الداخلية العراقية عام 1953 إسقاط الجنسية يشمل معتنقي الفكر الصهيوني
عملية عزرا ونحميا لترحيل 5 آلاف يهودي عراقي كانت بإشراف شلومو هليل بين 1950 ــ 1952
نسيم قزاز
ترجمة صباح ناجي الشيخلي
كانت بنية هليل الضعيفة ولون بشرته القاتمة يؤهلانه لتقمّص شخصية رجل هنديّ يعمل في شركة الخطوط الجوية البريطانية. وعلى هذه الهيئة دخل هليل إلى العراق وشرع بالتنسيق مع كبار الطائفة لحث اليهود على مغادرة البلاد، بالرغم من أن أغلب اليهود يرفضون هذه الفكرة كونهم يتمتعون بجميع الحقوق والامتيازات التي يتمتع بها أبناء البلاد ولا يعانون من أي اضطهاد. والملاحظ أن ما يثبت ذلك، ما يشير إليه كاتب هذا البحث بقوله إن يهود العراق لا يعيشون في مناطق معزولة عن سكان العراق، بل هم يتواجدون ضمن أحيائهم ومناطقهم الاعتيادية. وبعد أنْ هيّأ هليل جميع المستلزمات المطلوبة لذلك وإقناع معظم أبناء الطائفة بالعودة إلى الوطن وتعزيزه والإسهام في بنائه ، قام بالتنسيق لتأجير طائرة لنقل هؤلاء اليهود سرا كما اتفق مع طيارين أمريكيين متقاعدين شاركا في الحرب العالمية الثانية لتولي المهمة. وفعلا، جرتْ رحلاتُ النقل من مطار الحبانية الكائن غرب بغداد، أمّا الأشخاصُ الذين لم يتمكنوا من الانتقال عبر تلك الرحلات فنصحوا بالتوجه براً إلى إيران، إذ أقيم هناك معسكر انتقالي جرى لاحقا نقلهم جوا إلى فلسطين. والحقيقة، يذكر هليل في كتابه آنف الذكر أن عدد اليهود الذين نقلوا من العراق إلى فلسطين قد بلغ 125 ألف يهودي، أي أكثر مما أشار إليه نسيم قزاز. على أية حال، لابد من التأكيد على بعض النقاط التي يحاول أغلب الباحثين اليهود تجاهلها أو إغفالها عمدا وهي
1ــ إنّ اليهود العراقيين لم يكونوا على استعداد للهجرة إلى فلسطين لدعم إسرائيل لأنهم يحيون بشكل طبيعي دون اضطهاد أو تفريق عن العراقيين. 2ــ استعمل جهازُ الموساد مبدأ الترهيب والترغيب في حث اليهود على الهجرة ولم يتردد عن القيام بتفجير بعض القنابل قرب المناطق التي يعيش فيها اليهود، مدعيا أن السلطات العراقية هي التي تقوم بذلك لطرد اليهود من العراق.
3ــ نسّقت السلطات اليهودية في إسرائيل مع الحكومة البريطانية بحكم علاقتها مع بعض السياسيين العراقيين لإصدار بعض القرارات المشجعة على هجرة اليهود من العراق لتبدو الأمور أنّ العراق لا يريد بقاء اليهود فيه.
