الدراويش يدورون مئة دورة والمعدان يقولون نشرب حليب الجواميس – نعيم عبد مهلهل

أمكنة للروح الغائبة في أنحاء الوطن العربي كله (3)

الدراويش يدورون مئة دورة والمعدان يقولون نشرب حليب الجواميس – نعيم عبد مهلهل

ــ لا أعرف مجرد فضول، فبسبب عشرتي الطويلة معهم، أصبح هؤلاء الطيبون أناس يهمونني جداً، فربما ذات يوم أصبح مثلهم وأكتب كتاباً عنهم. قال ذلك ضاحكاً، ثم أردف: كتابتي رديئة، أنا أتكلم وأنت تكتب، وستعرف مني الكثير عن عاداتهم أثناء السفر، فأنت ربما تعرف عن حياتهم في القرية فقط.

وبعيداً عن السفر، تركني السائق وذهب ليمتّع ناظريه بدوران ركاب سيارته الذي لم يتوقف، وقال لي ضاحكاً وهو يقترب نحوهم: لقد تحوّل كل واحدٍ إلى رقّاص ساعة. لهذا الزمن عندهم لن يتوقف.

تعجبت من حكمته وفراسته وابتسمت برضى لجمال عبارته وعدت إلى الكتاب أريح ذاكرتي عند كلماته، وأيضاً أريح ذاكرتي من صور حزن المقابر عندما لا تحوي سوى قبور أطفال رُضّع، وأتخيل أبدية الموت عند السومريين، وأنه كان مثلها عند أهل الإغريق. عندما يموت أطفالهم لا يدفنونهم في مقابر خاصة ولا يذهبون بهم إلى أقبية الفردوس المظلمة، بل يدفنونهم تحت ظل أشجار النخيل ليكبروا مع النخلة حتى وهم نيام. وهم يعتقدون أن سرّ انتصارات سومر في حروبها هو العون الذي يأتي من هؤلاء الذين كبروا تحت أفياء النخيل وصاروا بذات أعمار الجنود، ولكنهم يحاربون معنا بخفية وأجساد لا نراها ولكنها ترانا.ربما أهل قريتنا يدفنون أطفالهم تحت قصب مياه الأهوار لينموا ويكبروا مع القصب، وربما يعرف المعدان أن الجواميس عندما تذهب وحدها إلى قيلولة المياه من دون من يقودها بعصاه الغليظة، فإن أولئك الرعاة الصغار الذين كبروا تحت القصب، هم من يقودونها الآن ويعودون بها إلى زرائبها.أذهب عن تلك المشاهد، فهي ليست سوى افتراضات وخيال يهيمن عليه الموت، فلعلي أجد أشياء أخرى بين طيات ثياب الجنود التي أبدلوها ببدلات الحرب. لقد خلعوا ثياباً وارتدوا أخرى وعلى الشاعر أن يتحدث عن شهية صوت أنفاسهم وهي تبذل جهداً في الخلع والارتداء فيصوّر صدورهم العارية كملمس الرخام على دكّة تحت ضوء القمر، فيما كؤوس الخمر تترنح مع القيثارات وقهقهات سعيدة للذين نجوا من الحرب مع البرابرة والفرس وغيرهم من أعداء أثينا..فأشعر أني أعيش تلك اللحظات وأتساءل: ما الذي سأفعله في ليل الأهوار عندما يلبسني حسّ الكلمات ونظرات الشاعر المطبوعة على غلاف الكتاب وهي تناديك بصوت أتعبته  سنوات ما بعد الوظيفة والوحدة والمدينة ذاتها بليلها وصدى ما يناديك إليه قلمك الباركر لتكتبه: لا سفن هناك تجليك عن نفسك.وسترد: لا توجد يا كافافيس، ولكن هناك من سيأتي بمشحوفه الصغير معه تلميذ لمدرستنا من قرية أخرى، وآخر يذهب إلى المدينة ليجلب السكر لشايه الذي يريح به رأسه في الليل البارد، وسفن أخرى هي مجرد طيف صنعه رجال الآثار هنا، إن نوحاً صنع سفينته من هذا القصب وبه أبحر إلى جبل أرارات أو شاطئ طنجة.إذن ستجد في هذا المكان السفن  التي تجليك عن نفسك ولكن إلى أين تذهب بك؟ وهذا المكان الذي تحسبه أنت، وحسبه قبلك أبوك ومعلمك وأخوك، إنه ذات المكان الذي هبط فيه آدم أول مرة وعليك أن تعود إليه أينما غرّبت  سفنك وأينما شرّقت.إلى صوفيا أو بلغراد أو وارشو أو براغ وحتى أثينا التي ما أن وطأتها قدماك أّول مرّة حتى بهرك سحر النساء الإغريقيات اللائي يمسكن إيقاع خطوة الأنوثة اللذيذة على أرصفتها الحجرية فتساءلت: لماذا لم يأت كافافيس ليعيش فيها وهو اليوناني وفضّل الإسكندرية وطناً له؟.

