الدراسات العليا واقع مرير – هادي نهر

الدراسات العليا واقع مرير – هادي نهر

منذ عقود طويلة شهدت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي فتح عدد متزايد من برامج الماجستير والدكتوراه في بعض الجامعات ولكثير من التخصصات وقد رافق ذلك ابتعاث عشرات بل مئات الطلبة العراقيين الى الجامعات العربية والاجنبية المرموقة لإكمال دراساتهم العليا هناك. وليس من شك في أن الدراسات العليا منبع غزير النفع والعطاء للجامعات العراقية منذ تأسيسها فقد امدت الجامعات بمئات من الكوادر التدريسية التي نهضت بالتعليم العالي في العراق وارتقت بسمعته المشهودة في العالم. واننا في تقييم الدراسات العليا الداخلية والخارجية انما نضع مواصفات ونبحث عن معايير، وعن مخرجات علمية متفوقة وعن مسار تاريخي علمي وحضاري وفكري فاعل ومؤثر في حركة الجامعات العراقية لكون الدراسات العليا مرتبطة اساسا بالحياة الجامعية العلمية بكل ابعادها ونتائجها، وأي اميم لهذه الدراسات يمثل في تقديرنا محاولات منظمة ومخططة لإعادة تشكيل الوعي الفكري، والاقتصادي والعلمي والتربوي التعليمي بأهمية هذه الدراسات التي يفترض فيها ان تقدم دائما افرادا ذوي مستويات علمية وافاق فكرية واستكشافية موسعة أفرادا لهم القدرة على قيادة العلمية التعليمية والتربوية التي تنهض بها الجامعات العراقية الحكومية والخاصة، ولهم القدرة على التفاعل مع طلبتهم ومجتمعهم بقوة واصالة معبرين عن عوالمهم العلمية والفكرية والفنية التي تكون المستقبل وتصنعه وتحافظ على ديمومة الوعي الانساني، ومعاصرته بحيث تؤسس لدى الطلبة داخل اروقة الجامعات وقاعات الدرس والمؤتمرات والندوات وعيا علميا وفكريا وثقافيا شموليا قادرا بدوره على تأسيس حالة من ( التثقف العام) بضرورة العلم والالتزام بأخلاقياته وبضرورة العمل والانتاج وروح المواطنة الصادقة والمخلصة اما ان تتحول تلك الأروقة وقاعات الدرس الى مواطن للتلقين والحفظ والتكرار والثقافة المنبرية الاعلامية فذلك أمر خطير لا يؤسس وعيا في الطلبة، ولا يمكن له ان يبدع وان يساير حركة التقدم الذي يشهده العالم، ولا يمكن له ايضا ان يقف بوجه تيارات الاستلاب الفكري ، والاقتصادي والغزو الثقافي لاسيما في مرحلة التفاعل الحضاري والعولمة الجارفة .

ان واقع الدراسات العليا في العراق بات اليوم واقعاً هشاً مفكك، فقير الابداع والاكتشاف والعطاء ولذلك اسبابه وعلله ومن أبرزها الآتي: –

اولا : – قيام بعض الدراسات العليا في أكثر من كلية أو جامعة قبل وضع الخطط والمناهج وتوفير المصادر والمراجع والكوادر التدريسية ولإشرافيه المؤهلة تماما لإتمام هذه العملية العلمية المهمة والحساسة وقد أدى هذا الى مخرجات بشرية تحمل شهادات عليا ليس بوسعها اداء رسالتها في التدريس والبحث والتأثير وخلق الابداع واكتشاف المبدعين.

ثانيا : – طبيعة الموضوعات التي كانت ميدانا لرسائل الماجستير والدكتوراه فأكثرها – لاسيما الخاصة بالدراسات الانسانية، – قد قامت على ثقافة جاهزة، وفي غياب العقلانية، وفي اسراف في تلقي الحداثة ،أو في اسراف لإنتاج التراث، وكذا قيام أكثر تلك الرسائل والأطاريح على مبدأ التبرير لا التعليل، أو النقد المنهج القائم على الحياد العلمي، وقائم ايضا على الاسراف في التعميم وادعاء الأصالة والعمق المعرفي كل ذلك لم يقدم لنا حملة دكتوراه بالمستوى العلمي المفترض لحامل هذه الشهادة العلمية العليا .

ثالثا :- غياب الجهة المتخصصة لتدقيق أصالة الرسائل والأطاريح الجامعية لبيان خلوها من النقل المجرد والسرقات العلمية كما هو حاصل في أغلب الجامعات الأمريكية والتركية القريبة منا ، وكذلك لم يتوافر للأساتذة المشرفين الوقت الكافي للتأكد من أصالة ما يقدمه الطلبة من مباحث اما بسبب انشغالهم في شؤونهم الخاصة، أو شعورهم بعدم مراقبتهم او محاسبتهم لو غفلوا عن اكتشاف المسروق، والمنقول مما تحتويه الرسائل والأطاريح التي كلفوا بالأشراف عليها .