4ــ بالرغم من كلّ ذلك، استطاع عدد كبير من يهود العراق التوجه إلى دول أوربية للعيش هناك رافضين التوجه إلى إسرائيل، بل حتى الذين ذهبوا في البداية إلى إسرائيل توجهوا لاحقا إلى دول أخرى للعيش فيها. ولابدّ من الإشارة إلى نقطة أخرى ذكرها كاتبُ البحث تتعلقُ بالديانة اليهودية ورجالاتها اليهود وكأنه ُيريدُ أنْ يثبت للقارئ أنّ بعض العراقيين قد يؤمنون بالديانة اليهودية إلى حدّ يصلُ إلى اعتناقها، بالرغم من كونهم مسلمين ويعتقدون بالحاخامات و كراماتهم ، لذلك فإنه يورد عن مئير بصري أنّ وزير الداخلية أحمد محمد يحيى في حقبة حكم عبد الكريم قاسم كان يمتلك إيمانا قويا بقدسية الدين اليهودي وكيف أبدى اهتماما كبيرا فيه. وكان مرارا، يتوجه إلى الحاخام خضوري يسأله عما مكتوب في التوراة عن المسلمين التي يؤمن بها أيضا. وطلب في إحدى المرات من الحاخام أن يكتب له تميمة كي يحظى بواسطتها على بركة الله…….. فربما لا يعرف هذا الكاتبُ أنّ المسلمين لا يبغضون الدين اليهوديّ بوصفه دينا سماويا ويؤمنون بأنبياء الله ورسله جميعا، غير أنهم يمقتون مكر اليهود وحقدهم وعدم إيمانهم بالإسلام ومحاربتهم لرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم. والحقيقة، هي أن الباحث يروم تعميم حالة واحدة على عموم المسلمين، فيما إذا افترضنا جدلا صحة هذا الإدعاء فيما يخصُّ الوزير المذكور، إذ يحاولُ الباحث أن يتجاهل عن عمد الاحتمالات الأخرى. فقد يفسّرُ تصرف هذا الشخص في حالة موثوقية الباحث، بأنه فضول شخصيّ لغرض الإطلاع على هذا الأمر ليس إلاّ، أو أن يكون هذا الأمر من متطلبات عمله كونه يتولى حقيبة الأمن في العراق وتقع على عاتقه حماية الأقلية اليهودية. وعلى العموم لم تكن الأمور التي يُشيرُ إليها الباحث بهذه الصورة وفقا لوجهات نظر أغلب العراقيين المعاصرين لليهود في العراق.
المقدمة
انتقل في إطار عملية ــ عزرا ونحميا ــ 1950 ــ 1952 مئة وخمسةُ آلاف يهوديّ مهاجرين إلى إسرائيل، بعد أن أُسقطت عنهم الجنسية العراقية. وظن المتبقون أن هذه العملية ستسهم عند انتهائها في تهدئة النفوس وتقليل التوتر الذي ساد بين أبناء الطائفة. وليس بحوزتنا معطيات دقيقة حول عدد اليهود الذين بقوا في العراق إثر الهجرة الجماعية، وقد ظهرت نشرات وتقديرات مختلفة من شتى المصادر. وهكذا، على سبيل المثال أفادت ــ الوصاية على أملاك اليهود ــ في شباط 1952، أنّ عدد اليهود الذين بقوا في العراق يبلغ أثنا عشر ألف نسمة، بينما يقدر مئير بصري الذي يُعدّ من وجهاء الطائفة وممن تولى رئاستها في السنوات من 1971 ــ 1974، أن عدد اليهود الذين بقوا في العراق بعد الهجرة الجماعية بحوالي عشرة آلاف نسمة. وفي مقابل هذه التخمينات، كان هناك من قدَر عدد اليهود ما بين خمسة آلاف إلى ستة آلاف نسمة. وهكذا، مثلا أفادتْ ــ وكالة الأنباء العراقية ــ في شهر مايس 1952 استنادا إلى محافل رسمية، أن عدد اليهود الذين حافظوا على جنسيتهم العراقية لا يزيد عن ستة آلاف نسمة،بينما وصل عدد اليهود في العراق في الإحصاء السكانيّ الذي أجري في العراق عام 1957، 4906 فراداً ينتمون إلى 1336 عائلة أغلبها، ما يقارب 936 اسرة يقدر عدد أفرادها بحوالي 3634 نسمة يسكنون في العاصمة بغداد. كذلك يُشيرُ ــ الدليلُ العراقيّ ــ الصادر في سنة 1960 إلى أنّ في أعقاب ــ قانون إسقاط الجنسية ــ والقوانين والتعديلات الصادرة في أعقابها، ظل في العراق حوالي خمسة آلاف يهودي معظمهم أقاموا في العاصمة بغداد. وسكن بعضُهم حوالي 300 نسمة في الميناء الجنوبيّ البصرة، وما يقارب 80 نسمة في محافظة الديوانية، وقليل منهم في مدينة العمارة.
