الدولة الكردية مؤجّلة إلى وقت آخر

الدولة الكردية مؤجّلة إلى وقت آخر

 

 

عصام فاهم العامري

 

 

ظاهريا يبدو ان حلم الاكراد المشروع لاقامة دولتهم القومية أضحى  خلال الشهور القليلة الماضية أقرب إلى الواقع من أي وقت سابق . والواقع يشي ان الممكنات الواقعية لهذه الدولة صارت متوفرة على المستوى المادي ، لكن العامل الدولي والاقليمي ما زال حتى الان يمثل عقبة كأداء يقف دون اعلان تلك الدولة . فأكراد العراق أنفسهم كما هو معلوم كانوا يحكمون انفسهم  منذ  أن حجمت القوة الجوية الأمريكية نظام صدام حسين بعد حرب تحرير الكويت عام 1991 . وقد استطاع اكراد العراق ان يحكموا انفسهم بمعزل عن بقية العراق لاكثر من عقد حتى احتلال العراق عام 2003 . وبعد احتلال العراق انخرط الاكراد طوعا وترغيبا من قبل دول التحالف في العملية السياسية واضحوا جزء من الحكم العراقي حتى تقلد منصب رئاسة الجمهورية في  العراق رئيسان كرديان حتى الان .

 

والان بعد سيطرة قوات داعش على الموصل واجزاء من محافظة صلاح ومدن أخرى  تقدمت قوات البيشمركة الكردية في مناطق عديدة متنازع عليها في محافظات كركوك وصلاح الدين والموصل وديالى . ونتيجة تراكم المشاكل بين حكومة الاقليم وحكومة المالكي في بغداد ، ونظرا للانهيار الامني الذي تسببت به حكومة المالكي في المناطق المتاخمة للاقليم الكردي ، بدأ الاكراد يعدون العدة للانفصال عن العراق واعلان دولتهم المستقلة . غير ان قوات داعش – التي أضحت احسن تسليحا بعد استيلاءها على اسلحة امريكية من الجيش العراقي –  استغلت ميل ميزان القوى التسليحي لصالحها من اجل  شن هجمات على البيشمركة في سهل نينوى وقرب اربيل ؛ وبات الاقليم ولو أول مرة منذ أكثر من ربع قرن يواجه تهديد حقيقي ، الا ان المساندة الامريكية ومن قبل الحلفاء الغربيين الاخرين قد غيرت المعادلة ، وبدأت عملية متواصلة لدحر الارهاب الذي تمثله داعش من قبل قوات البيشمركة المدعومة امريكيا . فهل هذه التطور سيسهل استقلال الاكراد وقيام دولتهم ؟ ، سيما وان امريكا وعدد من الدول الاوروبية قد بدأت بتجهز قوات البيشمركة باسلحة ثقيلة متطورة وبشكل مباشر وبمعزل عن حكومة المالكي .  الواضح حتى الان ان الولايات المتحدة تطالب الأكراد بعدم الانفصال بل وتحثهم على الانخراط الفاعل من اجل تصحيح مسارات العملية السياسية في العراق خصوصا بعد ان استبعد المالكي من الولاية الثالثة ؛ ورشح لرئاسة الوزراء حيدر العبادي الذي يعتبر رجل التوازنات والتسويات .ويجاري الاكراد الرغبة الامريكية والغربية في الحفاظ على وحدة العراق  ، لكن من المرجح أن يستخدم القادة الأكراد قوة الضغط التي يتمتعون بها في المفاوضات لتشكيل حكومة جديدة لاستخلاص تنازلات جديدة وخاصة السماح لهم بتصدير النفط بعيدا عن بغداد ، وهذه واحدة من الاوراق الثمينة التي تعزز امكانيات الاستقلال في الوقت المناسب . وحتى الآن ، عارضت الولايات المتحدة تصدير الأكراد لنفطهم، خشية أن يؤدي ذلك إلى تفكك العراق. ويقول ديفيد جولدوين، الذي شغل منصب مبعوث وزارة الخارجية الأمريكية الخاص لشؤون الطاقة الدولية في إدارة الرئيس باراك أوباما الأولى، إنه ” لم تتغير سياسة الولايات المتحدة ” ، مضيفا  ” لا تزال السياسة الأمريكية مهتمة بالمحافظة على وحدة أراضي العراق، وتعزيز الوحدة السياسية بين الفصائل الثلاث الكبرى ومعارضة انتهاك حكومة إقليم كردستان لتلك الوحدة من خلال تسويق نفطها رغم اعتراضات بغداد ” . ولكن اذا حصلت تسوية بين اربيل وبغداد بهذا الخصوص لا يتوقع ان تبقى المعارضة الامريكية بهذا الشأن . ويتجه الامريكيون الى بناء تحالف قوي في المنطقة بينهم وبين الاكراد وتركيا في عملية البحث عن الاستقرار الاقليمي في المنطقة ؛ فقد ذكر تقرير صدر مؤخرا عن مركز التقدم الأمريكي أهمية الكُرد في مُحاربة التهديدات التي تواجه المنطقة والعالم وذكر التقرير الذي حمل عنوان ” الولايات المتحدة، تركيا والمناطق الكردية: عملية السلام في هذا المجال ” أن تأثير الكيانات السياسية والعسكرية الكردية في العراق وتركيا وسوريا سيزداد أهمية، بينما تستمر القوة السياسية المركزية في العراق وسوريا بالإنحسار وسط حرب أهلية مُستمرة وزيادة في المجموعات الجهادية العنيفة مثل الدولة الإسلامية في العراق والشام.  ونوه التقرير بأن هذه المجموعات الكردية حافظت وعلى نحو مُنفصل على الحكم في شمالي العراق وأنشأوا مناطق مُتمتعة بالحكم الذاتي في سوريا والتي يُنظر لها على نحو متزايد على أنها حِصْن هام لمواجهة انتشار مجموعات مثل الدولة الإسلامية. ويوصي التقرير بإعادة إحياء عملية السلام بين تركيا والمُتمردين الكُرد وإعادة تقييم لسياسة الولايات المتحدة تجاه المجموعات السياسية الكردية في العراق وسوريا. واعتبر التقرير ان للاكراد سواء في العراق او سوريا دور مركزي في دحر الاتجاهات المتطرفة التي تمثلها الدولة الاسلامية . ويؤكد التقرير ان تركيا نفسها بحاجة للاكراد للتقليل من تداعيات الفوضى الناشبة في كل من سوريا والعراق .