أعيش لحظة التساؤل وهؤلاء المعدان قرروا البقاء في المكان ولا يعرفون متى تنتهي طقوس زيارتهم، والسائق بدا راضياً ومبتهجاً، وبين فترة وأخرى تطل عيونهم على جلستي مع الكتاب وكأنهم يدركون أن الرجل الذي يطبع صورته الحزينة على غلافه يحب مثل هذه الطقوس، الفرق أنهم يقدمونها إلى نبي غائب وهو يقدمها إلى عصر ملحد. لهذا فهم يمارسون ما لم أكن أتوقع أن يفعلوه بالرغم من أني أعرف أنهم لا يحفظون الأدعية عن ظهر قلب إلا بمقدار تلك الكلمات التي تشعرهم بأنهم بأمان حين ينتحون بالنبي أو بإمام معصوم. ولا أعرف من أين أتاهم هذا التيه الذي نبهني إلى أنهم يمارسون طقوساً لم يتعودوا ممارستها وأن الغبار الذي يهب علينا من قوة ضرب أقدامهم وهي تدور في المكان يتحول إلى عاصفة صغيرة تصاحبها أنفاس عالية ومتلذذة بشهيقها وزفيرها لبشر لا أعرف فيهم من خرج بروحه أو دخل فيها مقام النبي الذي جعلهم ينسون أن عليهم الرجوع إلى الحافلة، ليعودوا إلى قراهم مبكرين.

شكل غيبي

أحسست بسعادة أني سأجعل الشاعر اليوناني يشاهد طقساً من مودة البراءة مع الحسّ في شكله الغيبي، بعد أن تعمد السائق إبطاء عملية تبريد ماكنة السيارة عندما راق له مشهد دوران المعدان حول الضريح لأتخيلهم أنا، وقد أوحي إلي أن كافافيس تخيّل مثلي أن حركة هؤلاء البشر بدأت مثل أي طقس صوفي على الرغم من أنهم لا يعرفون شيئاً عن هذه الطقوس، لكن فطرتهم والتيه الذي سكن عقولهم في حضرة النبي الخضر قادهم ليدوروا بإيقاعات متداخلة مع مدائح تأتي من حناجر متعبة. يضئ الرمل مع الدوائر المشتعلة برغبة الدوران حتى لو العمر كله. رجال يرتدون عباءات هرمت وثقبت من التصدي للريح وحافات القصب، يتأبطون حركة لا منتظمة مستجيبين لشيء من الذعر والخشوع لتلك الإيقاعات الصاخبة وهي تهيمن على فوضى المحتفين بالنبي وضريحه المفترض.

أحسب أن الأمر يحتاج من كافافيس تدويناً آخر بقلمه الباركر، ووددّت أن أهديه القلم الذي معي، لكني تداركت الأمر بشعور أن الرجل ليس سوى صورة في غلاف كتاب.

أشعر ويشاركني كافافيس ذلك الشعور، أن ثمة روحاً طائرة تشاهد من قبل هؤلاء العرب المعدان، وهي تمنحهم القوة والرغبة لممارسة  تلك الطقوس التي تختفي فيها آلام أقدامهم الحافية وهي تدور وسط الغبار وخفق الراية الخضراء فوق قبة الضريح، التي كانوا كلما أحسّوا بالتعب رفعوا رؤوسهم إليها وكأنهم يستمدون منها نشاطاً جديداً. حسبت الأمر طقساً لدراويش طريقة الرفاعية، فلكي تنظر إليهم عليك أن تغمض عينيك. لأنه لا ينبغي أن يشاهدوك وأنت تنظر إليهم بتساؤلات العلم والطبيعة، ولن يجيبوك عندما تسألهم كيف تدورون هذا الدوران السريع وقد تجاوزتم المئة دورة .؟

 وحتما إن أفاق أحد المعدان من غيبوبة الدوران سيجيبك: كل هذا لأننا نشرب حليب الجواميس.