قبل الهجرة
وخلافا للوضع السائد قبل الهجرة الجماعية لم يقطن اليهود في أحياء يهودية منعزلة، بل قطنوا في أحياء مختلطة. وتركزت الغالبية العظمى المقيمة في العاصمة، في منطقتي العلوية والمسبح اللتين كانتا تعدان من مناطق بغداد العصرية. وتجرّأ عدد منهم على الانتقال والسكن في الضواحي التي لم يسكنها اليهود قبل ذلك. وكتب مئير بصري، إنّ غالبية المتبقين عُد من كبار موظفي الحكومة السابقين، أصحاب الأملاك، كبار التجار، أصحاب الشركات والمشاريع الذين وضعوا معهم شركاء مسلمين ومسيحيين. ومع ذلك، فقد أضاف أنه بقي كثير من الفقراء، المعوقين والمحتاجين الذين يحصلون على مساعدة من الطائفة أيضا.
أجري في سنة 1964 إحصاء رسميّ، بلغ وفقه عددُ اليهود حوالي 2974. وينبع الانخفاض في عدد اليهود خلال تلك السنين من سببين أساسيين هما الأول مصدره يكمن في سماح السلطات العراقية بعد زمن قصير من انتهاء عملية عزرا ونحميا، بإصدار جوازات سفر لليهود الراغبين بمغادرة العراق، عبر الحدود المحددة، واستغل معظم اليهود ذلك إذ غادروا العراق بجوازات قانونية ولم يعودوا إليه. أما السبب الثاني فهو إلغاء الجنسية العراقية عن السجناء اليهود، الشيوعيين أو الصهاينة الذين كانوا رهن الاعتقال أو السجن، بعد أن أمضوا مدة حكمهم. وقد تضمن هذا الصنف، اليهود الذين تركوا العراق ولم يعودوا إليه في الموعد الذي حدّده القانون أيضا. وتجسّدتْ سياسة ُ ــ عزل ــ اليهود في سلسلة من القوانين والإجراءات التي اتخذتها السلطات وسنشير هنا إلى بعض الأمثلة فقد نشرت الحكومة العراقية في شهر حزيران 1951 تعليمات حدّدتْ أنّ اليهوديّ الموجود خارج نطاق العراق ملزم بالعودة إليه خلال ثلاثة أشهر، وفي خلافه ستسقط عنه الجنسية العراقية وتصادر أملاكه. وأعلنت الحكومة العراقية في شهر كانون الأول من السنة ذاتها لأمانة الجامعة العربية أنّ اليهود العراقيين الموجودين في الدول العربية قد أسقطت عنهم جنسيتهم ويتوجب معاملتهم وفقا للقانون الدوليّ، باستثناء أولئك المطلوبين من السلطات القضائية في العراق الذين ينبغي تسليمهم في الحال. قبل ذلك، قدمت سوريا طلبا إلى الحكومة العراقية بشأن مصير خمسمئة يهوديّ عراقيّ يسكنون مدينة حلب السورية منذ سنة 1936.
وأبعد في شهر مايس 1952 ثلاثون يهوديا وقد وصفتهم وكالة الأنباء العراقية بأنهم من أصحاب السوابق الجنائية إذ تنازلوا عن جنسيتهم.
ونشرت الصحافة العراقية في الوقت ذاته أنه أبعدت أربع وخمسون اسرة يهودية من حملة الجنسية الأجنبية، وتجري الترتيبات لإبعاد ثلاثين عائلة أخرى.
وضغطت طوال الوقت الأوساط القومية المتطرفة وصحفها لتوسيع دائرة المنضمين إلى صنف فاقدي الجنسية. وهكذا، على سبيل المثال نشرت صحيفة اليقظة في العاشر من تشرين الأول عام 1952، خبرا طالبت فيه سلطات الأمن العراقية من وزارة الداخلية إسقاط جنسية اليهود الذين لم يتنازلوا عن جنسيتهم العراقية إثر هجرة أقربائهم إلى إسرائيل وطردهم من العراق.
وذكرت إذاعة بيروت في الرابع من كانون الأول عام 1952 أنّ جنسية اليهود الذين اعتقلوا زمن الاضطرابات الأخيرة ستسقط عنهم وسيطردون من البلاد. وطبقا لإحصاء أورده أحد الاستطلاعات، بلغ عدد اليهود الذين هاجروا من العراق إلى إسرائيل في سنة 1953، 413 شخصاً. استمرت السلطات العراقية في السنوات التي أعقبت ذلك بسياسة عزل اليهود، وعلى هذا النحو أسقطت الجنسية عن سبعين يهوديا عراقيا غادروا العراق بشكل قانوني ولم يعودوا خلال المدة المحددة في القانون.
