها وغير النفيس ، وأثمـــــانها محدودة ، بغض النظر عن مكانة المشتري ، وهناك من يقول : وماذا في ذلك ؟ الإجابة تكون إن في ذاك الشيء الكثير من التسوية بين الناس ، مع الأخــــذ في الحسبان بأن تفاوت الأثمان للسلعة الواحدة ، بحسب المواقف المختلفة في عملية البيع والشراء، هو قرين للمجتمع إذا سادته التفرقة بين الطبقات ، وان اجتماع الأفراد جميعاً عند ثمن واحد للسلعة الواحدة في المتجر الواحد ، هو أيضاً قرين للمجتمع إذا شاعت فيه الروح الديمقراطية الصحيحة … ولم تكن الثياب وحدها ، أو المساكن أو ضروب العمل ، أو صور البيع والشراء، هي التي تفرق بين فئات الناس، بل كان يفرق بينها كذلك ضروب التعليم التي تتلقاها ، وأنواع الوسائل التي تملأ بها أوقات الفراغ، إلى أن أنتج العلم الجديد والصناعة الجديدة للناس (وسائل يجتمع عندها الأعلون والأدنون على السواء) ، فالإذاعة ، والفضائيات ، مرئية ومسموعة ، والصحيفة وشاشة السينما، لا تفرق بين مشاهد ومشاهد ولا بين قارئ وقارئ ، أو سامع وسامع، فأعلى فئات الناس وأدناها- كل في داره- يقضي ساعات فراغه بالطريقة نفسها ، وبالمادة الفكرية والفنية نفسها ، وفي اللحظة نفسها… كان القادرون وحدهم هم الذين يحصـــــلون على الفاكهة أو غير الفاكهة ، في موسمها أو غير موسمها ، وفي منبتها أو غير منبتها على السواء، فأصبح الأمر في هذا موزعاً بالتساوي على البشر أجمعين ، بفضل التعليب وطرائــــــــق الحفظ – وكلها من نتائج العلوم – حتى ليكون الإنسان في يومنا من سكان الصحراء ، وأمامه فاكهة الدنيا بأسرها ولحومها وخضرها على مدار العام فأنمحت بذلك (فوارق الزمان وفوارق المكان) ..
أننا لو استطردنا في هذا الحديث لتفتحت لنا أبوابه إلى غير نهاية وكلها أبواب تدخلنا في رحاب الديمقراطية عن غير طريق السياسة .. !