إنها شيء من بارسكولوجيا المكان، أعرفه أنا جيداً، ولكن الشاعر اليوناني لا يعرفه، وحتماً سيطلب مني قلم الباركر ليسجل شيئاً من هذه الظاهرة الروحية. فحين حضر طيف النبي الخضر حي الدارين، تخيّلت أن الأجساد الثقيلة بدأت تطير على بُسط  كاشانية تذهب بك أنى تشاء. وكبرق خاطف يمرّ عليك أحدهم مثل شبح ببياض ساطع في ليل الطرق والأدعية بفطرتها الشعرية وبراءة سجعها ليقول: حي إنه واحد أحد. فلا تشكك بما يهب. ولقد وهبنا أجنحة نوره لنطير.

في هذه البرّية المفتوحة الأذرع كلقاء عشق رومانسي بين إلهٍ إغريقي وأحد قتلى حرب طروادة، حيث من المفترض أنه مع الغبار الشتائي البارد ستحمر خدود الرجال وقد قرروا أن لا يتوقفوا، يأتي بشر من شتى قرى الأهوار  ليقيموا هنا حلقات مودة لذكر النبي بتلقائية لا يحسبونها انتماءً لأي طريقة.

طريقة للمودة بطقوس الدروشة جرياً حول البناء الذي كان طيناً فحولوه قبل بضعة سنوات إلى بناء من الطابوق  ليكون مرقداً لصاحب هذا المكان الذي نأى به عن بلده ليموت فيه، أو يغيب فيه إلى عودة موعودة بأجل. أرض شبه قاحلة بين هور الجبايش وبر الناصرية، جزيرة لا تنطفئ في لياليها النجوم ولا تهدأ الذئاب من البحث عن طرائدها من صغار ابن آوى والأرانب البرية حيث لا نهر يجري وكل بئر تحفره ذاكرة البشر يأتي بماء وحكايات يؤسطرها الناس حسب إيمانهم ومصالحهم. هذا الدوران المارثوني يشعرك أن هذا النبي الغائب اختار غيبته  ونام مؤقتاً في هذا المكان.

متعة المشهد

تركت قراءة القصائد وشعرت أن كافافيس مثلي يعيش متعة المشهد، وما بدأت أنا بتدوينه كرؤوس أقلام لخواطر ليل في قريتنا، حيث سأعيش متعة ضوء الفانوس وهو يعيد معي سرد تفاصيل هذا الطقس الذي جعل سائق الحافلة يعيش مرحاً غريباً ويتمدد على الأرض سعيداً وهو يتلذذ بتقشير البرتقالة ثم يمصها بفرح ولذّة كمن يمصّ شفتي حبيبته، وفجأة نادى على الجميع: ابقوا في هذا الدوران حتى لو بقينا إلى الصباح.في ليلة محددة مع اكتمال القمر والنذر، يفكر الناس بهذا اليوم ويجمعون هواجسهم تجاه ساكن هذه البيداء ليلتقوا عند قبته الفيروزية، ويشكّلون حلقات ذكر تسبقها صلوات تتعشق حالة الاستعداد التي يمتلكونها لأجل ذروة التعشيق مع الولي النائم في رقدة الرمل. فيما الأحياء المرتدين أثواباً عريضة براقة ينتظمون بحلقات جالسة وواقفة وينتظرون إيعازاً ما ليبدأ ما يمكن أن يُطلق عليه حفل طقوس مودّة الغياب داخل روح القديس، السيد العلوي. الولي القادر على منحنا ما نطلبه اتقاءً لمحنة أو تخلصاً من جوع أو فضّاً لنزاع ما.

فحين ترتفع أصوات الدرابك مثل مارش عسكري لحربٍ قديمة وتفيض رغبة الراغب لهواية الضياع فيه وكسب مودة روحه، تتهدج الأصوات بارتباك الحروف لبيان تكبير ومغفرة وتلاوة آيات فتهمش اللغة وتراكيبها وتتداخل معاني الجمل وتتحد موسيقى الأصوات الطقسية مع إيقاعات غسلت في الليل خمولها لتبدو في وقعها مثل زئير أسود أُطلقت بعد جوع طويل.