وذُكر في شهر حزيران عام 1953 أنّ الحكومة درست مقترحا لإسقاط الجنسية عن الشيوعيين الموجودين في السجن ؛ ويبدو أن النقاش حول هذا الموضوع قد أجري قبل مدة طويلة من ذلك. يظهر هذا الاستنتاج مما ذكر في الصحافة قبل ذلك بحوالي شهر ونصف بغية إسقاط الجنسية عن ستة وستين سجينا يهوديا شيوعيا. وعُدت مع أولئك السجناء يهودية تدعى ايلين يوسف التي قدمت دعوى قضائية ضد رئيس الحكومة، وأصدرت محكمة من المرتبة الأولى أمرا بإعادة الجنسية العراقية لها.
إطلاق سراح
أعلن وزيرُ الداخلية العراقيّ في الثامن من شهر أيلول عام 1953، أنه تقرر منح المدانين بجرم اعتناق الشيوعية الذين أطلق سراحهم أو الموجودون رهن الاعتقال والمعنيين بالاحتفاظ بجنسيتهم العراقية مدة شهر آخر من أجل التوقيع على تصريح تعهد بالتخلي عن مبادئهم. وقد تم استلام نحو خمسمئة تصريح، وأطلق خلال شهري تشرين الثاني وكانون الأول سراح عشرات الشيوعيين ولم يشر فيما إذا كان المقصود بذلك يهودا الذين وقعوا على تصاريح إنكار الشيوعية. وأسقطت عن الآخرين جنسيتهم العرقية جراء التجاوز على القانون الجزائي وبسبب محاولات مغادرة العراق بشكل غير قانوني وترويج أفكار صهيونية التي تعد معارضة للسلطة ولأسس المجتمع والمسجونين طبقا للقانون. وأعلن وزيرُ الداخلية في شهر كانون الثاني 1955، في مجلس النواب أنّ قانون إسقاط الجنسية يسري على اليهود الذين سيحاكمون بجريمة الانتماء إلى الحركة الصهيونية. أعلنت في شباط من السنة ذاتها ممثليات العراق في جميع الدول العربية وفي لندن، أنه على جميع اليهود العراقيين الذين غادروا العراق منذ بداية كانون الثاني 1948، العودة إلى العراق خلال شهرين وبخلاف ذلك تسقط عنهم جنسيتهم العراقية. وذُكر في شهر تشرين الثاني أنّ الحكومة قرّرتْ إلغاء الجنسية عن مئة وواحد وأربعين يهوديا، غادر بعضهم العراق بإذن بيد أنهم لم يعودوا إليه خلال مدة الغياب المسموح بها، وغادر البقية العراق بطرق غير قانونية. وتمّ تجميد ممتلكات أولئك اليهود. وأعلنت إذاعة الشرق الأدنى في التاسع من حزيران 1956، عن طرد ثلاثة يهود إلى قبرص بعد أن أمضوا مدة سجنهم وبعد أن أسقطت الجنسية العراقية عنهم. وقبل ذلك بعدة أيام، نشر في الخامس من حزيران خبر في صحيفة الشعب حول طرد ستة سجناء يهود إلى قبرص حُكموا في سنة 1951 لمدة خمس سنوات حبسا.
استمرت السلطات في حقبة حكم عبد الكريم قاسم، بسياسة إبعاد العناصر المعادية عن الحدود العراقية. وبعد حوالي شهر من إسقاط نظام الحكم الملكي، انتقلت في شهر آب 1958 مجموعة من السجناء السياسيين اليهود من العراق إلى إسرائيل. وقد أطلق مجلس الثورة سراحهم وسمح لهم بمغادرة العراق بعد أن تنازلوا عن جنسيتهم العراقية.
في مقابل ذلك، سُمح لأكثر من 450 يهوديا طردهم نوري السعيد 1888 ــ 1958 بالعودة إلى العراق وفقا للقانون الجديد، الذي نشره الزعيم عبد الكريم قاسم إذ يحدد إعادة جنسية هؤلاء اليهود وممتلكاتهم.
