الديدان الأربع – نصوص – ثامر مراد
فجأة وجدتُ نفسي في مساحةٍ أرضية صغيرة لاتتعدى المترين المربعة أو أكثر بقليل. لم يكن لديَّ وحدة قياس الامتار كي أعرف بالضبط المساحة التي وُضِعتُ فيها في شتاءِ يومٍ شديد البرودة. تهاوى الى سمعي ذلك الصوت المرعب لغلق الباب الحديدي من قِبل السجان الذي لم أرَ وجهه قط. بقيتُ متكوراً في زاوية من زوايا المساحة ألأرضية كحيوانٍ صغير ينتظر ساعة الموت بلا رحمة. سمعتُ من بعيد صوتاً مكتوماً يأمرني أن أزيل القطعة السوداء التي أحكم شدها على عينيّ يطلب مني إزاحتها فقد أصبحتُ في مساحةٍ لاأرى فيها شخصاً ولايراني أحد من ألأقرباء أو ألأصدقاء. سافرت نظراتي الى جميع ألأتجاهات. لا أعرف هل اصرخ من الخوف أم أظل ساكتاً كأخرسٍ منذ الولادة. جدرانٌ شاهقة بلون البرتقال. نافذةُ صغيرة تلتصق بالسقف. أرضٌ جرداء عدا قطعة بطانية داكنة اللون تضفي حزناً لاينتهي لكل من يدقق النظر إليها . بقيتُ فترة زمنية لاأعرف مداها ملتصقٌ في زاوية من زوايا المكان أحتظنُ ركبتيّ بخوف شديد . هل أزحف نحو البطانية أضعها على جسدي المرتعش من شدة البرد أم هي فخٌ لي لأنزال أشد العقوبة لو إستخدمتها دون رخصة من مسؤولٍ ما ؟. إنقضت الليلة ألأولى والثانية وإنسلخ الشهر ألأول والرابع وأنا نزيل ذلك المكان الذي لاأعرف أين يقع وفي أي جزءٍ من أجزاء الكرة ألأرضية. من أشد أنواع العقوبةِ – في نظري – هو الصمت. سنة كاملة وشهر وأحد وأنا أعيش في صمتٍ مميت. لاأتكلم مع مخلوقٍ بشري ولايُسمح لمخلوق أن يتكلم معي. أنا لا أعرف لماذا جئتُ الى هذا المكان الذي يشبه القبر؟ هل أنا مجرمٌ من الدرجةِ ألأولى أم أن هذا هو قدري الذي قذف بي الى هذا الصرح الجهنمي الضيق؟ كل ليلةٍ أسترجع تاريخ حياتي منذ أن كنت في المدرسة ألأبتدائية مروراً بكل سنوات الدراسة الثانوية والجامعية وحتى فترة الخدمةِ العسكرية ابحث في تجاويف الذهن المرهق عن جريمةٍ – ربما كنتُ قد إقترفتها عن قصدٍ أو دون ذلك – بَيْدَ أنني لم أعثر على اي جنحٍ ولا حتى مخالفة مرورية. لماذا أنا هنا في هذا القبر المخصص للأحياء أمثالي؟ عند أفول الاشهرالستة تاقلمت على وضعي الجنائزي ولم أعد أهتم لأي شيء يحدث أمامي أو خلف جدران المعتقل الرهيب. أيقنت أنني أنتظر في قائمةٍ أُعدت للأموات . وأنا في خضم ذلك الضياع ألأبدي شاهدتُ يوما ديدان صغيرة تخرج من جحرٍ أو ثقبٍ صغير في الزاوية الاخرى من قبري هذا الذي تآلفتُ علية وأصبح جزءأً من حياتي. كانت الديدان تخرج في وقتٍ محدد كل يوم تلعب وتركض في مساحةٍ محددة ومن ثم تعود الى مملكتها المحفورة في أسفل الجدار. ساورني فضول كبير أن أراقب تلك الديدان برغبةٍ شديدة تزيل عني مساحات الفراغ والصمت التي تغلفني كل ليلٍ وساعات النهار. يوماً ما القيتُ لهن حبةٍ واحدة من حبات – الفاصوليا- لمعرفة مدى ردةِ الفعل لكلِ واحدةٍ منهن. كانت الديدان ألأربعة يُحِطنَ بتلك الحبة من جميع الجهات ويشرعنَ بقضمها الى فُتاتٍ صغيرة , كل واحدة منهن تسحب ماتستطيع سحبهِ الى مملكتهن في ثقب الجدار. إعتدتُ على ممارسةِ هذا العمل معهن كل يوم لأشهرٍ ستةٍ أخرى. لايمضِ يومٌ واحد دون أن أنظر اليهن وهن يقمن بنفس الطريقةِ المتناسقة في إنجاز ذلك المجهود اليومي. سبحان الله . هل جئتُ أنا من مكانٍ ما وزمنٍ ما كي أقدم لهن هذا الغذاء اليومي؟ إنها إرادة الله جل وعلى. أربعة مخلوقات بهذا الحجم الصغير رسمن في ذاكرتي حنيناً مطلقاً الى عائلةٍ صغيرةٍ تركتها هناك- ثلاثة أطفال صغار وشريكة حياتي- . لاأعرف كيف يعيشون؟ كيف يحصلون على طعامهم؟ شعرتُ أن هناك صوتاً خفياً يحط في عقلي اللاواعي يخبرني أن الله لن ينسى مخلوق من مخلوقاتهِ مهما صغر حجمة أو كبر. أحسستُ براحةٍ نفسية وشعورٌ لاإرادي أنهم سيحصلون على طعامٍ من مصدرٍ ما , يرسله لهم الله بلا توقف. يوماً ما لم أرَ أيّ واحدةٍ من تلك الديان ألأربعة. قلقتُ لهذا ألأمر وكأنني أفتقد شيئاً ينتمي الى كياني وكل جزءٍ من أجزاء جسدي. في بواكير الصباح ألآخر سمعت ُ صوتاً يأمرني بالخروج . بمعجزةٍ لاأعرف كيف حدثت وجدتُ نفسي بين أحضان عائلتي الصغيرة. كل ليلة كانت طفلتي التي طفقت تعرف كيف تنطق الحروف والكلمات وتدرك ما يحيط بها – كانت تحدثني عن ذلك الطعام الفاخر الذي كانت تجلبهُ العجوز في الطرف ألآخر من الحي بين فترةٍ وأخرى الى عائلتي الصغيرة- بعنوان الثواب- على أرواح ألأفراد الذين رحلوا الى عالمٍ آخر. تذكرتُ كيف كنتُ أُطعم الديدان الاريعة في ذلك الصرح الجهنمي الضيق. حقا أن الله يرزق من يشاء ولاينسى مخلوقٌ من مخلوقاتة.

