ولحظة لحظة يتصاعد أداء البشر غناء، دون أن يدركوا الهاجس الذي منحهم هذه اللغة والطقس الجديد وأصبحوا يمارسون دوراناً لهلوسة الغيب. كأنهم ضائعون في متاهة مدى تلك البرية التي تحلّق برغبات الأزل صوب غابات القصب في الأهوار،  لتشاهد وبإعجاب حشد البشر الهائل مبتهجين بدائرتهم البيضاء والمفتوحة كخاصرة الثلج في مساحة من عشب دافئ.

لم أتعود على هكذا مشهد من أناس لم أتوقع منهم أن يفعلوا ذلك، لكنه سرعان ما ينسجم مع تأثير قوة الإيحاء الصاخب وفوران العيون المنفعلة وسط حمى دورانها حول قطب مرسوم بخطوط وهمية على ساحة المكان فتنغرس الأقدام الحافية بالرمل مثلما تنغرس أوتاد خيمة البدوي لتبدو الدوائر المتعرجة وأثار الدوران كأنها بقايا معركة من معارك الشرق القديم بين خيول من بابل وأخرى أتت من جهة مقدونيا حيث جاء الإسكندر وشاهد في تسلية لمساء بابلي من شرفة القصر الشرقي مثل هذه طقوس كان فيها البابليون يتوددون شوقاً ونفاقاً إلى عظيمهم مردوخ الذي تركهم في محنة انتظار المدد السماوي وسلّم المدينة لأحفاد الإغريق وبرابرة الأقوام الجبلية البعيدة.

اقترب الليل ومازالوا، كأني أسمع في أصواتهم وخطواتهم ، رقّة الطبل الذي بدا في إيقاعه مثل أوزان هائلة تسقط فوق الرؤوس. المؤدون يغيبون عن وعي لحظتهم بثبات جرئ. الأطفال يختبؤون تحت عباءات النساء. كأن هيتشوك يرسم أمامهم رعب الحديد الذي يدخل البطون، ولو كانوا دراويش طريقة لكانت بأيديهم الخناجر والسيوف وقضبان حديد لامع.

رعشة في عيونهم الصغيرة، والجريء منهم ظلّ يسرع أكثر من رفاقه.

فتساءلت : لماذا يفعل المعدان ذلك؟

فأتخيّل صوتاً أوبرالياً بحدّة أنفاسهم ودورانهم يردّ عليَّ: إنهم يفعلون ذلك ليقتربوا من محبة الله ورسوله.

الكبار يهلّلون فيما تدفع براءة الصغار أصابعهم النحيفة لتصفق كأنهم يستحسنون أداء فيلم من الأفلام المتحركة. وبين هذا الصخب والتهليل والتكبير يظلّ صوت الأطفال المذعورين تحت العباءات يرسم خوفاً نفسياً قد يلاحق أحلامهم مثل الكوابيس لزمن ومن ثم يختفي مع قراءة الأمهات على وجهوهم آيات الذكر.

وأنت في دائرة الدهشة عليك أن تراقب الوجوه جيداً. تكاد تلك الوجوه تشتعل باللمعان، هم ينظرون ولا ينظرون. أتذكر لحظتها كلمات الكاتب الأرجنتيني  خورخي لويس بورخيس عندما أنهى قراءته الحماسية لكتاب ألف ليلة وليلة : “هذا كتاب لفتنة الروح والطقوس التي تجعل الخيال واقعاً لا نفترضه بل نمسكه بأصابعنا وكل هذا بفضل روح الكتاب المشعة”.

تذكرني جملة الروح المشعة بفيض عجيب من قراءات الرؤى والتودد للفعل الأثري لحاسّة السطوع التي تقودنا إلى ممارسة ما نعتقده اقترابنا من ظلٍّ خفي يسيطر علينا بحرف اللغز الذي نحسّ معانيه، لكننا لا نستطيع ترجمتها. وذات الروح وجدتها تتساقط عرقاً  مُدافاً بذرات رمل لا تُرى بالعين سوى مساحات ضوئها الناتئة على وجوه أولئك المرتدين أكفان التشوق وهم يدفعون بمقدمة القبّة إلى داخل أجسادهم وكأنهم يطعنون عدواً في معركة.