وبعد الإطاحة بعبد الكريم قاسم واعتلاء عبد السلام عارف السلطة 1963 ــ 1966 ، اتخذت السلطات إجراءات حكومية ضد اليهود كان أبرزها إلغاء الجوازات العائدة لليهود وعدم إصدار جوازات جديدة لهم، وكانت أبواب المغادرة القانونية في شهر كانون الثاني 1964 مغلقة أمام اليهود. وبعد انتهاء عملية عزرا ونحميا قللّتْ السلطاتُ العراقية بعض الشيء من ضغطها على الطائفة اليهودية ــ فقد رُفعت بعض القيود واستطاع اليهود العمل وإدارة أشغالهم وممتلكاتهم؛ كذلك سُمح بمغادرة العراق بشرط العودة إليه خلال ستة أشهر من يوم مغادرتهم؛ وتلقت ممثليات العراق الدبلوماسية تعليمات للاهتمام بشؤون اليهود الذين سكنوا خارج العراق وتجديد جوازات سفرهم. كما أن منع قبول اليهود في مؤسسات التعليم الرسمية التي كانت تحت سيطرة وزارة التعليم العراقية، ذلك المنع الذي كان قائما منذ سنة 1948 بقي نافذ المفعول، وكان تعليل السلطات لذلك المنع مثلما جاء في حديث مئير بصري، لكي لا يؤهل العراق العربيّ مثقفين من أجل إسرائيل . وظلّ هذا المنع نافذا حتى إسقاط النظام الملكي في ثورة تموز 1958.
ثورة عبد الكريم قاسم
بدأت المعارضة للسلطة الهاشمية في العراق ولمجموعة السياسيين المؤيدين لها، في الحال بعد قمع تمرّد رشيد عالي الكيلاني في مايس ــ حزيران 1941. وأدتْ هزيمة الجيش العراقي من لدن البريطانيين وإعدام عدداً من جماعة الضباط الذين قادوا التمرد، وكذلك اعتقال المئات من اتحاد القوميين المؤيدين للتمرد ووضعهم في معسكرات الاعتقال حتى انتهاء الحرب العالمية الثانية، إلى تنامي العداء لنظام الحكم الهاشميّ ولرؤسائه. واتسع هذا العداء وتعمق في أعقاب الحرب العالمية الثانية، عندما تقوّض الوضع الاقتصاديّ العراقيّ وأخذت الهوة بالاتساع بين رؤساء نظام الحكم والطبقات الاجتماعية المهمة وبالذات أفراد الطبقة الوسطى والدنيا.
وأستغلّ معارضو نظام الحكم من اليسار واليمين، عدم الارتياح السائد بين تلك الطبقات، وقد تجسد ذلك في سلسلة مظاهرات ضدّ النظام وصلت إلى ذروتها في المظاهرات التي خرجت ضد معاهدة بورت سميث التي عرفت باسم الوثبة التي جرت في كانون الثاني ــ شباط 1948، إذ عرَضت وجود النظام للخطر. وينبغي أن نضيف إلى ذلك الترسبات السلبية والمرارة الناجمة عقب الهزيمة التي لحقت بالجيوش العربية في حربها ضد إسرائيل في عام 1948، التي شارك فيها الجيش العراقي أيضا.
وصل الوضع إلى حدّ الغليان، وحدث الانفجارُ في أواخر شهر تشرين الأول سنة 1952. ونشبت في بغداد خلال شهر تشرين الثاني إضرابات ومظاهرات صاخبة، امتدت إلى جميع المدن العراقية وشملت أوساط واسعة من معارضي نظام الحكم اليساريين واليمينيين. وُسمعت للمرة الاولى في تلك المظاهرات هتافات لإسقاط نظام الحكم الملكي. وانهارتْ مرة أخرى المعارضة لنظام الحكم خلال سنة 1955، عندما وقَع العراق في الرابع والعشرين من شباط 1955 على معاهدة الدفاع مع تركيا، التي تعرف بتسميتها غير الرسمية حلف بغداد . وسبًبت حرب السويس التي اندلعت في تشرين الأول 1956، في حدوث أزمة أخرى أخطر، عرًضت نظام الحكم للخطر؛ واستمر عدم الهدوء الذي ساد في أعقاب أزمة السويس حتى نهاية عام 1956. وقُتل في الثاني والعشرين من شهر تشرين الثاني من السنة ذاتها خلال المظاهرات التي جرت في بغداد، عدةُ طلبة ومتظاهرون وجُرح حوالي خمسون شرطيا. أقام معارضو نظام الحكم من اليسار واليمين في أواخر شباط سنة 1957، إطارا لتنسيق النضال ضد نظام الحكم الذي عُرف بسم جبهة الاتحاد الوطني التي كانت تتألف من الحزب الوطني الديمقراطي برئاسة كامل الجادرجي، حزب الاستقلال الوطني، حزب البعث والحزب الشيوعي، التي وضعت هدفا لها هو إسقاط نظام الحكم.