رابعا : – عدم خضوع اختبار لجان المناقشة لأسس علمية حازمة ومنصفة فأكثر ما تجري عملية الاختيار بصورة شخصية بناء على توصية المشرفين او الاقسام العلمية وبصورة روتينية مما ادى الى تفاوت ملحوظ في المهنية والجدية في عملية الاشراف وفي النهاية عملية المناقشة، وهكذا صارت نتائج المناقشات تحقق نسبة 100%  نجاحا وفي حالة غير مسبوقة في التعليم العالي في العالم. والأولى من ذلك عدم وجود جدية في الاخذ بملاحظات لجان المناقشة وتوجيهاتهم واقتراحاتهم على الباحث، فأكثر هذه الملاحظات وفي غياب المراقبة والمتابعة ينتهي بانتهاء المناقشة، ويكتفى من المناقشة بتبادل التهاني، وتوزيع الحلوى المعدة سلفا للحاضرين، وكأن الطالب ضامن نجاحه

خامساً : على الرغم من ان القوانين العراقية لا تعترف بالشهادات التي تمنح عن طريق الانتساب وتشترط الانتظام في الدراسة والتفرغ العلمي الا ان هناك كثيرا من الذين يحملون لقب ( دكتور) قد حصلوا على شهادات مع انهم موظفون لدى الدولة تابعوا دراساتهم العليا لتحسين أوضاعهم الوظيفية في الدرجة الاولى او لتعديل أوضاعهم الاكاديمية الحالية. سادسا :- حركة الابتعاث والاجازات الدراسية التي شهدتها الوزارة بعد 2011 الى 2013? فقد ارسلت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي مئات بل الاف الطلبة في بعثات علمية لمختلف جامعات العالم الاجنبية على الرغم من ارتفاع كلفة التعليم في الخارج . وعلى الرغم من أن صنيع الوزارة هذا محمود ومشكور لكنه لم يخل بعض الاحيان من هفوات لعل أبرزها ابتعاث افراد غير مؤهلين تماما لمواصلة الدراسة العليا اما لكبر سنهم، او تواضع نتائجهم في البكالوريوس والبكلوريا ومع هذا بعثوا ولا يزال بعضهم متعثرا في دراسته . وقد رافق هذا ذهاب مئات الموظفين في اجازات دراسية الى خارج العراق لإكمال دراستهم العليا في الماجستير على وجه الخصوص، وقد كان أكثر هؤلاء المجازون من ذوي المعدلات الدنيا في البكالوريوس، وفي اختصاصات علمية مشبعة في العراق اصلا، فتلقفتهم الجامعات الاجنبية والعربية وعانى بعضهم من الابتزاز المادي خاصة وعادوا بشهادات للماجستير لم يكن البلد في حاجة اليها لكثرة من حصل عليها في العراق مما زاد من بطالة ذوي الشهادات العليا عندنا .

ولمعالجة هذا الوضع المزري للدراسات العليا في عراقنا العظيم لابد من الاتي

اولاً : الاستمرار في ابتعاث الطلبة الى الجامعات العالمية للحصول على الشهادات العليا ولإنعاش عملية التفاعل بين الجامعات العراقية والجامعات الاجنبية، مع التأكيد على وضع أسس علمية حازمة لاختيار الطلبة بعيدا عن اي تحيز او تمايز على ان يكون التمايز في القدرة، والوعي والتفوق، والاختصاص النادر هو المعيار الاول والاخير، لان هذا المعيار وحده هو الكفيل والضامن لاطلاع شبابنا على التطور العلمي والمعرفي الذي تشهده جامعات العالم.

ثانيا :- ايجاد هيأة وطنية مزودة بالخبرة والمهمات الالكترونية للتأكد من سلامة الرسائل والأطاريح الجامعية والابحاث الاكاديمية للحد من عملية النقل والتقليد والسرقات العلمية وبخاصة في ظل التوسع الهائل في استخدام الشبكة العنكبوتية ولسهولة نقل بعض الدراسات والابحاث بطرق فنية.

ثالثا :- خضوع عملية اختيار لجان المناقشة لتعليمات وضوابط محكمة، وملزمة يتم في ضوئها اختيار الاستاذ المناقش الأكفأ والأكثر عدلا وحزما وان يطلب من المناقشين تقديم ملاحظاتهم مطبوعة الى لجنة الدراسات العليا قبل المناقشة وبشرط ان لا يخبر الطلبة بأسماء هؤلاء المناقشين قبل تقديم هذه الملاحظات .

رابعا :- التأكد من اجراء التصحيحات والمقترحات من الطالب المناقش في المدة المحددة له قبل اجازة الرسالة او الاطروحة

خامساً:- ضرورة تقيد الجامعات بتعليمات الدراسات العليا والزام الطلبة بالتفرغ التام مدة سنة على الاقل وان يتم التحقق من هذا التفرغ بكل الوسائل

 سادسا :- الاحتراس من هدر الاموال دون قيد وشرط بأطلاق المنح والاجازات الدراسية لكل من هب ودب، فالمنح تعطى للطلبة المتفوقين والمحتاجين لإكمال دراساتهم العليا، وربط هذه المنح بساعات عمل فعلية يقدمها المبتعث الى الجامعة، وحسب حاجتها الى اختصاصه او ابت?اره.

سابعا : – تشجيع أساتذة الجامعات على حضور المؤتمرات والندوات العلمية الدولية، وتغطية نفقات هذا الحضور تغطية مجزية، فاطلاع الاستاذ الجامعي على مستجدات البحث العلمي سبيل الى امتلاكه فكرا تنويريا يعود بالفائدة على طلبته عموما وطلبة الدراسات العليا خصوصا .

مشاركة