كنت أشاهد في صور الحياة أيادي ترتجف أو سيقان نحيفة يقودها البرد لتتحول مثل سعف النخيل في صباحات الريح النشطة ولكن أن أرى وجوها تهتز باهتزاز الدرابك والطبول من هيبة الصوت ودوي الإيقاع فهذا ما أراه لأول مرة عدا بعض مشاهد سينمائية لوجهٍ يترجف هلعاً حين أجلسوه على كرسي الإعدام في أحد سجون أمريكا.

الآن عرفت أن الوجوه لا ترتجف من الهلع فقط .

استمر الابتهاج المهيب بسطوة الدوران حول قطب غير معلوم ولا أدري إن كان يستقر على العشب اليابس أم عند صاحب المكان.

اقترب الإعياء من بعضهم . امتزج التراب بالدخان وبدأت قبة مولانا  تهتز مواساة ومحبة وتشجيعاً لأولئك الزائرين، ولم أكن متنبهاً إلى مشاعر كافافيس الذي تركته يحملق بذهول فيما يفعله المعدان غير بعيد عنه، وفي ناظور الرائي من الضرب المتتالي على الباحة الترابية وجرّاء تصادم الإيقاعات بجدار القبّة لترينا الفسيفساء المطلية بلون الكاشان رموز مشفرة لا تذهب بالذاكرة العارفة بعيداً إذ يمكن تخيّل الأمر من قبله وفق منطوق:

أن صاحب الخضر حي الدارين  هو من أوحى لزائريه أن يمارسوا هذه المودّة بذلك الشكل وبدت لي أن عيوناً من الكبرياء والعز مرسومة في وسط القبة وهي تشع بالابتسام والرضا وتعيد إلى ذاكرة الدائر في المكان وهو يبحث خلال الروح المشعة عن قطب يرتكز عليه هيبة أن يكون أولئك الأولياء الصالحون هم خطوتنا إلى صفاء الذهن.

ظل المكان يفيض بسحرية الانتشاء وظلت رائحة الطقوس تبعث تعاريفها ومشاهدها إلى الأنظار المنذهلة فيما يد الليل بسطت مساحة التراب والنار والأصوات المتداخلة حتى تحسّ أن فاصلة الزمن قد فُقدت وأن عليك أن تثبت بعقلك وجسدك كي لا تطير في الهواء. وكانت الحواس مشغولة بما ترى.

تستمر وتيرة الهيجان . وهم الآن يعتقدونها كما المتصوفة  ذروة الحضور، حيث يدفع بالمحتفى إلى غضب جديد وأداء متشنج ولا شعوري يبدو ظاهراً في تغيّر مواصفات الجسد

الطويل يلتف على مكانه وبدوراته السريعة وترنحه الدائم يتحول إلى خيط من ضوء يتحلزن في المكان كدائرة بيضاء . البدين يصبح مثل بطيخة تكبر مع الحركة والتمازج حتى تحسها ستنفجر بعد لحظة ومن أماكنهن تتصاعد زغاريد النساء فيما رهبة المودة والخوف تجعل مشاعرهن سائحة في المكان ليبدأن بإطلاق أصوات نذريّة تقرّب أنوثة التشفع إلى النبي الخضر الذي جثمت فوق قبته سحابة من ضوء النجوم وشعاع المواقد وركلٍ بدت ذرّاته تسبح في الفضاء بفزع ولذّة .

ضوء أحمر يدفع بالإيقاعات إلى مدى أبعد فتصاب البرية بلذة الإصغاء ولم يعد يسمع للحيوان المتوحش صوتاً أو دبيب خطوات.

أشعر أنهم يريدون خلع ثيابهم، يخلعون تشوقاً. يدفنون رؤوسهم في التراب المتصاعد من الدوران الذي لم يتوقف.

وهكذا قضوا الليل كله، وكأنهم يعيشون أسطورة ويمارسون تفاصيل الود مع آلهتها.

أما أنا والسائق فإننا غفونا واستيقظنا لمرات وقد أنزل الله على الليل دفئاً غريباً.

يقترب الصباح من الأجساد المتعبة. تلبسها غفوة قصيرة ومتعبة ولكنها لذيذة. ساعة وترسل الشمس شعاعها اللاسع تحت أجفان الرجال الذي بدأوا عند الفجر بالاستسلام إلى التعب والنعاس، فأحسست وأنا أعيش هيبة المنظر وغرابته، أن ثمة أصابع مرتجفة هي أصابع الخضر حي الدارين تمرر حنان اليقظة على العيون وهي تحفّزها على العودة المبكرة إلى ديارها سالمة.

مشاركة