 

وبعيدا عن التقرير الانف الذكر ، فان هناك اتجاه غربي امريكي وبريطاني يرى في التحالف مع الاكراد انه أيضا يستهدف الحد من النفوذ الايراني . وتتوجس طهران كثيرا من سياسات اكراد العراق ولاسيما سياسات البرزاني .. وترى في سياسات برزاني كسب جيوسياسي تركي وإسرائيلي على حسابها . وتقف طهران بشدة من حصول الاكراد على اسلحة ثقيلة ، ويقولون ان ذلك يغذي نزعات الانفصال لدى اكراد العراق ، وهذا من شأنه  أن يغوي الأقلية الكردية في إيران بشيء مماثل ، وهذا معناه  تغذية النزعات لدى الاثنيات الايرانية الاخرى مما يضعف شوكة الحكومة الاسلامية في طهران . ناهيك عن ان انفصال الاكراد معناه تمزق العراق ؛ الهدف الذي  ان تحقق يكون متعارضا مع النفوذ الايراني في العراق الذي يبرز الان  في اوج عظمته .  وتعتقد اربيل ان طهران لعبت دورا في سياسات المالكي المتطرفة ازاءها حد حرمان الموظفين الكرد من رواتبهم الشهرية . ولاتنفك طهران عن تهديد اربيل بهدف حملها على التوقف عن النزوع للاستقلال والا ستواجه مشاكل تهدد استقرار الامن الذي ظلت تنعم به كردستان خلافا لمناطق العراق الاخرى .  ويعترف نائب البرزاني كوسرت رسول علي ان ايران بالفعل تملك الكثير من الاوراق في العراق وفي كردستان التي تمكنها من افساد الامن الذي ينعم به الاقليم .

 

وتصاعدت مؤخرا التوترات بين طهران واربيل ، وفي ترديد بغبغاوي لكلام نوري المالكي ، اتهم آية الله محمود هاشمي شهرودي، وهو مسؤول إيراني من رجال الدين ، حزب البرزاني بأنه جزء من مؤامرة سنية تشمل تركيا تأييدا لهجوم تنظيم الدولة الإسلامية. وقال في تعليقات نشرتها وكالة أنباء إيرانية إن هذه المؤامرة جزء من خطة للحزب وأنقرة لتفتيت العراق.

 

كل هذه التفاعلات الدولية والاقليمية ومتطلباتها تفرض على الاكراد تأجيل مسعاهم نحو الاستقلال . اذ انه حتى تركيا، وهي شريك اقتصادي مهم وقدمت المساعدة للأكراد في تصدير بعض من نفطهم، تعارض هي الأخرى الاستقلال الكردي ، الذي تخشى أن يؤجج المشاعر الانفصالية بين أكرادها. كما ان عوامل الاقتصاد حتى الان ليست متكاملة في كردستان ، اذ ان عمليات التنقيب والاستكشافات الاولية اظهرت ان الاكراد يعيشون فوق بحيرة من النفط  ، ولكن عمليات الانتاج الواسعة بحاجة الى مزيد من الاستثمارات الكبيرة والعملاقة حتى تحقق انتاج يمكن اربيل من الاستغناء المالي عن بغداد . وذلك كله يحتاج الى زمن وسنوات اضافية اخرى . وهذا معناه ان على الاكراد ان يعملوا على استقلال دولتهم ، ولكن ذلك لن يتم بسرعة ، وان اعلان الاستقلال يحتاج الى ظروف دولية واقليمية  تسمح به ، وهي حتى الان غير متاحة .