الضباط الأحرار
في المقابل وبشكل منفصل عن التنظيمات السياسية على المستوى المدني، انتظمت داخل الجيش العراقي مجموعات من الضباط التي ساد بين أغلبها عدم الرضا ولاسيما يوجد بين أولئك منْ عُد أصلهم ضمن الطبقة الوسطى والدنيا. لم يكن أولئك العسكريون من الناحية الإيديولوجية، الذين عرفوا بوصفهم ضباطا أحرارا معمولين من معدن واحد، كشأن الكتل التي تألفت منها جبهة الإتحاد الوطني ، كذلك وجد بينهم منْ يحملُ وجهات نظر إيديولوجية تتعارض مع وجهات النظر التي شاعت بين أعضاء آخرين. وكان من المزمع أن يعرب أولئك المعارضون في حقبة حكم عبد الكريم قاسم عن نضالهم المرير الذي أثرت نتائجه، في نهاية الأمر في العلاقة مع اليهود. وكان من بينهم منْ هم متأثرون بأفكار ليبرالية وقدموا تعاطفهم مع الحزب الوطني الديمقراطي الذي أسس في سنة 1945 وترأسه زعماء سابقون من جماعة الأهالي التي كان التعاطف مع اليهود مرتبط بهم. وكان في مقابلهم، آخرون نادوا بأفكار موالية للعرب أو موالية للعروبة على صيغة حزب البعث الذي ينادي بالاشتراكية العربية أيضا. وكانت هناك مجموعة أخرى خاضعة للنفوذ الشيوعي، التي عُرفت حتى الهجرة الجماعية بأعضائها اليهود الذين كان تأثيرهم كبيرا فيها. لذلك، فمن غير المفاجئ حينما ينقسم الضباط الأحرار إلى جماعات سرية، إذ أوجدت كل مجموعة اتصالات مع زعماء سياسيين يتمسكون بإيديولوجيات مماثلة لإيديولوجياتهم. كذلك انعكس هذا الانقسام على اللجنة العليا التي قادت الضباط الأحرار عشية الثورة.
عبد الكريم قاسم وجماعة الأهالي
بادر قاسم شخصيا، الذي لم يكن نفسه مقتنعا جدا بالعلاقات المتكَونة بين الضباط الأحرار والسياسيين، بإجراء اتصالات، بواسطة رجل الاتصال، مع حسين جميل سكرتير الحزب الوطني الديمقراطي ، وذكر له أن الضباط الأحرار يخططون للقيام بثورة، وهم ينوون بعد ذلك تسليم السلطة إلى رؤساء الأحزاب المعارضة، وأن قاسم يرغب بنصيحة الحزب وتعاونه. وتكوَنت بعد ذلك علاقة عن طريق نائب رئيس الحزب، بين قاسم والجادرجي رئيس الحزب، الذي كان آنذاك رهن الاعتقال في السجن. كذلك بادر قاسم في ربيع عام 1957 بإقامة علاقات غير رسمية مع الحركة الشيوعية عن طريق نائب الزعيم وصفي طاهر. لقد تكوَنت هذه العلاقة، بحسب أقوال مراد العماري، بواسطة الصحفي اليهودي نعيم صالح تويق 1916 ــ 1989 ، صديق وصفي طاهر. وطلب طاهر من تويق أن يخبر كامل الجادرجي بأمر تنظيم الضباط الأحرار ، وإخباره أنه توجد بين الاثنين صداقة وتعاون أقيمتا منذ الثلاثينات، حينما عملا معا في إطار جماعة الأهالي ، واستمرا بعد ذلك عندما أسس الجادرجي الحزب الوطني الديمقراطي . يرتبط ميل قاسم ل الحزب الوطني الديمقراطي ولترأسه ل جماعة الأهالي ، المذكورة وبغية فهم وجهات نظر قاسم وتعامله مع مشاكل العراق واليهود، ينبغي العودة إلى الثلاثينات واستعراض تاريخ الجماعة باختصار وتأثيرها في قاسم.
/6/2012 Issue 4237 – Date 28 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4237 التاريخ 28»6»2012
AZP07